*جهاد هديب
لعل من المنصف في حقّ عبدالرحمن سيساغو، المخرج الموريتاني، الذي حمل فيلم «تيمبوكتو» توقيعه، القول بأنه «صانع» كبير لشاعرية الصورة السينمائية، بكل ما تحمله كلمة شاعرية من رهافة في الحسّ والتعبير معا.
جاء عرض الفيلم في سياق مسابقة «الأفلام الروائية الطويلة» لمهرجان أبوظبي السينمائي الدولي لدورته الثامنة، التي تختتم فعاليتها الأحد المقبل، حيث من الأرجح أنه سوف يزيد من صعوبة الخيارات المتاحة أمام لجنة التحكيم بعيدا عن فكرته الأساسية التي تقوم على «اغتصاب» التطرف الديني وقلب الحياة رأسا على عقب من قبل التكفيريين، الذين دخلوا المدينة الشهيرة «تيمبوكتو» بكل ميراثها الأفريقي والعربي والإسلامي ليضعوا تلك الحياة في مهبّ الريح.
لا تختفي الروح الأفريقية في «تيمبوكتو»، بل تتعمق أكثر عما هي عليه في أفلام سيساغو السابقة، إذ يخلق المخرج من المجال والمحيط الأفريقيين شخصية خاصة بهذا المكان، فيقتنع المتفرج أن هذا الفيلم بالذات ما كان له أن يخرج إلا من هذا المكان وبهذه الروح. إن المكان في «تيمبوكتو» والتحولات التي تجري عليه هي جانب من حكاية الفيلم التي تمشي بالتوازي مع التحولات التي بات مجتمع المدينة يشهدها؛ مدينة المخطوطات التي تعود إلى مئات السنوات إذ تتطاول عليها يد الجهل والتخلف والتطرف الديني وتقوم بإحراقها هكذا دون خجل من وجه المعرفة.
يملأ عبد الرحمن سيساغو فيلمه بالتفاصيل اليومية التي قد تهملها «عين» السينما أحيانا ليجعل منها تفاصيل درامية أخّاذة إذ ترتبط بالبيئة والروح الأفريقية في مشهد سينمائي ينسج المخرج تفاصيله بوعي للأثر الذي سوف تتركه هذه التفاصيل على المتفرج وبهدف خلق حسّ إيجابي بنقل وقائع حدثت بالفعل مع الاعتداء «الجهادي» التكفيري على الحياة اليومية في مدينة «تيمبوكتو» إنما جاءت إعادة صياغتها في الفيلم على نحو شاعري.
هكذا يشعر المرء أن عبد الرحمن سيساغو إذ يقدم تفاصيل صغيرة من نوع منع الشبان عن ممارسة كرة القدم وفرض الحجاب بقوة السلاح على النساء والرجم والقتل وما إلى ذلك، لا يؤرخ للحال التي وصلت إليها المدينة ولا يؤرخ كذلك للفكرة الجهادية وما أحدثته من تحولات مفاجئة في الحياة اليومية وشديدة العفوية للناس، بل يدين تلك الفكرة وما أحدثه التطرف الديني التكفيري نقل للحياة من مستوى إلى آخر؛ من ما قبل الحداثة والبطركية إلى ما بعد الحداثة هكذا دفعة واحدة. دون أن يسمي شخصا بعينه أو يحمل المسؤولية لطرف دون الآخر، بل يشعر المتفرج أن الجميع مُدان لما وصلت إليه الأمور. لهذا الجانب، فإن «تيمبوكتو» أشبه بنشيد إنساني طويل عن حياة البشر وعذاباتهم اليومية ومصائرهم الجمعية والفردية التي باتت غامضة الآن.
يشعر المرء أن الممثلين: ابراهيم أحمد وتوولوو كيكي وهابيل جافري وفطومة دياوارا وهشام يعقوبي وكيتلي نويل قدّ قدموا جهودا واضحة وفهما عاليا للشخصية ودورها في الفيلم وحراكها خلاله. لقد دخلوا جميعا، بوصفهم شخصيات درامية، إلى جوّانية العمل وقاموا، بأدائهم، بالتعبير الفني عن الفكرة العالية التي سعى الفيلم إلى تقديمها للمتفرج طيلة الدقائق المائة التي استغرقها ومرّت سريعا.
جملة القول، أن المخرج سيساغو لا ينتمي إلى مدرسة سينمائية بعينها، فهذا الرجل المقلّ، يعمل بهدوء على «شاعرية» الصورة السينمائية ويشتغل عليها بدأب وأناة إلى حدّ أن وصفه بشاعر السينما الأفريقية ذي الأسلوب التأملي ليس ببعيد عن واقع الأمر أبدا.
_______
*الاتحاد