جزيرة صحراوية إسمها دوز




علي مصباح*
(ثقافات)




هذه جزيرة أخرى، لكنها محاطة بالرمال لا بماء.

أليست الصحراء بحرا هي أيضا؟ بأمواج وعواصف وتقلبات؟ بطرقات لا مرئية يتهدد المسافر فوقها الضياع والغرق؟ مسافرها، مثل المسافر على ظهر البحر في حاجة إلى بوصلة وإلى هداية النجوم.

دوز جزيرة إذن!

لها صحراء لا تعرف كيف تسوّقها. لأنها في الحقيقة متشبثة بصحرائها، مفتونة بنخيلها وبتمورها. وربما لم يكن لهؤلاء “المرازيق” ذوي الهيآت التي تنضح كبرياء ومشية أمراء الصحراء من ولع خاص بكل ماهو غريب ودخيل، لذلك لم يقايضوا بعد أحذيتهم الصحراوية ولحافات الشاش بشيء من مغريات الأسواق من حولهم. مازال المرزوقي يصنع حذاء الجلد والشاش الصحراوي بيديه-لنفسه أولا. لذلك لم يزوّرها ولم يدخل عليها من مفاتن الإغراء ما يجعلها مادة للتسويق. يظل الحذاء الصحراوي حذاء صحراويا للصحراويين، وكذلك يظل المرزوقي وتظل دوز. رمل وغبار وبيوت واطئة من الحجر غالبا، بأحواش مستطيلة الشكل قد تطل عليك منها دجاجات فضوليات أو جديان تسترق غفلة من أصحابها لنزهة قصيرة في الزقاق طمعا في بقايا خضار تطل من سطل للنفايات، أو فقط من أجل تشمم الهواء والنظر بحدقات واسعة إلى المارة والعربات التي تمر داخل عجاجة من الرمل.

تأتي إليها من الصحراء وتخرج منها إلى الصحراء، وأنت لا تكاد تشعر بأنك دخلت مركزا عمرانيا، خاصة إذا ما قدمت إليها في أشهر الرياح الرملية فتجدها متدثرة بصحرائها تحت غشاوة من الرمل مثل البرقع تسدله على وجهها. لا تقفز في وجهك بهرج المدن وصخبها وألوانها ومساحيق الزينة التي تضعها الغاويات عادة. فضاؤها مفتوح على السماء، حركتها بطيئة ناعسة، والأجساد التي تراها تسير الهوينا تجعلك تشعر بأنك لا تحل بمدينة يدخلها الناس للركض والتناهش والتدافع. كأن الناس مستقرين في البطء هنا، في ركون إلى الراحة بعد العودة من ركض مرهق في أماكن أخرى.

لكن، ما هذه الأنفاس الساخنة الدسمة التي تتنفس بها المدينة فتجعلك منذ الوهلة الأولى تشعر لا بالارتياح فقط، بل بطاقة غريبة غامضة تقول لك إيماء، أو إيحاء، إنك في حضرة مدينة عريقة وشيء أصيل يجعل منها مدينة حقيقية. لا أشعر بهذا في قبلّي التي هي أكبر منها حجما وتعد وليّة أمرها-إداريا بطبيعة الحال-، ولا أشعر بذلك في توزر مثلا، ولا حتى في قابس التي يمكن اعتبارها المركز العمراني الأكبر في كامل المناطق الجنوبية. في دوز فقط أشعر بأنني داخل أجواء مدينة؛ مدينة صحراوية، يمكن أن تكون تمبوكتو التاريخية، أو سمرقند، أو طشقند.

مدينة من تلك المدن النادرة التي تجلس بهدوء على عنق التاريخ، محكمة قبضتها على عنان الزمن، تشد اندفاعاته وتتحكم في وتيرة انسيابه، ليس هو الذي يجرها داخل لولبة دوامته الساحقة. أشعر وكأنني أخرج من الزمن لأدخل مدينة واقعة على أطرافه كالواقف على حافة نهر يغرف منه ما يحتاج ويتركه يمر دون أن يقذف بنفسه داخله. سوق دوز تعود بك إلى ذلك العصر السعيد للأسواق التي كانت فضاء حياة، لا فضاء عبور وركض ولهاث: فضاء اكتظاظ بالفراغ. تلج السوق فتجد نفسك تفكر مباشرة: ههنا فضاء امتلاء.

ممتلئة. لكن بماذا؟

ربما بنفسها فقط. مشحونة بطاقة من الحياة التي لا تعلن عن نفسها لغطا وهرجا وزفيفا، أو مباني فاخرة، أو واجهات براقة وأنوارا اصطناعية. شحنتها ليست هادرة زاعقة، بل هادئة، تكاد تخالها ناعسة . قد تبدو لك للوهلة الأولى مجرد قرية منسية، أو بلدة ملتفة على نفسها على حافة ذلك المنحدر الذي يميل بك ميلانا طفيفا باتجاه الواحات. تتقدم بضع خطوات لتجد نفسك تلج سوقها المنتظمة على هيأة باحة فسيحة تحيط بها الدكاكين من جميع الجهات متحاذية وراء أقواسها المتلاصقة؛ محلات ضئيلة الحجم تعرض بضاعتها دون وساطة الواجهات تقريبا، يتحلق داخلها وأمامها رجال يعتمرون الشاش الصحراوي الأبيض، يتلثمون به حينا على طريقة الطوارق الجوالين، وأحيانا يلفونه كما تلف العمامات، لكن بطريقة خاصة بهم تجعلهم بهيأة السلاطين.

أكاد أجزم دون خوف من الوقوع في الخطأ أنهم جميعا من سلالة الملوك، وأن هذه المدينة عاصمة مملكة عريقة منسية قد تغافلت عنها المعاجم وتركها التاريخ لشأنها في هذا الطرف القصي من البلاد.

*

لا تكن على عجل وأنت تلج السوق، فبرّاد الشاي يهدر على مدار الساعة في انتظار القادمين، وكل قادم ضيف أولا وقبل كل شيء. ثم إن للمرزوقي حديث كثير، وأسئلة عن بلادك التي أتيت منها، عن الأمطار في الأصقاع الشمالية إن كنت قادما من الشمال، عن حالة الزرع والماشية. تشعر أنه ينتظر منك أخبارا مفرحة، فالخبز غذاء الجميع وإن كانت الصحراء لا شأن لها بالقمح والزرع عامة، برغم الجهود الكثيرة المبذولة لجعل الواحات مزارع عصرية لا تدر تمرا فقط، بل عنبا ورمانا وفواكه وخضار متنوعة ونصيبا من الشعير هنا وهناك. لكن القمح سيظل ابن “افريقا” كما كان منذ غابر العهود.

إن لم تكن على عجلة، وكنت من المولعين بشتى الأحاديث فأنت هنا في المكان المناسب. سيحدثك الشيوخ بأن المرازيق، إلى جانب اشتغالهم بالواحات وولعهم بالنخلة والتمر، تجار أيضا؛ تجار “الكنْترة” التاريخيين (والكنْترة تعني تجارة التهريب). فالصحراء لم تكن أبدا حاجزا بين البلدان بالنسبة للصحراوي، بل معبرا وطريق تجارة مبجل، لأن للصحراء طرقاتها السرية التي تحتمي بالكثبان وبغموض وتعقيد الاتجاهات من سلطة كل المراقبات الحدودية. طريق لتوريد الشاي أساسا من ليبيا إلى البلاد التونسية عبر رحلات تتداخل فيها المغامرة والمخاطرة بأعمال البطولة ومعارك ضارية في بعض الأحيان، يلعلع فيها الرصاص وتسقط فيها الضحايا.

تاجر الكنترة مقاتل أيضا، لا ضد قطاع الطرق الشرسين فقط، بل ضد الجيش الحكومي أيضا وحراس الحدود وأعوان الجمارك. وإذا ما صادفك الحظ والتقيت بشيخ من المعمرين، من أولئك الذين راحوا ينقرضون في السنوات الأخيرة، فستسمع عن تجار كانوا في الآن نفسه مقاتلين ضد سلطة الاستعمار والحكم العسكري الخاص الذي فرضته على مناطق الجنوب دون غيرها. مهربو بضاعة بين البلاد التونسية وليبيا، وفي الوقت نفسه سرايا قتالية منشقة ومتمردة، مهربو مقاتلين أيضا، ومزودو مقاتلين آخرين من المرابطين في الجبال المجاورة بما يحتاجون من غذاء وسلاح وذخيرة. ربما كان أحد مشاهيرهم ذلك المقاتل المتنقل على الدوام عبر الصحراء بين الجنوب التونسي والتراب الليبي، يقاتل ضد الفرنسيين هنا، وضد الطليان هناك، وهو المعروف باسم بن قطنّش الذي يذكره محمد المرزوقي في كتاب له بعنوان “دماء على الحدود”.

وربما يكون قاطع الطريق مقاتلا أيضا، وربما تربطه بتاجر الكنترة علاقات مودة وتآزر، فيصبح قاطع الطريق حاميا وضامنا لسلامة الطريق وتاجر الكنترة مزودا وممولا لقاطع الطريق ومن ورائه المقاتلون المرابطون فوق الجبال وفي عمق الأودية.

*

كنا جالسين على الرمل مباشرة في الميدان المعد لألعاب مهرجان الصحراء بدوز. إلى جانبي الأيمن شيخ مسن ضئيل الجسم، نحيل تكاد تظن أن هبة ريح ستكون كافية لإطفاء قنديله. لكن هاهو فجأة يتوقد بنشاط غريب ويغدو لعينيه بريق حاد نشط وهو ينطلق في رواية شذرات متفرقة من أعمال الطيش والمغامرات القديمة التي عاشها في أيام شبابه قبل ما لايقل عن ستين سنة. ثم ها هو يتنمّر مأخوذا بحماسة السنوات الخوالي التي لم تنطفئ شعلتها بعد في أحشائه، فيرفع عكازه ويلكز به مؤخرة الشرطي الذي عن له أن يتخذ له موقعا لوقوفه مباشرة أمام وجهي: آ سيدي! قال له وهو يلكزه بالعكاز، إن هذا الرجل لم يأت من أقصى شمال البلاد إلى هنا كي ينظر إلى مؤخرتك (“إلى ترْمتك”، كما قالها باللهجة التونسية)!” ولم يكن لذلك الشرطي الشاب من ردة فعل، وهو يلتفت ليرى وجه صاحب العكاز وعينيه الملتمعتين بعودة الحماسة العريقة، سوى أن ابتسم وتنحى من مكانه مبتعدا دون تعليق.

في تلك السنة البعيدة كانت دوز تعيش أيام مهرجانها وقد أعد لها المنظمون من الزينة والطنافس ما جعلها تبدو لي مفتعلة غريبة شيئا ما. مثل فتاة مربكة داخل ثوب ليس على مقاسها، أو لم تتعود على ارتدائه. وكانت هناك سيارات بأبواق ومفخمات صوت، وأعلام ولافتات كثيرة. وكان هناك أشخاص يركضون مدججين بالكاميرات وآلات التسجيل، وموظفون بأزياء طواويس رسمية، وحركة مربكة بفعل هاجس التنظيم والترتيب، ووتيرة دخيلة تتحكم فيها آليات غريبة عن ذلك المحيط: الصحراويات القادمات من منطقة الفوّار، والجالسات أمام خيام مرتجلة منهمكات في إعداد الرغيف الصحراوي الذي يطهى تحت الرمل الساخن، مثل خيامهن المرتجلة والرمل المستجلب، ومثل الفرسان الذين تحولوا إلى ما يشبه منشّطين سياحيين، ولعبة كرة العصا، والعرض غير الموفق لظاهرة “الغورة” (الإغارة)؛ الكل، وكل شيء يبدو مربكا في دور مسرحي مفتعل. ودوز في مجملها خلال ذينك اليومين مدينة على مزاج غير مزاجها.

