*أمير العمري
عرض في مسابقة الأفلام الروائية بمهرجان أبوظبي السينمائي فيلم “ذكريات منقوشة على الحجر”، وهو الفيلم الروائي الطويل الثالث للمخرج العراقي الكردي شوكت أمين كوركي بعد “عبور التراب” (2006)، و”ضربة البداية” (2009).
يدور موضوع الفيلم حول المصاعب التي تواجه مخرجا ومنتجا سينمائيين، يرغبان في إنجاز فيلم روائي عن حملة الأنفال التي نفذتها قوات نظام صدام حسين ضدّ الأكراد، التي يعتبرها الأكراد أنها أدّت إلى قتل 182 ألف كردي وتشريد ما يقرب من نصف مليون شخص، بعد تدمير حوالي ألفي قرية من القرى الكردية، وقد عدّت هذه العملية نوعا من أنواع الإبادة الجماعية في حق الأكراد.
يوفّر المنتج السينمائي “آلان” ميزانية محدودة لإنتاج الفيلم الذي سيخرجه صديقه حسين، بإمكانيات تقنية ضئيلة وباستخدام طرق بدائية، ولكن المشاكل التي تواجههما انحصرت في مشكلة واحدة بعد ذلك، هي العثور على ممثلة ترضى بالقيام بالدور الرئيسي كزوجة، لرجل تمّ اعتقاله وتعذيبه ثم قتل، كما تعتقل هي أيضا ويتمّ التنكيل بها.
بحث وتطوع
تتطوّع فتاة جميلة تدعى سينور، قتل والدها على أيدي قوات نظام صدام حسين، وهي الآن تقيم مع عمّها وولده الشاب الذي يطمع في الزواج منها، لكنها لا تحبه وتعلن رفضها له.
ولكن سينور لا يمكنها العمل في الفيلم قبل الحصول على موافقة عمّها المحافظ المتزمّت الذي يرفض منحها موافقته بشكل قاطع، ثم يبدأ المخرج في البحث عن ممثلة أخرى في الجانب الإيراني من كردستان للقيام بالدور.
لكن سينور تعود بعد أن تحصل على موافقة ابن عمّها إثر عقد صفقة معه، وافقت بمقتضاها على الزواج منه مقابل السماح لها بالتمثيل.
ومع ذلك، فإنه يشعر بالغيرة من مشاركتها في الفيلم، ويخلق لها الكثير من المشاكل ويعترض على مشهد تعذيبها أو اغتصابها، ثم يرفض العمّ زواج ابنه منها ويحرضه على تطليقها.
ولكن سينور مع ذلك لا تتخلى عن الفيلم، وتصل حماقة ابن العمّ إلى حدّ إطلاق الرصاص على المخرج وإصابته بالشلل التام، ويصبح عاجزا عن الحركة راقدا على سرير بالمستشفى.
هنا يتعطل تصوير الفيلم لفترة، ثم يستأنف على أن يتولى مساعد حسين تنفيذ تعليماته، على غرار تجربة المخرج الكردي التركي الشهير يلماظ جونيه الذي استكمل إخراج فيلمه الأخير “يول” (أو الطريق- 1982)، من داخل السجن عن طريق مساعده شريف جوران الذي كان يتلقى منه التعليمات ويقوم بتنفيذها.
حملة الأنفال
لا يقدّم الفيلم سوى نبذة عابرة عن موضوع حملة الأنفال، رغم أن الدافع الأساسي لتحمّس الفتاة للتمثيل في الفيلم، كونه يتناول تحديدا تلك القضية التي تهمّ الشعب الكردي في كل مكان.
أما اهتمام الفيلم الأساسي فيتركز على مشكلة العثور على فتاة تقبل التمثيل في مجتمع محافظ بطبعه، ثم ما ينشأ بعد أن تتطوّع سينور بالتمثيل في الفيلم، من مشاكل تتصاعد وصولا إلى ذروة الميلودراما بعد إصابة المخرج بالشلل، وتخفيفا للأجواء القاتمة للموضوع يتمّ في السيناريو إدخال شخصية مغن كرديّ شهير يفرضه المنتج على الفيلم ضمانا للرواج التجاري.
ولكن هذا المغني الذي يبدو معجبا بنفسه كثيرا، يتدخل في العمل ويحاول فرض وجهة نظره، رغم انعدام خبرته في التمثيل، خصوصا أنه يميل إلى القوالب النمطية الشائعة كما يريد أيضا أن يدخل الأغاني إلى الفيلم، أي أن يصبح الفيلم وكأنه شريط فيديو غنائي، ولكن هذا المغني وراءه مموّل من أشدّ المعجبين به، على استعداد لأن يدفع الكثير لكي يستكمل العمل في الفيلم.
وعندما يرفض المنتج “آلان” أن يقبل تعويضا ماليا من عمّ الفتاة عن جريمة ابنه بحق المخرج حسين، وهو التعويض الذي يمكنه أن ينقذ به الإنتاج من التعثر، يقبل حسين نفسه الصفقة كمخرج من المأزق بدلا من الاستسلام لشروط المغني الشهير!
لا شك في طرافة الموضوع الذي يلامس الكثير من المشاكل القائمة في المجتمع الكرديّ، وهو يحاول استعادة قوّة الدفع بعد سنوات طويلة من المعاناة تحت حكم صدام حسين.
كما أنه يلامس من خلال ذلك، فكرة العمل السينمائي في ظروف بالغة الصعوبة، وعمل المرأة في التمثيل في مجتمع محافظ، والنظرة الذكورية للمرأة كتابع أدنى، وليس كشريك يتمتع بنفس الحقوق والواجبات.
كذلك العلاقات القبلية القائمة التي تجعل من الواجب على جيل الأبناء القبول بما يريد الآباء فرضه عليهم، بموجب اتفاقات وتسويات ومجاملات محدّدة محسوبة، وكيف يمكن أن تنتهي تلك الصراعات المتخلفة التي تنتج عن انعدام ثقة الرجل بالمرأة، إلى مآسٍ.
يستخدم شوكت أمين كوركي الكاميرا المحمولة الحرة كثيرا، مضفيا طابعا شبه تسجيلي على الفيلم جريا على عادته في فيلميه السابقين، وذلك لتأكيد الطابع الواقعي للأحداث.
كما ينجح في نسج علاقة متينة بين الشخصيات والمكان، ويكتشف الجوانب الجمالية التي تكمن في البيئة الطبيعية التي تتحرك فيها الشخصيات، البيئة الجبلية الكردية التي تبهر المُشاهد بمناظرها وأجوائها مع استخدام جيّد للموسيقى والغناء الكرديّ.
إصرار جميل
هناك بلا شك بعض المبالغات في الأداء ترتبط حينا بضعف الخبرة التمثيلية، وحينا آخر بنمطية بعض الشخصيات وبطبيعة الموضوع نفسه، كما أن أداء الممثل الذي قام بدور المخرج يأتي ضعيفا باهتا، مع براعة الممثليــن الذين يؤدون أدوار الكبار في الفيلم.
لكن الفيلم يقدّم للعالم صورة واضحة عن معاناة مخرج من أجل إنجاز فيلم، في مجتمع لم تبق فيه سوى دار عرض واحدة، أصبحت اليوم أيضا مهددة بالإغلاق بعد أن سئم صاحبها الاستمرار في تشغيلها، لتناقص عدد روادها، والتي صار لا يؤمّها غير بضعة أشخاص يمكن عدّهم على أصابع اليد الواحدة.
ويوجه الفيلم أيضا، تحية للفيلم التركي (الكردي) “يول” ليلماظ جونيه، الذي نرى منه مقاطع في البداية، كما نرى ملصقه فوق دار العرض السينمائي، ونعود أكثر من مرّة لمشاهدة مقاطع مميزة منه، ويتبادل “آلان” وحسين حوارا بشأنه.
ولعل استخدام هذا النموذج السينمائي تحديدا يأتي رغبة في التأكيد على ضرورة مواصلة العمل رغم كل الضغوط: السجن والإصابة والشلل وقلة المال.. وهو إصرار جميل ينبغي الاحتفاء به.
_____
*العرب