برندة بحْريّة



* ناصر الريماوي
( ثقافات )
الوقت، بعد منتصف الليل بقليل، وفقا لتداخل الأصوات وثقل الرائحة التي يجلبها سكون الليل إلى مكاني، الضوء الباهت يعيد رسم الاشياء التي يعبرها على أرضية الغرفة، ويوحي بقمر فضي لا زال يصعد في السماء، من فضاء “البرندة” بدت الاماكن فضية وساكنة كخلفية للبحر، حيث الموج يواصل امتصاصه لهالة الضوء بنهم، ثم يلفظها بانكسارات عذبة أمام أعين السهارى، أصوات المحركات لمراكب الصيد العائمة تصل منزوعة الصخب وهي تأوي إلى أرصفة المراسي هناك، صوت فيروز ينبعث رخيما، من مكان مجاور، لأحد ما يستعجل الصباح. من بعيد … أخذت تلمع أسطح بعض البيوت الصغيرة، والتي تتدلى إلى خارج حدود “مخيم الرمل” الفلسطيني، في انحدار نحو تلك المراسي، لتحمل في انعكاسها نحوي شيئا من رائحة البحر وبيارات البلاد.
“البرندة” بحْريّة ولكنها صغيرة وضيّقة، بلا أصص مركونة في زواياها أو نباتات شغوفة بالتسلق كي تتعربش عليها، لكنها بحريّة، معلقة على كتف الطابق الثالث في حي مشروع الزراعة “باللاذقية”، خالية من كل شيء… إلا من أريكة قديمة بمسندين ووسائد من البوليستر، لوّحَتها الشمس وأحالتها رطوبة الطقس الرديء إلى حراشف بملمس خشن ولون داكن.
استرخي على الأريكة كي تخرج الرائحة من بين حواسي، فأغفو من جديد… أسدّ أذنيَّ مكتفياً بصوت فيروز والليل، لكنه يطاردني بأضواء الشوارع المقفرة وصرير بعض النوافذ القريبة، السكون الموحش لا زال يضخم الأصوات، ثم يسوقها إلى مكاني، جارة تطل بجفنين مثقلين بالنعاس، تمسح المكان ثم تستقر بنظرتها الفاحصة باتجاهي، ترمقني باستياء بالغ، تشير بحركة مضطربة من يدها بأن أخفض صوت المذياع، ثم تختفي، وصوت فيروز يعلو ويتصاعد كلما سكن الليل أكثر، اشتعلت اغلب النوافذ، وعلا صراخ رجل غاضب مذكرا بحق الجيرة، ثم طالبني بالهدوء، تلاه صوت آخر خاطبني بلهجة متوعدة، وحين صفق النافذة بعصبية أيقظ الآخرين، والصوت المنبعث من ذلك المذياع يتردد ويزداد قوة، خرج الجميع في تحفز إلى شرفاتهم بملابس النوم، سبحت عيونهم المتقدة كالجمر ثم حاصرتني وراحت تصب جام غيظها نحوي، حاولت بارتباك أن أوضح للجميع بأنني مثلهم تماما، وبأن الليل باغتني ايضا بهذا السكون الموحش، لكنني لم اقوَ على الكلام، بادرني أقربهم : صوت المذياع مرتفع اكثر مما يجب، من فضلك استمع إليه وحدك دون إزعاج لأحد. نبرته المتعقلة شجعتني لأرد: لست أنا، أنا مثلكم يا سادة…! لم يأبه لما قلت، تاملني بنظرة عابرة ثم تجاوزني ببصره، وهو يقول: ألا تسمعني؟ هل انتَ أصم… منذ مدة وانتَ تصخب غير مبال براحتنا، والآن طفح الكيل؟
أجبت في حيرة، وبصوت مرتفع وأنا أوزع بصري بينهم: بلى سمعتك، ولكنني لست أنا…
التفت الجميع هنيهة إلى حيث أقف ثم تخطتني عيونهم في صبر، لوّح أحدهم بيده مهددا وهو يستدير: سنبلغ الشرطة. هممت أن أقول شيئا، لكن صوت فيروز كان قد توقف فجأة، وحل مكانه صوت مرتبك لرجل اطلّ من حلق “برندته” الواقعة أسفل “برندتي” تماما، وراح يعتذر حتى أحتوى بكلماته غضب الجميع، غمرني خجل مضاعف وأنا اعود للأريكة، ضحكت في سري تحت ضوء القمر، ثم نمت.
لأشهر طويلة، وأنا أصحو بعد منتصف الليل بقليل، بلا سبب واضح، فقط في الليالي المقمرة أخرج “للبرندة” وأستقبل البحر ووخم الرائحة واحتفي بتكسر الموج تحت أقدام البيوت في “مخيم الرمل” وأفتقد لصوت فيروز، وألمح الوجوه ذاتها خلف النوافذ وهي تشتعل بجفون مثقلة بالنعاس، في كل ليلة، ولكن بلا شرر … وفي الصباحات يصدح مذياع جارنا بصوت فيروز، حتى يغلي قرص الشمس ويفور ثم ينسكب على التلال واسطح البيوت ويغمر المدينة، وكان الصوت رغم وتيرة الايقاع المتصاعد، يخفت… ثم يذوي ويضعف كلما أوغل الصباح وعلا الصخب : ” بالقهوة البحرية واطلع بإيديك
و تشرب من فنجانك و إشرب من عينيك…” أرتشف قهوتي وأبحث عن إجابة شافية، إذ كيف لهذه الصباحات أن تستوعب كل هذا الضجيج، من صراخ ونفير للمركبات وإيقاعات صاخبة، بهذا الفيض الواسع من الرضى في الملامح،
وبلا أدنى تذمر من أحد..!؟
_____________
*قاص من الأردن

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *