نجلاء الوزة.. كل هذا الموت للسوريين؟


*راشد عيسى

من فرط موت السوريين البالغ المأساوية لم يعد يلتفت أحد إلى أي موت، حتى لو كان من وزن موت شابة سورية عشرينية في آخر الأرض. في أزمنة قريبة، ليس أبعد من ثلاث سنوات، كان انتحار ممثلة شابة بهذا الجمال يهزّ الناس شرقاً وغرباً، ولكن ها قد مرّ أسبوع بحاله على انتحار لم يكترث له أحد، على موت مشروعٍ واعد لنجمة لم تكمل بعد اثنتين وعشرين سنة. 

على نطاق ضيق جرى تداول خبر وفاة الفنانة الشابة نجلاء الوزة، وعلى نحو أضيق وأكثر تكتماً خبر انتحارها شنقاً، في جنوب أفريقيا حيث تعيش منذ حوالى العام، مع أن من يموت على هذا النحو لعلّه يريد لموته أن يكون ساطعاً بلا حدود. لعله الاحتجاج الأقصى لبنتٍ حاولت أن تُسمِع صوتها بكل السبل، هي الرسامة والكاتبة والممثلة والمغامرة الشجاعة. 
التفاصيل شحيحة عن الممثلة التي عبرت بلطف في فيلم محمد ملص الأخير «سلّم إلى دمشق»، بشخصية هي دورها السينمائي الأول والأخير، قبل أن تغادر إلى جنوب أفريقيا، الأمر الذي يعتبره بعض أصدقائها المقربين وكأنه اختيارٌ للأقصى. أرادت مكاناً قصياً بالأساس كنوع من الاحتجاج، لأنها لم تعد تريد أن ترى أحداً، أن تفعل كل ما تحب في الحياة هناك، دفعة واحدة، ثم تمضي، على هذا النحو المدوّي. 
الانتحار غالباً ما يكون مدوياً أكثر من أي موت آخر، ربما لأنه يحمّلنا، كلا على حده، وزراً ما. هو احتجاج موزع على الجميع. مؤلم، بقدر ما هو مخجل لنا ومحرج، فهناك من بوسعه أن يعلن عدم تمكّنه من التكيّف مع العالم، فيما نستمر نحن، «ننقّ» ونحتجّ، ثم نتابع حياتنا كالمعتاد. 
لا تفاصيل حول حياة الوزة وموتها. يختلط الحديث عن حياة مضطربة وخيارات ضائعة، ولكن دائماً إلى جانب قرارات شجاعة ومغامرة. بنت تهوى السفر والطيران والذهاب في الأشياء بعيداً، إلى آخرها. وبالطبع، وككل حكاية انتحار، لا تخلو قصة نجلاء الوزة من إشارات لهذه النهاية المأساوية، عدا عن محاولة أخرى سابقة للانتحار نجت منها.
غير أن اللافت بضعة أعمال تشكيلية للفنانة تتضامن مع الثورة السورية، وأدرجت على صفحاتها، كالعمل التركيبي الذي يحمل عنوان «العروسة» ونشر على صفحة «الفن والحرية». إلى أعمال أخرى نشرت على صفحة «فنون الثورة السورية».
وعموماً موقفها من الثورة، كما يقول أصدقاؤها ليس بحاجة إلى إثبات، فمن يعرفها يعرف جيداً أنها مع الثورة في بلدها. ولو أن هذا لا يغيّر في التعاطف واحترام موتها الفجائعي. 
موت نجلاء هو لغز آخر يضاف إلى ألغاز السوريين الكثيرة، وحريّ بزملائها من الفنانين أن يأخذوا كاميراتهم إلى حيث قضت، مثل موت لا ينبغي أن يفاجئ أحداً في ظل كل هذا الدم والخراب والموت اليومي، ونعني الأخبار المتزايدة عن انتحار موظف البنك المركزي الذي قضى انتحاراً أثناء دوامه الرسمي (!)، أو انتحار شابة في بيتها مشروع دمّر، وقبل ذلك حكاية اللاجئ السوري الذي انتحر في صيدا لأنه لم يقدر على تأمين عشاء لأطفاله. 
هذا ما وصلنا من حكايات عن الانتحار السوري المستجد، وهو ما يقود الى الافتراض أن حكايات كثيرة أخرى لم تصل، ما دامت حكاية فنانة تحت الضوء لم تستطع أن تصل. 
صحيح أن الموت السوري كثير إلى حدّ يفوق التصور، وقد يقول البعض ماذا يغيّر، ولماذا الاهتمام بموت شابة سورية في مكان قصيّ، لكن كل موت يستحق النظر، «موت شخص واحد أكبر من أن يحتمل»، فكيف بكل هذا الموت السوري؟ إنها حقاً قيامة السوريين.
______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *