*حسن مدن
بداية علاقتي بأدب تشيخوف تعود إلى زيارة قمت بها، مطالع ثمانينيات القرن الماضي، لبيته الريفي في مدينة يالطا المنتجع الجميل على البحر الأسود، عاش انطون تشيخوف في بطرسبورج وفي موسكو، ولكنه ذهب الى الجنوب، الى يالطا، بحثاً عن الدفء ليساعده في العلاج من مرض السل الذي أنهكه وأودى بحياته باكراً في مصح في إحدى المدن الألمانية التي ذهب إليها جرياً وراء العلاج. ولكنه رحل مبكراً بعد أن عاش بالكاد أربعين عاماً ونيفاً فحسب، لكنه خلف وراءه تراثاً هائلاً، ثرياً من الفن القصصي والمسرحي الذي ستظل البشرية، في مختلف اللغات التي تقرأ وتتحدث بها تعود إليه.ثمة بقايا صور في ذهني عن هذا البيت البسيط والأنيق، الذي تحيط به حديقة صغيرة. هناك كتب تشيخوف بعض مسرحياته وقصصه ودوّن بعض رسائله ومذكراته. وما زلت أذكر ذلك الشعور المهيب الذي انتابني لحظتها، كأن أنفاس الكاتب الكبير الذي ما زال وسيظل يبهر العالم تدب في ذلك المكان.
بعد ذلك بنحو خمس سنوات، ستتيح لي سنوات الإقامة في موسكو فرصا لزيارة المتاحف والمسارح ودور العرض الفني، وفي ذهني تظل حاضرة ذكرى عروض الباليه الشهيرة، ومن بينها «بحيرة البجع» التي وضع موسيقاها العبقري تشايكوفسكي، وعلى خشبة مسرح «البولشوي» شاهدت عرض «تشايكا» (النورس) المأخوذ من نص تشيخوف المسرحي بذات الإسم.
ليس بعيدا عن مسرح «البولشوي»، يقع المسرح الصغير»مالنكي تياتر» الذي على خشبته قدمت مسرحيات تشيخوف الشهيرة، وبوسعك وأنت تتابع العرض أن تتخيل هذا الكاتب العظيم وهو يتابع من أحد كراسي هذا المسرح بروفات عروض مسرحياته التي كان يديرها صديقه المخرج ستانسلافسكي.
في السنة الثانية من وجودي في موسكو سألتقي بمعلمة اللغة الروسية للأجانب نتاليا بيتروفنا الآتية من مدينة اوديسا الأوكرانية، وهي إمراة ثلاثينية ذكية كتبت أطروحة تخرجها في كلية الآداب عن تشيخوف بالذات، والى هذه المراة يعود الفضل الأكبر في أنها أخذت بيدي إلى عالم هذا المبدع، واقترحت علي البدء بقراءة قصته:»حكاية رجل مجهول».
تعلقت بأدب تشيخوف، ومع الوقت أدركتُ أننا نعود إليه عندما نضجر، وعندما نفرح، عندما نحب، أو حين يسود الروح الجفاف. تشيخوف صديق الكتابة والقراءة ورفيق الروح. وما زلت أحرصُ على أن أضع مجلدات أعماله من قصص ومسرحيات في مكان قريب من اليد والعين، أقرب مكان يمكن أن أصل إليه في مكتبتي بدون بذل أي جهد في البحث والتذكر. يمكنني القول إن عيني تقع على مكان هذه المجلدات كل يوم، حيث بوسعي أن أمد يدي ساعة أشاء للعودة اليه.
فيه شيء فريد، ومن الصعب وصف هذا الشيء ومن الصعب أكثر وصف تفرده، لكنني أظن أن الأمر يكمن في تلك البساطة المتناهية التي يكتب بها مسرحياته وقصصه، لكنها بساطة خادعة، انها تنم عن عمق قلَّ نظيره، لأنه يكتب ببساطة، بعفوية، بتلقائية لدرجة توهمك لوهلة أنك قادر على ان تكتب مثله، تقول مثله، ولكن هيهات، مبهر تشيخوف في مقدرته الفائقة على وصف العادي، الرتيب، الممل، على وصف الحياة من دون خوارق ومن دون معجزات، لكنه قادر على أن يجعل من هذا العادي أدبا جميلا.
مواطنه مكسيم غوركي أوجز بعبارات بليغة مشاعرنا نحن القراء تجاه كتابة تشيخوف: «عندما تقرأ قصص أنطون تشيخوف تحس وكأنك في يوم حزين من أيام أواخر الخريف، عندما يكون الهواء شفافاً للغاية، وتبرز بحدة معالم الأشجار العارية والبيوت الضيقة والناس الرماديين. كل شيء غريب، وحيد، جامد، عاجز، أما الآفاق الزرقاء البعيدة فتبدو خاوية، وعقل الكاتب كشمس الخريف يضيء بوضوح قاس الطرق المكسرة والشوارع المتعرجة».
يفعل تشيخوف بنا أكثر مما ذكره غوركي. ليست الطرق المكسرة وحدها ما يضيئها عقله. إنه يضيء دروب الروح، على مهل وبمنتهى العفوية والتلقائية يمسك بأيدينا إلى ما في هذه الروح من مجاهيل. حتى في شجن الكتابة يبعث في أرواحنا الفرح والدفء والطمأنينة. معه نشعر أننا بتنا نعرف أنفسنا بصورة أفضل.
في قصته: «القبلة» لم تستغرق القبلة الخاطفة التي باغتت بها امرأة مجهولة الكابتن سوى ثانية أو ثوانٍ معدودة، حدث ذلك في الظلام وبسرعة خاطفة، انتهت القبلة واختفت المرأة. هذا الحدث السريع، الخاطف، المباغت كومضة سريعة سيشغل الرجل فيما بعد أياماً وليالي. كيف يمكن لدقيقة واحدة، أو أقل من دقيقة، أن تشغل بال إنسان فيما بعد طويلاً، تقلب حياته رأساً على عقب. كان الرجل قد لاحظ أن رواية ما حدث لأصدقائه لم يستغرق منه أكثر من دقيقة: «قبلتني بسرعة في الظلام واختفت»، بذا كان ينتهي شرح أو وصف ما حدث، أما الموضوع فيكمن في ما يثيره من أسئلة في ذهن الرجل.
إلى هذا القصة بالذات عاد ريتشارد فورد الكاتب الأمريكي المعروف، وهو يحاول الإجابة على هذا السؤال اللافت: لماذا نحب قصص تشيخوف؟!، وفي إطار شرح تفصيلي لما يشكل الإجابة يقول الرجل أن سحر تشيخوف يكمن في كونه الكاتب الذي لا يقول كل شيء، ليس لأنه عاجز عن قول كل شيء وبسطه وتفصيله وإنما لأنه لا يرغب في ذلك، منطلقاً ليس فقط من صعوبة الإحاطة بكل شيء وإنما أيضاً لأنه يترك أبواب التأويل مشرعة أمام قارئه.
والحق أن تشيخوف يمكن أن يُقرأ، لا بل ينبغي أن يقرأ في كل الأعمار، ولكن العودة إليه في سن النضج تُكسب قراءة أدبه متعة إضافية. إن مهارة هذا الكاتب العبقري تكمن في مقدرته على الاحتفاء بالعادي، والروتيني، واليومي، لا بل بالضجر اليومي ليجعل منه أدباً. إنه يُدخل تفاصيل الحياة اليومية في السرد، ولكن ليس برغبة السرد وحده، لأنه يذهلنا بتلك المزاوجة الفذة بين التفصيلي، اليومي، البسيط وبين ما هو فلسفي ومجرد أو مطلق.
لذا فإن القول بأن تشيخوف كاتب الضجر أو التشاؤم فيه تجنٍ كبير على الرجل الذي أراد أن يقارب فكرة الشقاء البشري من زاوية ذلك التضاد المرعب بين ما يجب وما هو كائن، ليس في معاينات الحياة العامة فحسب وإنما خصوصاً في تمزقات النفس الإنسانية بين انحيازاتها العاطفية العميقة وبين سطوة الواقع وتجهمه وصرامة قواعده، على النحو المدهش الذي نلحظه في قصته العذبة «السيدة صاحبة الكلب» التي تروي قصة رجل وإمرأة «أحبا بعضيهما كشخصين قريبين جداً، كأهل، كزوج وزوجة، كصديقين رقيقين، وبدا لهما أن القدر نفسه قد هيأهما الواحد للآخر»، ولم يكن مفهوماً لماذا تكون الظروف مضادة لعيشهما المشترك، وكأنما كانا طائرين مهاجرين، ذكراً وأنثى، أمسكوا بهما وأجبروهما على العيش في قفصين منفردين.»، أو في تمزقات الطبيب اندريه بمفيتش في قصة «العنبر رقم 6»، أو في قصته «العطسة» التي تحكي عن رجلٍ كان منهمكاً في متابعة العرض المسرحي، يراقب بغبطة وحماسة حركة الممثلين على الخشبة، حين دهمته رغبة قوية في أن يعطس، فأبعد النظارة عن عينيه، ثم استدار في كرسيه وعطس.
