محمّد محمّد خطّابي*
( ثقافات )
معرض الشّارقة الدّولي للكتاب الذي إنطلق مؤخّراً تجاوز عددُ زوّاره فى الأيام الثلاثة الأولى من المعرض465ألف زائر،وهو عدد غير مسبوق على مدى تاريخ أمثال التظاهرات الثقافية التي نُظمت فى هذا القبيل، وسيستمرّ المعرض في أنشطته (780 نشاطاً) حتى الخامس عشر من الشهر الجاري نوفمبر(تشرين الثاني) 2014، وهو يعرف كثافةً وإقبالاً منقطعيْ النظير جَعَلاَ هذا المعرض يؤكّد حضورَه بشكلٍ فعّال ليس على المستوى المحليّ أو العربيّ وحسب، وإنما على الصّعيد الدّولي، الشئ الذي جعل منه رابعَ أهمّ المعارض التي تنظم حول “الكتاب” في العالم .
على هامش فعاليات هذا المعرض الكبير، نقدّم للقاري الكريم سياحةً في عالم ” الكِتَاب”، هذا الخلّ الوفيّ الذي رافق الإنسانَ منذ أقدم العهود وما زال يلازمه و يصاحبة الى يومنا هذا في عصرالتطوّر التكنولوجي الهائل، و في دنيا الإعلاميات، وما تطلع به علينا كلّ يوم من إختراعات، وإستنباطات متطوّرة ومحيّرة في عالم الحواسيب ،والعقول الإلكترونية ،والإنترنيت، وشبكاته العنكبوتية المتشعبة ،وإستعمالاته المذهلة من تابليط كومبيوتر،وكتبه الإلكترونية ،والفايسبوك، وباقي مواقع التواصل الإجتماعي، والتلفاز وسواه من الجديد المتواتر الذي ما إنفكّ يفاجئنا به هذا العصرالمذهل والعجيب في كلّ وقت وحين.
قال ابن الجوزي لإبنه أبي القاسم مبيّناً له فضل العلم والكتب: “وعليك بالعزلة، فهي أصل كلّ خير، واحذر من جليس السّوء، وليكن جلساؤك الكتب، والنظر في سير السلف”.وتساءل الشيخ عمر القزابري: ” كيف حالنا مع الكتاب؟ وكيف حال أبنائنا مع الكتاب؟ وهل تركت المباريات والملاهي والأفلام والمسلسلات لنا وقتا للنظر في الكتاب؟ فالكتاب خير جليس، وأفضل أنيس، وغرس محبته في قلوب الأبناء من أفضل الأمور التي تنشئهم على مكارم الأخلاق، وعلى آداب راقية، وأي بيت يخلو من الكتب فهو بيت يستحكم فيه الجهل، وتسيطر عليه الأمية. ورغم ما عرفه العالم من تطور في المعلومات تبقى للكتاب مكانته، ولا يستغنى عنه أبداً، فعوّدوا أولادكم على مطالعة الكتب، وخذوهم إلى المكاتب والمعارض، حتى تنشأ رابطة ودّ، وعلاقة حبّ، بينهم وبين الكتاب”.
