*ماجد شاهين
( ثقافات )
( 1 ) وجع الكلام !
لأن ّ وجعاً دهم مفرداته ، أرجأ الشاعر قصيدته و أعلن انخراطه في استراحة ريثما تشفى الحروف !
.. فقهاء اللغة و رعاة حكمتها أشاروا إلى الشاعر أن يتناول ” جرعات مكثفة” من ” الهواء العليل ” وأن يسقي مفرداته ” شراب أعشاب جبليّة ” مرتين في اليوم و إلى حين رجوع المفردات إلى ” صحن الكلام ” معافاة .
.. وكان فريق من حكماء اللغة أوصى بأن يحمل الشاعر صحن مفرداته و يظلّ قريبا ً من نبع ماء ترتادها نساء لهن ّ معرفة بالشوق والوجد و وجع الكلام و خبز الطابون .
..
في سيرة الماء ، بعد حين ٍ ، جاء في الأخبار أن شاعرا ً يحمل زوّادة الحروف ويطوف في الأرجاء ، أخذ يعود إلى وعيه بعدما وجدت مفرداته طريق صحوها .
( 2 ) في جيب القميص !
خلعت قميصَها و طوّحت به باتجاه الجدار ، و راحت لتنام ، وكانت ازّيّنت وارتدت أبهى حلّة ً قبل أن تخلع القميص !
.. كانت أعدت ما يلزم لكي تروح إلى قاعة فسيحة ، فهناك ما يمكن قوله وهناك فتى ً يعرف أسرار الكلام ، كتبت رسالة ً تليق ُ و طوت الورقة باعتناء واضح و دسّتها في جيب القميص و ابتسمت .
.. لم تغب عن بيتها سوى ما يكفي من دقائق لكي تقطع المسافة إلى هناك وتعود .
.. قفلت راجعة ، و الوجه منها تبدّل لونه وارتبكت ملامحه .
.. خلعت قميصها وراحت إلى عزلتها بلا دموع ، كان وجهها ناشفاً .
.. أحدهم في البيت فطن إلى ملامح الحزن في وجهها و حاول أن يبحث عن شيء .
.. مدّ يده إلى القميص فوجد الورقة المطوية باعتناء .
.. فضّ الورقة ، وفي ظنّه أن سرّا ً فيها قد يكون .
….
الورقة كانت ناصعة بيضاء من غير سوء ، لا كلام فيها ولا حتى حروف .
.. جاء في الأخبار أن الفتى البهيّ كان يقرأ أغنيته / القصيدة ، قبل دخوله إلى القاعة الفسيحة حيث الناس في انتظاره ،أعثِرَت ْ خطاه .. فوقع و أوراقه خُضِّبَت بالدم .
.. اقتنصته رصاصة غادرة ، واعترف الجناة بعدها أن ّ المتوفّى متّهم بالحبّ والتحريض والكلام .
….
خلعت قميصها و كان في طيّ الورقة كلام عن البلاد والحب ّ .
( 3 ) بائعة ورد و شاعر !
كان شاعر ٌ يقرأ في الزاوية سطرين من قصيدة ٍ لامرأة ، و فتاة في طرف ٍ بعيد تراقب … و هناك في مكان يخلو من العابرين كان العازف انتهى لتوّه من دندنة جملتين موسيقيّتين على مقام الرصد … و في الجوار بائعة ورد ٍ كانت ضفرت ما يلزم من الورد لجولة ٍ في السوق … و عند الرصيف ، الذي يظهر من نافذة المسرح ، كان الراوي يسجّل في دفتره الصغير ملامح الناس و يرسم صورة الشارع والعربة التي دهست طفل َ المدينة … و بعد مسافتين أو خطوتين من بوّابة المكان ، حيث ينطلق المغادرون ، كانت نحّاتة تحفر بإزميل التعب جملًة ً عن البلاد التي تحبّها و تنقش سيفاً و بقع َ دماء .
… الشارع يضيق الآن بمن غادروا مسرح المدينة ، كلّ منهم يذهب في طريق ٍ واتجاه .. الرسام إلى صندوق ألوانه ، والشاعر إلى شجرة يستظلّ بها وعندها في انتظار أن تلتمع في ذهنه صورة أخرى للعاشقة .. والعازف الجميل ُ راح لكي يتمرّن على أصول عزف مقام البيات .. والنحّات يبحث الآن عن حجارة تليق بصور الشهداء و وجوههم .. أمّا الراوي فيكتفي بالفرجة لكي يستجمع ما قد تراه عينه و روحه .
…
تلك فكرة ُ حب ّ ٍ أو ورشة ٌ ينخرط المرء فيها لكي يتمرّن على الحبّ والحياة ولكي يعرف الطريق إلى الشمس و الزيتون و المدن الجميلة .
.. للمناسبة ، العاشقات المبهجات يحببن َ الشوارع المزدحمة والأماكن التي تلتقي فيها المواعيد بالمصادفات و تصعد عندها سيرة النشيد البهيّ .
.. الشارع ، حين يزدحم بنا ، يتّسع للناس كلّهم .
( 4 ) بوح العازفة !
والعازفة ُ ، التي لم تلمح صورتي ، أخذت نايها إلى ركن ٍ قصي ّ ٍ ، و بكت .. فأُصيب َ الناي بوجع ٍ في مخارج أصواته ، و بدلا ً من ان يناديني راح ينشج و يصدر صوتاً يشبه العويل !
… العازفة كانت دسّت فستقة عينها في ” ركوة اليانسون ” ، وحين ارتشف الفتى أوّل الرائحة أصابه دوار التوجّس .. و ارتمى في حضن الشجرة .
لم يكن الناي ُ ينأى عن شدوِهِ ، لكن ّ الفتى لم ينهض من إغماضة عينيه إلا ّ في وقت منهك الأطراف .
..
خرج جسد العازفة من جوار اليانسون ، لكنّ فستقها ما يزال عابق َ الروح والرائحة .
.. هل ترون َ أروع َ من ” عين تهمس وتومض وتوميء ” ؟ هل ترون رقّة ألذّ و أجمل من عين ٍ ناعسة تطرح السلام والمرحبا ؟
..
العازفة تنهي وصلة البوح ، و اليانسون صار رحيقاً و الطاولة ليست فارغة .