شعر بالحرج للصوت الناجم عن قوة العطسة، ولكنه واسى نفسه: لكل امرئ الحق في أن يعطس، كل مَن على هذه الأرض يعطسون، أهل المدن وأهل القرى، الأغنياء والفقراء، حتى النواب والوزراء.
لكنه لم يستطع مقاومة الرغبة في أن يلتفت حواليه، ليطمئن أن أحداً من الجالسين بالقرب منه لم ينزعج من عطسته، فوقعت عيناه على الشخص الجالس أمامه، وهو يمسح صلعته ورقبته بمنديل، متمتماً بكلمات غير مفهومة، وينظر إلى الخلف ليرى مَن الذي عطس.عرف صاحبنا أن الرجل الذي طاله رذاذ العطسة جنرال كبير، وهذا ما أوقعه في حرج شديد، ومال نحو الرجل مبدياً بكل ما أوتي من تهذيب اعتذاره عن عطسته.
رد الجنرال بكلمات قليلة مُهوّناً من الأمر، من دون أن يخفي علامات الامتعاض البادية على وجهه، ما حدا بصاحب العطسة أن يضيف: أرجو أن تغفر لي، فالأمر خارج عن إرادتي، فنهره الجنرال بأن يسكت، ويتركه يتابع العرض.
دهمهُ خجل إضافي، وعاد لمتابعة المسرحية، لكن القلق لم يغادره، وما إن أعلن عن فترة الاستراحة حتى تابع خطوات الجنرال، مقترباً نحوه، وبعد تردد، خاطبه متلعثماً: «لتغفر لي يا سيادة الجنرال، فلم أكن أقصد أن أسعل عليك»، فرد الأخير بأنه نسي الموضوع، وأن عليه أن يصمت وينسى الموضوع هو الآخر.
لكن الرجل لم يستطع تحمل النظرات الغاضبة للجنرال وهو يرد عليه بصرامة، وحين عاد إلى البيت قص على زوجته ما حدث، وسط لامبالاتها بما يقول، ولكنها ردت أخيراً بأنه من المناسب أن يعاود شرح الموضوع للجنرال تفادياً لسوء الفهم.
في اليوم التالي قصد مكتب الجنرال الذي كان يغص بالمراجعين، وما إن جاء دوره حتى بادر الجنرال بالقول: «هل تتذكر سعادتك ما حدث البارحة، حين سعلت من دون قصد.. إنني جئت لأعتذر مرة أخرى».
– «اخرج من هنا»، صرخ الجنرال وهو يهتز من شدة الغضب.لم يعرف الرجل كيف عاد إلى بيته، وألقى بنفسه على السرير بكامل ملابسه، وحين وجدت زوجته أن نومه قد طال، حاولت إيقاظه، لتفزع بأنه قد مات.
يظل تشيخوف عزيزاً علينا لأن المعضلات الأخلاقية والاجتماعية التي أثارها في ابداعه لم تفقد أهميتها. انه يذكرنا دائما بالقضايا الاساسية للوجود الانساني، يعلمنا التيقظ فلا ننسى أمرها في غمرة الروتين الحياتي المتدفق، وسط تفاهات الواقع المعاشي المعتاد. تشيخوف حي. انه يكافح معنا، على تحمل أعباء وتفاهات الحياة، ومن أجل أن تكون هذه الحياة أجمل، هو القائل: «لا ليس الإنسان إنما الجثمان هو الذى تكفيه من الأرض أمتار ثلاثة..أما الإنسان فهو بحاجة إلى الكرة الأرضية كلها…بحاجة إلى الطبيعة كلها..فهناك في اتساعها الهائل يستطيع كشف كنهه وميزات روحه الحرة!»
* جزء من ورقة قدمتها ضمن البرنامج الفكري لمعرض الشارقة للكتاب – 5 نوفمبر 2014
________
*جريدة عُمان