فررت منها بسرعة إلى جُمنة المجاورة لأحظى هناك بضيافة أسطورية لدى عائلة أحد أصدقائي وبجولة طويلة عبر واحاتها، وكانت لي فيها أمسية استمعت فيها إلى شتى الأخبار عن أحوال الواحات وطرق توزيع المياه على الطريقة التقليدية القديمة قدم الواحات، والتي يسميها المزارعون هنا “اشتراكية”. استمعت إلى حكايات قديمة وتذمرات وهواجس جديدة لأولئك المزارعين الذين بدأت تضايقهم مزاحمة شركات دخيلة تستفلح مساحات شاسعة من الواحات المستحدثة تستنزف المائدة المائية المحدودة التي ظل أهل الواحات منذ قرون عديدة يتحكمون في استثمارها بطريقة عقلانية غاية في الدقة والاقتصاد.

غادرت دوز آسفا شيئا ما، ومن داخل تلك الفوضى المستحدثة كان هناك شيء غامض يهمس لي: كلا، هذه ليست دوز الحقيقية. شيء ما لم أستطع أن أحدده بدقة، ربما الجدران، ربما تلك الأبواب العتيقة بدهنها المقشر ومزاليجها المعدنية الثقيلة، ربما هيآت الرجال الجالسين أمام عتبات الدكاكين حول براد الشاي وعلى ملامحهم تعبير مبهم يفشي تبرما-دون نفاذ صبر مع ذلك-، قسمات شبه محايدة توحي بأنهم إنما يجلسون هناك في انتظار أن تنتهي هذه المسرحية التي ليست على مقاس ذوقهم.

أرتحل عنها إذن شبه مكره. لكنني سأثأر لنفسي بالعودة في زيارتين لاحقتين، في وقت لا مهرجانات فيه ولاحليّ ولا طنافس. لا شيء سوى دوز في بهجة تلقائيتها ووتيرة حياتها المنسابة في هدوء وبطء المتسكعين في سوقها بخطى الأمراء.

في زيارتي الأخيرة سأجد صديقا قديما قد حط به الترحال الطويل من باريس إلى تونس في مدينته الأصلية أخيرا. عرفت صالح بباريس رساما ومسرحيا، وكانت لنا بعض نشاطات طارئة معا. ثم عرفته فنانا قلقا في تونس، رأسه مليئة مشاريع مسرحية وعروضا ثقافية متنوعة وتصورات لم تكن تجد لها أذنا صاغية في دوائر الإدارات الثقافية آنذاك. ثم ها أنا أعثر عليه في دوز كهلا قد شذبت السنوات والتجارب والإخفاقات الكثيرَ من أحلامه المعربدة، لكنها لم تطفئ في داخله جذوة الولع الذي كان يجعله في ما مضى يبدو مضطربا سريع الحركة في نوع من ذلك التوتر الذي يحدثه تزاحم الأفكار والمشاريع والأحلام. وذلك هو، بكل تأكيد، ما لم يكن ليروق للسادة القائمين على أمر الثقافة في البلاد، لأنهم يرتاحون إلى مثل تلك الحركية المتوترة، فهم سادة رصانة في كل أمر، وربما هاجسهم الأول هو تأطير الشغب الذي ينهش روح الفنان والمبدع وتشذيبه وتقليم أظافره حتى لا يغدو مربِكا أو مقلقا. فالأمور عادة ما تجري لديهم داخل مكاتب مكيّفة (لا لتكييف الهواء فقط، بل لتكييف العقول أيضا وتبريد الغدد الغضبية)، وهم كلما تقدموا في الوظيفة وثقل على كاهلهم حمل الروتينيات ازدادوا ثقلا في الجثة أيضا، وثقلا في الحركة، وبطء في التفكير؛ مبدؤهم دوما: “في التأني السلامة”، و “ما تستطيع أن تقوم به غدا، لا داعي إلى الحرص على القيام به اليوم”.

هاهو إذن صديقي القديم الفنان الهائج ساخن الحركة والمزاج، وكأن مكيفات مكاتب الوظيفة لم ترق لمزاجه ففضل أن يقذف بنفسه من جديد في وهج الصحراء وقيظها المشتعل. رأسه يطفو على عادته بشتى المشاريع الفنية: مسرح، إنجاز نُصب تذكارية، أعمال كاليغرافية على الجلد، وحلم يراوده بإنشاء فضاء ثقافي سياحي في الصحراء فوق قطعة أرض على ملكه الخاص تبلغ مساحتها خمسا وثلاثين هكتارا.

سنزور معا النصب التذكاري الذي من تصميمه والذي وضعته المدينة أخيرا –أي أخيرا!- ذكرى للشهداء العديدين من أبناء الجهة الذين وقعوا في معارك ساخنة وبطولية ضد جيش الاحتلال الفرنسي في سنوات الاستعمار.

كنت في زيارتيّ الأولى والثانية، وأنا أعبر تلك الربوع من دوز إلى جمنة والرحيمات وقبلّي وسوق الأحد أتذكر فصولا من أحداث شهيرة شهدتها تلك المناظق في سنوات الاحتلال، أتاني صداها من قراءات وروايات مختلفة، وكنت وأنا أمر بالقرب من موضع يسمى قصر حامد أظن خطأ أن ذلك هو الموقع الذي دارت فيه معركة شهيرة بين مقاتل من المرازيق يسمى حامد… وعساكر القائد العسكري الذي عن له تأديبا للمقاتلين المرابطين في الجبال ومحاولة لكسر شوكتهم وجرح كرامتهم أن يأمر بأسر عدد من نسائهم في مقر إقامة القيادة العسكرية. كان الهدف أيضا ربما استدراج المقاتلين إلى كمين بحسب خطة أو حيلة منطلقها: إن أردت أن تدفع بعربيّ إلى عمل طائش وغير محسوب العواقب فما عليك إلا أن تمس شرفه في نسائه. وفعلا لم يتردد حامد في النزول من مكمنه، لكنه جاء مجيئا مباغتا في ساعة الظهيرة فاجأ القائد العسكري وجنود حراسته، وكانت النتيجة أن أبيدوا جميعهم وتم إطلاق سراح الأسيرات. وقد خلد أحد شعراء الجهة تلك المعركة في قصيدة بالعامية مطلعها:

هجم حامد وقت الترقيده يرحم سِيده

فدا ثاره من الرومي بيده

بعثْها لهْ محْدوفة مزْروفة

حشّتْله الغوفة

كثرْ تحت الشعّال مْريده *

هوذا النصب التذكاري إذن بلوح من رخام فوقه قائمة لأسماء الشهداء. والنصب قد أقيم، كما سيصحح لي صديقي صالح في الموقع الذي جرت فيه معركة حامد، أي هنا على طرف مدينة دوز وليس بالقرب من سوق الأحد كما كنت أعتقد. وهو في الآن نفسه موقع لسجن قديم كان مخصصا للمقاتلين الذين كان يحكم عليهم بالإعدام من قبل السلطة العسكرية الاستعمارية. وهو عبارة عن زنزانات داخل دهليز تنزل إليه بخمس درجات حجرية تفضي إلى قبو ضيق لا تتجاوز مساحته ثلاثة أمتار مربعة بمقعد حجري ينحشر فوقه أكثر من خمسة عشر سجينا في بعض الأحيان متكادسين فوق بعضهم والبعض منهم يجلس وينام على درجات السلم الحجري.

***

عميقا داخل الواحة يتربع فندق le Saharien-هكذا هو اسمه، وباللغة الفرنسية! ربما كي يتميز عما حوله ويصنع لنفسه هويته الخاصة، كما لو أنه يقول لأهل البلد: ابتعدوا فلست منكم، فيما هو لا يستغني تماما عن أن يستمد له نسبا من الصحراء، طمعا في مزيد من الإغراء الذي يمكن أن يمارسه الإسم على السائح الغريب.

فندق سياحي من طراز الخمس نجوم ما فتئ يمطط أعضاءه ويتوسع مبتلعا قطع الواحات الصغيرة مستعملا لذلك الغرض شتى الإغراءات المالية والضغوط أحيانا. لكنّ “دّاكْ عيشة” العجوز المسنة ماتزال مصرة على رفض بيع قطعتها الصغيرة رغم كل محاولات الإغراء بالمال حينا، وممارسة شتى الضغوطات أحيانا. وظلت داك عيشة على إصرارها العنيد تقسم بكل القداسات أن لن تسلم أرضها لفندق سياحي لو وضعوا لها الجنة بين يديها، وترد القادمين من أهل الإغراء والتوسط وهي تطردهم بالسباب والشتم والدعاء عليهم بالعراء والخزي إلى يوم يبعثون. ظلت على إصرارها لما يزيد عن عشرين سنة تعيش محاصرة داخل جزيرة ضيقة مغلقة وسط المساحة الكبيرة لحديقة الفندق مرددة على من حولها: يوم أموت ادفنوني هنا حتى أجعل لهم مقبرة في قلب هذا الوتيل الملعون، وأبقى حتى بعد موتي شوكة في حلقهم، الكلاب أبناء الكلاب!

ربما داك عيشة تحلم في السر بأن تظل روحها هناك بعد مماتها، متشبثة بتلك الرقعة الصغيرة من الأرض، ولربما تطلع عليهم ليلا في هيأة روح شريرة منتقمة تقض مضجعهم وتفسد عليهم أجواء السكرة والسهرة.

***

رأيت تواجدا مكثفا للبضاعة الصينية في سوق دوز هذه المرة فعنّ لي، ليس دون شيء من الاستفزاز، أن أسأل الشيخ عمر خال صديقي الفنان، وهو رجل طيب محدّث لذيذ، ذكي جدا، ذو ذهن فطن متوقد بالرغم من تقدمه في السن، وعلى درجة عالية من الوعي السياسي. مناضل وطني قديم، قد حكم عليه بالإعدام هو أيضا من طرف السلطة العسكرية الاستعارية ففرّ إلى ليبيا سنة 1946 ولم يعد منها إلا سنة 1956: سنة حصول البلاد على الاستقلال. فاجأني هذا الشيخ باطلاعه الواسع على الأحداث السياسية العالمية الماضية منها والحالية، وله في كل ذلك مواقف واضحة يصوغها لنفسه خارجا عما تردده وسائل الإعلام عادة. عنّ لي إذن أن أسأله شبه مستفز وأنا أهم بشراء حذائين صحراويين وشاشيْن: هل مازال الحذاء والشاش الصحراويان يصنعان هنا في دوز؟ فأجابني: وأين تريدها أن تصنع إذن؟ في صفاقس؟ فقلت له إنه قد سبق لي أثناء رحلة في الصحراء الغربية وفي جنوب المغرب أن لاحظت أن الشاش الصحراوي هناك مستورد من الصين وكذلك اللحافات التي ترتديها الصحراويات (الثوب)، ففكرت ربما أصبح الصحراوي التونسي أيضا يستورد الشاش من الصين، خاصة وقد رأيت الكثير من البضاعة الصينية في السوق. ابتسم الشيخ عمر ونهض وهو يمسك بيدي: تعال! تريد أن تقتني حذاء صحراويا؟ تعال معي. ثم قادني ونحن ندب بخطى بطيئة إلى دكان مجاور لحرفيّ من صانعي الأحذية الصحراوية. “هاهي الصين متاعنا في دوز.” قال لي مبتسما ونحن نقف على عتبة الدكان ونسلم على صاحبه، مضيفا بعدها ونحن نرتشف الشاي الذي قدمه لنا صاحب الدكان: شوف يا وليدي، يوم يصير المرزوقي يستورد حذاءه وشاشه من الصين، يمكنك أن تقول على الصحراء السلام. الحمد لله الدنيا ماتزال بخير هنا… إلى متى؟ الله أعلم.

*(هجم حامد ساعة القيلولة رحم الله أباه

وبيده ثأر من الرومي لنفسه؛

أرسل له رصاصة سريعة متوترة

جزّت له مقدمة الرأس

فكان له تحت الشعّال** زحف وتخبّط)

**(الشعال نبات صحراوي في هيأة غويبات كروية الشكل لا ترتفع أكثر من خمسين صنتمترا في أحسن الأحوال)


* روائي وباحث من تونس يعيش في ألمانيا

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *