تعدد الثقافات في “رقصة الماء”




د. علياء الداية*

(ثقافات)


روايات روسية كثيرة معاصرة أخذت تدخل حيّز الترجمة إلى اللغة العربية، ومنها “رقصة الماء” لسيرغي كوزنيتسوف، الرواية التي صدرت حديثاً عن الدار العربية للعلوم ناشرون في بيروت، وترجمها عن الروسية الدكتور فؤاد المرعي، وهو الذي خاض غمار الترجمة منذ عقود وقدّم للمكتبة العربية الكثير من كلاسيكيات الأدب والثقافة الروسية.
وفي “رقصة الماء” يلفت الانتباه الحجم الكبير من تمازج الثقافات، من خلال أجيال الماضي والحاضر، وبوجود شخصيات وسيطة لتنقل إلى المتلقي صورة من الواقع المباشر، المغلف بتقنية روائية تخفف من وطأة الجمال فيه والقبح في آن. 
من خلال تأمل الرواية نميّز فيها محورين رئيسيين، وقصصاً متنوّعة تتوازى مع أحدهما، لتلتقي الأحداث بحسب مصادفات الشخصيات. المحور الأول هو شخصية “نيكيتا”، والثاني هو شخصية أخيه “موريوخوف”. وهنا يتوافق المؤلف كوزنيتسوف إلى حد ما مع الأسلوب الكلاسيكي في الأدب، كما في رواية “القرية” لإيفان بونين، حيث نجد محورين هما الأخوان تيخون إيليتش وكوزما، أحدهما يمثل النجاح والقوة، والآخر ضياع الأحلام والعيش على هامش الحياة. كما يلتقي كوزنيتسوف مع دوستويفسكي في حرصه على تعزيز الأجواء النفسية لدى أغلب أبطاله. ولكنّ “رقصة الماء” لا تتيح للشخصيات فسحة من انسياب مساءلة الذات والغوص في أعماق النفس، ففي اللحظة الحاسمة، يقطع الروائي سرد الشخصية، والمناجاة الذاتية، ليضع أمامنا صورة مختلفة، ويزج بالقارئ في أزمةِ شخصية ثانية مقابلة. وثمة ملمح مهم يتشابه مع خطاب عطيل المشهور في مسرحية شكسبير، إذ يقف نيكيتا داخل الكنيسة، في لحظات نادرة يتأمل فيها حاله، ويقترب من مرحلة الوعي الذاتي، ومساءلة الواقع في مشهد مكثّف عابق بالمعاناة الذاتية والحيرة والألم. 

1 ـ الثقافة السينمائية: 

أولى مظاهر تواصل الثقافات في “رقصة الماء” تبدو من خلال الثقافة السينمائية، فالبطل “موريوخوف” رجل متوسط العمر، كان فناناً في شبابه، كاد يحرز النجاح وشيئاً من الشهرة، ولكنه انساق وراء السّكر واستسلم للأوهام والكسل، ولا تظهر في الرواية أسباب محددة لإخفاقه، بل تركز الأحداث على كيفية هذا الضعف، وطريقة حياته البائسة. ومن المثير للانتباه أن “موريوخوف” يدور حول الثقافة السينمائية، وكثيراً ما يقيّم كل ما حوله من منظور سينمائي مقارن. فهذه المرأة أو تلك تشبه الممثلة “ميغي تشون”، وهذا الموقف أو ذاك يشبه ما حصل في فيلم ياباني، أو كوري، أو من هونغ كونغ، و”موريوخوف” لا يكلّ من إيراد أسماء نماذج الأفلام التي شاهدها على مسامع كل من يلتقي به، حتى وهو في حالة من السكر، أو أثناء مناجاته لنفسه، “موسكو، لقد أردت أن أكون آخر عربيد، سكير، يدفئ يديه المتجمدتين بنارك الخالدة. أردت أن أغوص في جحيمك ربّاً أسطورياً للأعماق لا منشداً عذب الصوت، ولكن قوة مجهولة كانت تشدني في كل مرة، كغواص في فيلم قديم يرغم نفسه على الصعود إلى السطح كلما رأى عرائس البحر.”
ومن جهة أخرى فإنّ الروائي نفسه “سيرغي كوزنيتسوف” يكتب روايته ببُعد سينمائي، وطريقة تصويرية كأنه يحمل آلة التصوير معه من مكان إلى آخر، فتارة يركّز على شخصية الجد، ثم ينتقل إلى الحفيد، وفجأة يضع أمامنا فصلاً جديداً تدور أحداثه في ساحة معركة في قرية نائية. وهو يدرج عناوين الفصول، بما يبين عام الأحداث، أو أهمّ ما يرد فيه: “ليلة قلقة/ الحق في استخدام العنف/ لقد كنا شباباً ذات يوم/ عام 1942 تستيقظ في الصباح نشيطاً/ الوقت لا يكفي/ عام 1937 البيت الخالي أو الغوص تحت الماء/ من تحت الماء المعتم/ لا أصدقاء ولا أعداء/ الجميع أعجبتهم أشعاري/ عام 1982 سرّ غير حربي”، وتتوزع الرواية على 108 مئة وثمانية فصول تشغل حوالي خمسمئة صفحة. ولعلّ هذه التقنية تجعل من “رقصة الماء” حيوية ومعاصرة، بما يخرج على نمطية السرد الحكائي، وفي الوقت نفسه تنقذها من مطبّ التقسيم الواضح إلى فصول مرتبة بحسب الزمن. 
ومن الطريف أن روح السينما ترافق الرواية حتى في صوت الراوي أثناء حوار الجنود وأجواء القتال: “لا تبتئس، ـ قال بريسوف. ـ “من يدري كيف ستسير الأمور؟ نحن، باختصار، سبعة، ورجال العصابة قرابة الثلاثين. ولكننا نتفوق عليهم في كوننا نملك الوقت، ونعرف بقدومهم أما هم فلا يعرفون عنا شيئاً. سأتحدث إلى العمدة، ثم نناقش خطتنا”. أظنكم تعرفون هذا الموضوع: قرية صغيرة، سبعة رجال، فلاحون جبناء قليلاً، هجوم عصابة. من المؤكد أنكم رأيتم ذلك في السينما ـ في هذا الفيلم أو ذاك.” 
وكأنّ “كوزنيتسوف” في تقنيته السينمائية يعكس في روايته واقع الحياة المعاصرة التي تتكون من دقائق ومشاهد وتفاصيل متناثرة، فالحاضر منقطع عن الماضي بأشواط، وهو لذلك لا يظهر متصلاً ومستمراً في الرواية، بل بهيئة فصول ومقاطع، والمطلوب من المتلقّي استيعابها لجمعها ذهنياً فيما بعد، حين تكتمل الصورة مع الشخصيات المعاصرة التي تتّصل وراثياً مع الأجداد والآباء في الماضي. أما الزمن الحاضر نفسه، فهو يتّسم