الكتاب والكتابة
تؤكّد معظم المراجع التاريخية أنّ الكتابة بدأت في العهود الغابرة من الأزمان في شكل صور تدلّ على معاني ومدلولات ملموسة في الحياة اليومية للإنسان القديم ، وقد تمّ العثورعلي الكثير من النقوش والصور والرموزالتي تدل على معاني ومفاهيم معيّنة في منطقة الهلال الخصيب، خاصة في الحضارة السوميريّة قبل حوالي ستّة آلاف سنة، وقد عرفت الكتابة عندهم بالمسمارية أو الإسفينية، كما تمّ العثور في مناطق أخرى من العالم على بعض الرسوم والصورمثل تلك التي عثر عليها في كهوف “ألتاميرا “في إسبانيا ، و”لاسكو” في فرنسا أو رسوم” ناسكا “في البيرو عند شعوب الإنكا والموشيك وسواها من المناطق الأخرى. وفي مرحلة متقدمة من التاريخ البشري جاء الفنيقيون وابتكروا الكتابة مستعينين بالسوميرية والمصرية القديمة، ثم جاء الإغريق وطوّروا أبجديتهم نقلا عن الفنيقيين ، ثم أصبحت عندهم أبجدية خاصّة بهم والتي أصبحت فيما بعد الأبجدية الخاصة بالغرب ، ثم جاء الرّومان وأخذوا الأبجدية الإغريقية ، وقد سادت اللغة الرومانية واللاتينية في مختلف الأصقاع الأروبية بعد سيطرة الإمبراطورية الرومانية على بلاد الغرب . وجاءت الكتابة العربية متأخرة ، وبدأت تنتشر فى الأصقاع بعد أن قرّر الخلفاء الراشدون تدوين القرآن الكريم على عهد الخليفة عثمان بن عفّان، ثم انتشرت الكتابة العربية إنتشارا واسعا مع إنتشار الدين الإسلامي الحنيف .والابجدية العربية مشتقة من الكتابة السامية التي إشتقت بدورها من الأبجدية الفنيقية والتي وصلت العرب عن طريق الأنباط الذين تأثّروا بحضارة الآراميين وطريقة الكتابة عندهم. وفي القرن الثامن للميلاد شرع العرب في إستخدام الورق الذي إبتكره الصّينيون بدلا من الرقّ أو الجلود حيث أسّسوا مصنعا للورق وعنهم أخذته البلدان الأوروبية في القرن الثاني عشر.وقد أنشئ أوّل مصنع للورق في إنجلترّا في القرن الخامس عشر . وفي عام 1436إخترع “غوتينبرغ “الطباعة فكان ذلك الإختراع فتحا عظيما ، وقفزة نوعية هامّة وفاصلة في تاريخ الكتاب حيث تمّ نقله من طور المخطوط الغميس،الى المكتوب أو المطبوع الصقيل .
تدميرالكتب ومتابعتها
تعرّضت الكتب والمخطوطات منذ أقدم العصور إلى المتابعة والمصادرة والرقابة والحرق والتدمير،فقد كان الكتاب منذ القدم هو الوسيلة التي تنقل بواسطته العلوم والمعارف وأسرار الحروب وخطط الدفاع والهجوم وفيها كانت تسجل الإختراعات وأسرار الدول والصنائع، بل كان الكتاب هو السلاح الأفتك والوسيلة المثلى للتنوير والتعليم وتثقيف العقول وتهذيب النفوس وتغذية القلوب وملئها بنور الإيمان والهداية . كان أوّل ما نزل من القرآن الكريم “إقرأ” وفي سورة البقرة يرد إسم الكتاب (كتاب الله) فيقول جلّ من قائل:( أ لم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين).وكانت كتب المسلمين في الأندلس تثير الرّعب والهلع في قلوب الإسبان المتزمّتين منهم ، في حين كان يحتفي ويعنى بها آخرون ، فهذا الكاردينال سيسنيروس أمرعام 1501م بحرق مكتبة ” مدينة الزّهراء”التي كان بها ما ينيف على 600000 مخطوط في مكان يسمّى “باب الرملة” بغرناطة وهوما زال موجودا بها حتى اليوم، فاختفت العديد من المخطوطات وأمّهات الكتب النفيسة التى أبدعها علماء أجلاء في مختلف فروع المعارف بالأندلس، ويقال إن الجنود الذين كلّفوا بالقيام بهذه المهمّة كانوا يخفون بعض هذه الكتب أثناء إضرامهم النار فيها في أرديتهم لفرط جمالها وروعتها إذ كان معظمها مكتوبا بماء الذهب والفضّة.
وقد وصف لنا العديد من شعراء الاندلس بحسرة ما بعدها حسرة كيف أنّ الإسبان بعد حروب الإسترداد كانوا يحرقون الكتب والمصاحف ، ويلطّخونها على مرأى من المسلمين وفي ذلك أشعار كثيرة مؤلمة.
و قد أعاد التاريخ نفسه في بلدان أمريكا اللاتينية فيما بعد حيث قام الاسبان عند إكتشافهم لها بحرق العديد من الخطوطات والكتب القديمة التي تعود لشعوب المايا ،والأزتيك في المكسيك، ولشعوب الإنكا ،والموشيك في البيرو، وقد تمّ ذلك أمام أعين أربابها السكان الأصليين في هاذين البلدين وفي سواهما من بلدان أمريكا اللاتينية.
وحرق الكتب أي تدميرها بالنار يجري عادة في العلن لأسباب أخلاقية أو سياسية ، أو أيديولوجية،أو دينية. وقد يتمّ التخلّص من الكتب سريّا كما حدث لملايين الكتب التي تمّ إحراقها في الكتلة الشيوعية الشرقية.ويذكر لنا التاريخ العديد من الأمثلة لهذه الجرائم التي لا تغتفر. فبالإضافة الى حرق كتب المسلمين في الأندلس،وكتب المايا والإنكا في المكسيك والبيرو نذكر حرق الكتب على عهد أسرة ” تشين”الصينية ، وحرق النازييّن لكتب خصومهم في أوروبا. وتعتبر حوادث حرق الكتب مصائب وجرائم في حقّ العلم والإنسانية تتذكّرها الأجيال تلو الأجيال بسبب قيمة هذه الكتب التي تعتبر خسارة ثقافية فادحة لا تعوّض.
مخطوطات وكتب الإسكوريال
يظنّ الكثيرون أنّ خزانة الاسكوريال القريبة من مدريد المليئة بالمخطوطات العربية الثمينة أنها من مخلفات العرب في إسبانيا ، والحقيقة أنّ محاكم التفتيش الكاثوليكية كانت أحرقت كلّ الكتب لعربية أينما وجدت ، ولم يبق بعد خروج المسلمين من شبه الجزيرة الايبيرية كتب عربية تستحقّ الذكر .وفي أيام السّعديين بالمغرب كان المنصور الذهبي مولعا بإقتناء الكتب وجمع منها خزانة عظيمة ، وسار خلفه إبنه زيدان على سنته في الإهتمام بالكتب، فنمّى الخزانة التي كانت عند والده .ولمّا قام عليه أحد أقاربه وإضطرّ للفرار كان أوّل ما فكر فيه خزانة كتبه فوضعها في صناديق ووجّهها الى آسفي لتشحن في سفينة كانت هناك لأحد الفرنسيين لينقلها الى أحد مراسي سوس. فلمّا وصلت السفينة إنتظر رئيسها مدّة أن يدفع له أجرة عمله ، ولما طال عليه الأمر هرب بمركبه وشحنته الثمينة ، فتعرض له في عرض البحر قرصان إسباني وطارده للاستيلاءعلى الصناديق ، ولا شكّ أنهم كانوا يظنّون أنها مملوءة بالذهب ،واستولوا بالفعل على المركب الفرنسي وأخذوا الصناديق، فلمّا فتحوها ولم يجدوا بها إلا الكتب ، فكروا ، من حسن الحظ أن يقدّموها هديّة لملكهم . ولما وصلت هذه الكتب إلى الملك فيليبي الثاني ، الذي كان منهمكا في بناء الدير الفخم للقدّيس لورينثو بالمحلّ المسمّى الإسكوريال أوقفها على هذا الدّير ، وهي التي لا تزال إلى اليوم موجودة به، ويقصدها العلماء من كل الأقطار للإستفادة من ذخائرها . ونظرا لطرافة هذا الموضوع المثير لنا عودة إليه بمزيد من التفصيل على صفحات هذا المنبر الرصين والناصع فى قريب الأيّام إن شاء الله.
أخبارالكِتَاب وطرائفه
كان الكتاب يحظى بعناية خاصّة عند العرب وما يزال ، فقد جمع الخلفاء في المشرق والمغرب الآلاف من أمّهات الكتب والمخطوطات، فهذه مدينة قرطبة كانت تحفل بالمكتبات و أروقة العلم و بيوت الحكمة، كانت تزيّن خزانة “الحكم المستنصر” بها (861-976 م) أزيد من أربعمائة ألف مخطوط، هذا الرجل الذي قال عنه “بول لين” إنه دودة كتب، والذي عنه يقول إبن خلدون:” إنّه جمع من الكتب ما لم يجمعه أحد من الملوك قبله “. كما إعتنى هارون الرشيد في المشرق بجلب العديد من الكتب والمخطوطات من الديار التي فتحها. وقد بلغ نشاط بيت الحكمة ببغداد ذروته على عهد الخليفة المأمون الذي أولاه عناية خاصّة، ووهبه كثيرا من ماله ووقته . وأهمّ ما ميّز بيت الحكمة الخزانة العظمى التي كانت بها وقد تمّ تدمير العديد من نفائسها على يد المغول عام 1258 م
كان العلماء المسلمون وغير المسلمين يحبّون الكتب حبّا جمّا ، الجاحظ مات تحت أكوام كتبه،وكانوا يتحمّلون المشاقّ وعناء السّفر ووعثائه لطبع كتبهم ، وكانت إعارة الكتب شيئا ممقوتا عندهم ، وكان شاعرهم يقول في ذلك :
ألا يا معير الكتب دعني فإنّ إعارة الكتب عار
وكانوا يقولون إنّ الكتاب الذي يعار لا يردّ إلى صاحبه، وهم محقّون في ذلك ، إذ يحكى أن الكاتب الفرنسي” إميل زولا ” زاره ذات مرّة أحد أصدقائه في بيته ، وعندما بدأ يطّلع ويتفقّد مكتبة” زولا “الكبيرة ، فيأخذ كتابا ثم يردّه إلى مكانه في رفوف المكتبة ، وفجأة وقع نظره على كتاب كان يبحث عنه منذ مدّة ، فقال لصديقه زولا : هل لك أن تعيرني هذا الكتاب؟ فقال زولا له على الفور: لا ، لا أستطيع أن أعيرك إيّاه، فالكتاب الذي يعار لا يردّ أبدا إلى صاحبه ، والدّليل على ذلك أنّ معظم الكتب التي ترى في هذه المكتبة معارة.. !
وقال أحد الكتّاب الكولومبيين :إنّ الذي يعير كتابا إقطع له يدا واحدة، أمّا الذي يردّه إلى صاحبه فاقطع له يدين.. !
وكان برنارد شو يتجوّل ذات مرّة بسوق الكتب القديمة ، وفجأة وقع نظره على كتاب له كان قد صدر مؤخّرا ، وكان قد أهداه لأحد زملائه الأدباء، فباعه هذا الأخير دون أن يفتح أوراقه التي كانت لا تزال لصيقة ببعضها ،كما كانت العادة بالنسبة للكتب الصادرة فى ذلك الإبّان، فاشترى شّو الكتاب، وكتب تحت الإهداء القديم : برنارد شو يجدّد تحيّاته، ثمّ بحث عن صديقه وسلّمه له من جديد.. !
وكان المرحوم عبّاس محمود العقاد يقول:
أنا من بدّل بالكتب الصّحابا … لم أجد لي وفيّا إلاّ الكتابا
ونختم هذه العجالة ببيت المتنبّي الشهير:
أعزّ مكان في الدّنى سرجُ سابحٍ … وخيُر جليسٍ في الزّمان كتابُ.
————————————————————
*كاتب وباحث ومترجم وقاصّ من المغرب ، عضو الأكاديمية الإسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم (كولومبيا).