بالتشظّي، لكلّ شخصية عدّة تجليات، وهي شخصيات متعدّدة الحضور بأشكال متنوعة تتعدى الدور الاجتماعي إلى الضياع الفردي في المجتمع المنفتح على كل ما حوله. فـ”موريوخوف” متوزّع بين أحلام الماضي التي تتداخل مع هذيان الزمن الراهن، وعلاقاتُه مع الناس عبارة عن تهيؤات وحوارات في الفراغ، أغلبها تخيُّلات يُدخل عليها ما يشاء من تصورات وأوهام. أما أخوه “نيكيتا” فهو على العكس، مغرقٌ في ارتياد الواقع، فهو زوج، وعشيق، ورجل أعمال، وحائر لا يعرف كيف يكون شكلُ مستقبله، ولكنه مرغم على التفكير فيه بحكم حياته المشتركة مع زوجته “ماشا”، وإمكانيات الثراء السريع التي يعرضها عليه صديقه “كوستا”. 
كلما ازداد المتلقي قرباً من الزمن الحاضر يزداد تشتت حيوات الشخصيات في صور ومشاهد متشابكة، ومنها “آنيا” و”ريما”، لكلّ منهما حياة مضطربة، وهما تراقبان صخب الحياة من دون القدرة على اتخاذ قرار محدد يجمع بين تحولات شخصيتيهما وتحولات الزمن وشخصياته المحيطة بهما. أما النماذج الأكثر بعداً في الزمن فهي تتسم بالاستقرار والثبات، مثل شخصية الجدّة “جميلة”، والجدّ الذي آثر الانتحار حين عجز عن مجاراة العصر، فهو ثابت والعصر متغيّر. ومثل شخصية “غريغوري بوريسوف” الذي انقلب على القسم السابق من حياته، وتواءمَ مع ثقافة حياته الجديدة السوفييتية سياسياً واجتماعياً، وتمكّن ـ وإن بصعوبة ـ من اللحاق بركب الزمن. 
إنّ سرعة العصر أكبر من سرعة الشخصيات في التكيف معه، فمدينة “موسكو” تمكنت في الرواية من استقبال ثقافات عديدة من مختلف أنحاء العالم، ولكن العصر بقي ضمن الإطار السطحي الأوّلي، ولم تتمكّن الشخصيات من النفاذ إلى عمقه والتفاعل معه حضارياً، “موسكو لا تثق بالدموع، لا تثق بالمطر والثلج، بالحر والبرد. هي لا تثق إلا بباحاتها الخضراء، وخطوط الحافلات الكهربائية، وبناطحات السحاب السبع على الهضاب السبع، وبنجوم الكريملين في الليل؛ لا تؤمن إلا بما يدوم طويلاً. هي تؤمن بالقدر، لأن المقدّر سيتحقق سواء آمنت به أم لم تؤمن، إنه كسؤال الجدة الذي لا يحتاج جواباً، حتى لو كان جوابك صحيحاً بالمصادفة.”
لقد كانت الثقافة السوفييتية تتجه من الداخل إلى الخارج، ولذلك تكيّفت شخصيات الماضي مع الداخل، على الرغم من كونها أحياناً ضحية للحروب والعنف، كما هما “بوريسوف” و”بافل”. أما الثقافة الجديدة في روسيا، فهي تتجه من الخارج إلى الداخل، الأمر الذي سبّب إرباكاً لدى أغلب شخصيات الرواية في عجزها عن استيعاب الداخل الذي أصبح مثقلاً بتأثيرات لم تجد الوقتَ ولا الظروف الكافية لذوبانها فيه، أو لتثبيت سمات ثقافية عميقة في التواصل بين الشعوب. إن الأمر يشبه ما يصوّره الراوي في حديثه عن أحواض السمك التي يعمل نيكيتا في تجارتها وتصميمها: “الزينة عند الآخرين مجموعة تقليدية من السفن الشراعية وكنوز القراصنة، أما عند نيكيتا فأحواض السمك تزدان برموز حضارات الشعوب، فيها مدن أسطورية غارقة، وحدائق صينية ويابانية، وآلهة هندية متعددة الأذرع وتماثيل جزيرة الفصح، فيها حتى كنائس روسية تم إغراقها… وهناك أيضاً آثار رومانية، ومآذن عربية، وآثار هندية.”

2 ـ الثقافة العالمية داخل موسكو: 

تحتفي رواية “رقصة الماء” بتعدد الثقافات داخل مدينة موسكو المعاصرة، ومن الجليّ وجود ثقافات وانتماءات بشرية متنوعة من المدن والقرى الروسية، ومن الجمهوريات والأقاليم المحيطة بالدولة الروسية، وهو أمر بات معتاداً بوصفه نتيجة للمسار التاريخي والاجتماعي الذي اتخذه انتشار الثقافة السوفييتية في القرن الماضي. ولكن المثير لاهتمام القارئ غير الروسي هو البروز الواضح لتفاصيل قد تبدو صغيرة، ولكنها تعكس الحضور الراسخ عصرياً للثقافات الآتية من نواحٍ متباعدة من العالم. ويمكن تفسير ذلك بأن موسكو كغيرها من العواصم العالمية، صارت محطة ومجالاً للتبادل التجاري ومن ثم الثقافي، ويبدو من خلال الرواية تمتع هذه العاصمة بالاستقرار الكافي حتى يتم استثمار رؤوس الأموال في مشاريع المفروشات والمطاعم على سبيل المثال، ولكن يظهر أيضاً من خلال تفاعل شخصيات الرواية مع هذه النماذج العالمية الحضور الاستهلاكي الكبير، وانتشار الثقافة الضحلة، حتى إنّ البُعد العميق الذي قد يظهر لدى شخصية مثل “نيكيتا” يتجلى بشكل أقرب إلى الوهم الذي لا يمكنه البتّ في كونه حقيقة أم تخيُّلاً.
فالثقافة اليابانية حاضرة في رواية “رقصة الماء” بصور عديدة، منها فيلم “المياه المظلمة” الياباني، الذي تقارن “آنيا” بينه وبين حالها مع ابنها “غوشا”، ومنها المقارنة بين مطعمين يابانيين ارتادهما رجل الأعمال “نيكيتا”، فالأول اسمه “مقهى آسيا” أمضى فيه بعض الوقت بصحبة عشيقته “داشا”، ويتسم بالبساطة في الطعام والنّدل وأغلب زبائنه من جيل الشباب. أما الثاني فهو مطعم ياباني فخم، حيث قائمة طعام غريبة وشراب الساكي، وحيث يلتقي نيكيتا بصديق طفولته رجل الأعمال “كوستا”. وعلى صعيد الأفلام السينمائية يبرز اهتمام كل من “موريوخوف” و”ريما” بالأفلام اليابانية، خصوصاً أفلام الرسوم المتحركة. أمّا نيكيتا نفسه، فهو يحدّث “داشا” عن المكان الغريب الذي وجده في فسحة مهجورة في موسكو؛ التمثال الياباني الذي يشبه قناع مسرح النو، وعن لقائه بالحارس الذي رفض بيعه التمثال. “داشا” تؤكد له أن ما رآه كان محض خيال: “ـ أتعرفين؟ ـ قال لداشا، ـ تعالي نذهب إلى ذلك المكان! لن يدهشني أن يكون باقياً على حاله./ ـ يا لك من غبي، ـ أجابت داشا. ـ لقد أزيل منذ زمن. إنه لم يوجد إلا لنصف ساعة، ومن أجلك أنت بالذات.” ولا يبدو على نيكيتا تصديق داشا ولا سيما أنها تبدو غريبة الأطوار أحياناً وخيالية التفكير. 
وبالتركيز على شخصية داشا، فإن اسم الكاتب البرازيلي “باولو كويلو” يرد مرات عديدة مقترناً بـ داشا، التي تهوى قراءة رواياته، وتنساق مع ما فيها من حدس وتوجه نحو المجهول، أما نيكيتا فلا تُظهر الرواية مدى ثقافته، ولكنه يبدو منتمياً إلى جيل آخر لا يمكنه تفهّم سبب إعجاب الشباب بكاتب كهذا؛ “ثمة عود بخور يحترق ببطء، وعلى حافة الطاولة كومة من الكتب المحمية بأغلفة ورقية. يوغا، كتب تنجيم، أسرار المندل، وهذا، ما اسمه… باولو كويلو./ ـ سيعجبك حتماً، ـ تقول داشا، ـ إنه كاتبي المفضل! خذه، اقرأه إذا أردت!” ثم يقول لنفسه: “لا ترتجي من فتاة كاتبها المفضل ـ باولو كويلو، أي خير…”
إن نيكيتا في مواضع عديدة من الرواية، يبدي تقبّله أو تعجّبه من ثقافات وفنون عديدة، في عبارات مقتضبة أحياناً، ومواقف موسّعة أحياناً أخرى، ولا سيما الثقافات الشرقية منها، فهو المستثمر في مجال صناعة أحواض الأسماك، يقوم بإنشاء تصاميم لقيعان هذه الأحواض، لتحاكي في مظهرها حضارات قديمة. وهو يتحدث أحياناً عن الموسيقا البلقانية أو الكلتية، ويتساءل عن الحضارة الهندية وتاريخ بوذا، وماهية قارة الأتلانتيدا المفقودة، وتظهر في بعض الصفحات العلامات التجارية الغذائية ذات الطابع العالمي الانتشار، من مثل شاي ليبتون وألبان دانون. 
ومع شخصيات من نوع مختلف، كـ”آنيا” و”أندريه” تظهر ثقافة استهلاكية تتمثل في منتجات شركة “إيكيا” السويدية للمفروشات، التي تعمل “آنيا” في أحد متاجرها في موسكو، حيث تتعلم الابتسام ترحيباً بالزبائن، وتستخدم هذه الابتسامة حين تحتاجها في أماكن متنوعة. أما ثقافات الشخصيات نفسها، فإن “آنيا” تقول بأنها ربع تترية. فجدّتها “جميلة” تترية، وكانت تعمل قناصة في الحرب أثناء شبابها، “كانت الجدة جميلة مشهور ة على طريقتها، وقد قالت أم آنيا لابنتها أن المصادفة حالت بين الجدة وبين حصولها على وسام البطولة (النجمة)… لقد كانت قناصة قتلت عدة مئات من الألمان، الأفضل طبعاً لو أنها ذكرت الرقم بدقة، ولكنها، على ما يبدو، لم تكن تعرف دائماً هل قتلت من قنصته أو جرحته فقط.”

3 ـ ثقافة الطبيعة والسفر: 

يشكّل المكان المفارق ثقافةً قائمة بذاتها في “رقصة الماء”، فخارج موسكو ـ المدينة التي تدور فيها أحداث الرواية المركزية، حيث يعيش نيكيتا وموريوخوف ـ ثمة أماكن كثيرة تتم الإحالة إليها داخل الرواية، سافرت إليها الشخصيات في زمن ماضٍ، أو عاش فيها الأجداد، أو سكنوا، أو قاتلوا، أو كانت مدناً وبلاداً مرشحة للهجرة إليها والهرب، وبعض هذه الأماكن معاصر يُقصد بهدف الترفيه وقضاء العطلة سواء لدى الشخصيات مترفة الغنى، أو الفقيرة. 
فمن خلال الصورة المجتزأة للمكان في الزمن الماضي، أو الشخصيات المقحمة في المكان الحاضر، تتضح المفارقة بين البؤس والسعادة، وبين الشقاء والرفاهية. إن المكان مشبع في الزمنين بالحالة النفسية لأبطاله، وهو في الأحوال جميعها مكانٌ موجود بحسب تصور الشخصية له، وكثيراً ما يؤدي دوراً في تغيّر مجرى حياة أبطال الرواية. 

القرم: 

تحظى منطقة القرم بحضور واسع في الرواية، فأغلب الشخصيات القديمة والمعاصرة ذهبت إلى القرم للاصطياف والهرب من طقس موسكو، وسعياً لعطلة خالية من المسؤوليات والعمل. بعض هذه الرحلات كان جزءاً من العلاقات الاجتماعية كما هي الحال في زواج نيكيتا وماشا، وبعضها كان ذا صلة بالقتال كما هي يوميات الجد الذي حارب في القرم مع الجيش، وبعضها الآخر كان مفعماً بالإثارة والمفاجأة والظواهر الغريبة التي بقيت سراً مجهولاً من دون تفسير، كما هو ذلك الجسم المضيء الذي برز من بين الأمواج ليلاً، على مرأى من الطفل أليوشا وصديقته آلا: “في عمق البحر الأسود العكر الضارب إلى الخضرة، لاح ضوء ضعيف عقيقي اللون. كان الضوء ينبعث من أسطوانة قطرها نحو خمسين سنتيمتراً وطولها يقارب التسعين سنتيمتراً. كانت الأسطوانة المضيئة ترقد بين صخرتين على عمق مترين تقريباً./ ـ أليوشا، ما هذا؟ ـ سألت آلا حين خرجا إلى الشاطئ لالتقاط الأنفاس./ ـ أظن أنه جهاز إرسال للتجسس، ـ قال أليوشا. ـ قرأت عن أشياء كهذا في “جريدة الطلائع”. / ـ وكيف وصل إلى هنا؟”

تركيا: 

كما هي الحال في القرم، كانت تركيا وجهة سياحية جرت عادة نيكيتا وماشا على ارتيادها سنوياً للسباحة في الصيف، وكذلك “لولا” التي قضت فيها بعض الوقت. وكان للاصطياف في تركيا الأثر الكبير الذي رسم وجهة حياة “آنيا” أثناء إجازتها، فقد كانت تحاول أن تتخفف من همومها ونمطية عملها بائعة في المتجر، وذلك بالسباحة في البحر في مختلف الأوقات، والسير على الرمال، والجلوس في المقهى متأمّلة الناس والأمواج والسماء. أما نيكيتا، فقد توقفت رحلاته إلى تركيا مع زوجته ماشا، حين صار واقع كونهما بلا أبناء يفرش بظلاله على حياتهما، ويقتل حالة الرفاهية، بحيث صارت الوجهات المقترحة للسفر قليلة ومرتبطة بمحاولات الحصول على علاج. 

ساحات المعارك: 

تبدو المعركة التي حصلت في قرية “كالِسْكُويَه” نموذجاً للتبدل والمفاجأة التي يمكن أن تعتري حياة المقاتل، فيجد نفسه أمام مبادئ متغيرة، وحقائق جديدة، حيث الموت هو المسيطر على المكان، وهو الواقع المرشّح للحصول، وحيث الحياة بعده موت آخر. إنّ كلمات الضابط “بريسوف” تخلد في ذهن الجندي: “أنا لا أحب القتل رغم أني عسكري محترف. القتل ـ فقدان إضافي للمادة البشرية. أنت، حين تقتل، لا تقتل شخصاً واحداً، هو عدوك. أنت تقتل أبناءه الذين لم يولدوا، تقتل كل ما كان يمكن أن يحدث في حياته ـ بما في ذلك المستقبل الذي تعيشون فيه الآن، وقد كففتم عن العداء فيما بينكم، وتدمّر أيضاً حياة زوجته وأطفاله. لذلك أنا لا أحب أن أقتل، فلكي تقتل ـ يجب أن تعرف لماذا.”ولا سيما أن الجندي سينجو من المعارك، ويجد نفسه قد ترك جيش القيصر المهزوم، وصار جزءاً من الوجود السوفييتي، ولكن بما يفارق واقعه السابق غير المأمون، وقد غيّر اسمه، لقد مات كل من كان معه في المعركة، وانطوت حياته القديمة.

باريس:

شخصيات معاصرة متعددة في الرواية قصدت مدينة باريس، للعمل في مجال الدعاية والإعلانات، فهي منفذ وواجهة إلى العمق الأوروبي، ولهذه المدينة حضور ثقافي كبير منذ حقبة روسيا القيصرية. وقد تحولت باريس لاحقاً إلى منفى لشرائح اجتماعية مختلفة، وكانت العودة منها إلى روسيا مخاطرة قد تعرّض صاحبها للشكوك، كما حصل مع الأميرة العائدة من باريس مع أمها وأختها. وبعض الشخصيات كانت تقصدها بهدف الترفيه والتسوق، كما هي زوجة “كوستا”، وكما سافر “نيكيتا” مصطحباً زوجته لعلها تتخلى عن كآبتها وأزمتها النفسية بتجديد المكان الذي كانت تحلم من زمن طويل بالذهاب إليه، وكان هو المنغمس في عمله وتجارته غافلاً عن إمكانية اللجوء إلى هذا الخيار. 

النهر و الماء: 

يبرز النهر محفّزاً للذكريات المحزنة لدى “بافل” العامل في السفينة “يصعد بافل إلى سطح السفينة، يشعل سيجارة. على الضفة اليسرى ـ ظلام دامس ـ لا قرى، ولا نيران يشعلها الرعاة، لا شيء. نهر الفولغا يبدو كبحر بلا ضفاف. وقد التمعت في سماء بلون الفحم الحجري كِسرة من القمر.” فمن خلال حركة السفينة والركّاب الذين يُمضون وقتهم على السفينة في نزهة، أو بهدف التنقل، يستعيد “بافل” أيامه القديمة، حيث كانت الحرب، والمجاعة، والموت الذي تربّص بأسرته، فلم يَبق أحد من إخوته. تغيّرت السفينة، والبشر، ولكن النهر بقي، وبقي معه الشقاء والحياة التي لم يعد “بافل” يستطيع أن يرى فيها سوى سباق الزمن الذي فاته. 
إن القتامة تحيط بالرواية على نحوٍ مائي، فـ”نيكيتا” يعمل في مجال استثمار أحواض أسماك الزينة، وقد سمح واقع تطور النمو الاقتصادي في مدينة مثل موسكو، في بدايات الألفية الثالثة، بظهور الكثير من مجالات التجارة الحرة، بعضها مشروط بعلاقات متشابكة على مستويات اقتصادية وسياسية، كما هي أعمال “كوستا” صديق نيكيتا، وبعضها قائم بذاته مادام لا يتخطى حدوده إلى ملايين الدولارات. ولكن على الرغم من نجاح نيكيتا في عمله، فإنه يعاني من كآبة في حياته اليومية، ويصاب أحياناً بالحيرة بين “ماشا” زوجته و”داشا” عشيقته. “كل امرأة ـ نهر، ولكن لم تكن داشا كذلك بالنسبة إلى نيكيتا، بل كانت مستنقعاً. لذلك كان حوض السمك أفضل هدية يمكن أن يقدمها لها. لقد فهم فوراً كيف يجب أن يكون شكل الحوض. بحيرة معتمة، حرج من الأشجار، قِرَمٌ، أغصان مهشمة، طاحونة مهجورة، أسماك من السوم أو الناليم. نعم، سيكون كالمستنقع.” 
وكثيراً ما يبدو الأشخاص أمام نيكيتا أشبه بالأسماك، كما أن كوابيس الماء تداهم “موريوخوف”: “الكل يعرف ما أخاف، ـ الجذوع المتعفنة، الأسماك، أيدي الأموات في القاع. لقد تحدثت عن هذا مئة مرة، وآن لكم أن تحفظوه عن ظهر قلب…أنا أخاف ألاّ أجد قرم الأشجار، والأسماك، والكائنات العجيبة حين أغوص مرة أخرى. أخاف أن تختفي… ها هي ذي ـ كائنات مائية مغطاة بالحراشف والطين، على رأسها قرون، ولها ذيول سمكية مزدوجة، تصعد من الأعماق مكشّرة عن أسنانها”. 
إن مفردات الماء والبحيرة حاضرة على مدار الرواية، لتكون ناظماً عاماً، وصولاً إلى المشهد الختامي الذي يمسك فيه الأبطال بعضهم بأيدي بعض، في ما يشبه رقصة ختامية حول الماء، ليرى كل منهم مصيره، ويكون مسؤولاً عن أفعاله، أو حالماً بالمستقبل. 

*** 
سيرغي كوزنيتسوف: كاتب روسي، ولد في موسكو عام 1966، ومع أواخر التسعينات أصبح رائداً في مجال نقد الأفلام والثقافة المعاصرة في روسيا، وأسهم بفاعلية في مجلاّت عالمية. حاز على عدة جوائز أدبية داخل روسيا وخارجها، وترجمت أعماله إلى لغات كثيرة. من أشهر مؤلفاته: حيوات موسكو، جلد الفراشة، أحياء وبالغون، رقصة الماء. 

الدكتور فؤاد المرعي: باحث سوري، وأستاذ في جامعة حلب. له مؤلفات عديدة في علم الجمال ونظرية الأدب والنقد، وترجمات كثيرة عن اللغة الروسية في حقول النقد والأدب والرواية وأدب الأطفال

* أديبة وأكاديمية من سوريا

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *