*جمال ناجي
قضية الزمن شغلت الإنسان منذ بدء الخليقة، لأنها ارتبطت بأسرار الحياة والنفس والكون، وانطوت على ألغاز ما زالت قيد التفكير، وربما يطول هذا التفكير كثيرا، لأنها غير ملموسة، وإن كانت محسوسة في بعض جوانبها لكن، على الرغم من هذا، يمكن الحديث عن الزمن من زوايا التصور والاحساس والتغير.
في اللغة العربية لا فرق بين الزمن والزمان، وربما جاءت الألف الممدودة في وسطها للتدليل على الطول والامتداد المحير، وما يدل على حيرة العرب في مفهوم الزمن أنه اتخذ مسميات كثيرة، كالأزل الذي يعيد الأشياء الى الماضي اللامتناهي، والأبد الذي يشير إلى المستقبل اللامتناهي، والأمد الذي يعني الغاية او الأجل، ثم الوقت، والمدى.. الخ.
ما يلفت الانتباه في المسألة أنه ومع تقدم الحياة البشرية نشأت مسميات كثيرة للزمن، وأصبح بوسع الباحثين تطبيق مفهوم الزمن على الكثير من الحالات والظواهر المرتبطة بوسائل عيشهم وإدارتهم لشؤون حياتهم، حتى انني قرأت قبل مدة دراسة تحمل عنوان «الزمن التجاري» يتحدث كاتبها عن المنافع المتحققة جراء الإدارة التجارية للزمن، كما قرأت موضوعات تتحدث عما أطلق عليه الزمن المدرسي، والزمن العسكري.. الخ.
يعد الزمن في الرواية أساسا لا تستقيم الأحداث والتحولات من دون توظيفه بمنهجية عقلية يلجأ الروائي إليها بوعي أو بلا وعي، لكنها تظل لازمة وملازمة لكل عبارة يكتبها، ولكل حدث يتواصل مع ما قبله ويمهد لما بعده، حتى انه بات بوسعنا أن نقول، من دون تردد، بأن من لا يعرف الزمن لا يعرف كيف تكتب الرواية، لأن فقدان الأحداث للضوابط الزمنية يفضي إلى تهتك الحكاية وإلى انفلات الأحداث ووقوعها في الفوضى وفقدان الكاتب زمام السيطرة على مجريات روايته.
ثمة حزمة من الأزمان تتواشج في العمل الروائي وتؤدي وظائفها بدقة،
الزمن التاريخي:
هو التتابع الزمني الذي يحكم العلاقة بين السابق واللاحق، في سياق حركة الأحداث وتمثلات حراكها الزمني، وهو في كل الأحوال، أسهل أنواع الزمن وأكثرها قابلية للسيطرة.
الزمن النفسي:
هو حكر على الإنسان القادر على الاحساس والحركة والتطور بموجب هذا الاحساس والادراك، وهو يعني إحساس الإنسان بمرور الزمن، وهذا الاحساس متفاوت وليس موحدا بين الناس، فالبعض يشعر بسرعة مروره والبعض يشعر ببطئه. وقد أثبتت الدراسات الزمنية أنَّ الوقت لا يمرُّ بسهولة عندما نكون قلقين، فثمة نوع من الثقل الذي يتنزل في النفس ويؤثر عميقا في الأحاسيس، وهي مسألة مرتبطة بمعاملات بيوكيميائية، فالانتظار القلق والإحباط واليأس وغيره، كل هذه الحالات النفسية تؤدي إلى إفرازات تخلخل التوازن الكيميائي للجسم، ما يؤدي إلى الإحساس بثقل الوقت وبالمرور السلحفائي للزمن. أما في حالات الفرح فإن العكس هو الذي يحدث.
الزمن البيولوجي:
المتعلق بالتغيرات المواكبة للتسارع الزمني التاريخي، وهو مرتبط بالزمن النفسي بشكل كبير، والعلاقة بينهما قائمة على التأثير المتبادل، لكن يجدر القول بأن من مظاهر الزمن البيولوجي في الرواية ما يرافق نمو الشخصيات من تغيرات بدنية.
الزمن الفلسفي:
من تجلياته، الزمن الوجودي الذي تناوله مارتن هيدجر وربط من خلاله بين الأزمان الثلاثة (الماضي والحاضر والمستقبل)، الزمن الميتافيزيقي المتعلق بتفسير الأديان لمسألة الزمن والساعة والبعث، التي كثيرا ما تتقاطع مع التفسيرات الأخرى للزمان، ثم الزمن الصوفي الذي كان للعلامة ابن عربي دور رئيس في تحليله ووضع توصيفاته التي من بينها (عدم تكرار اللحظة)، وهو ما نجد ما يماثله عند الشاعر ت. س. اليوت، وفي الفلسفات القديمة والحديثة ورؤيتها للزمن الفلسفي، بدءا بهيرقليطس وحتى كولن ولسون في كتابه «فكرة الزمان عبر التاريخ». وهنري برجسن في كتابه «التطور المخالف»، الذي يرى فيه أن التغير في النفس البشرية دائم ولو توقف هذا التغير للحظة واحدة لتوقف الزمن.
الزمن الروائي:
هو الذي يضبط كل أنواع الزمان في الرواية وفقا لمنظومته ولمنطقه الداخلي، لذا فإن أي خلل في الأزمان الأخرى ينعكس سلبا على الزمن الروائي ويؤدي إلى اختلاله. ومسألة الزمن الروائي لا تخص الكاتب وحده، إنما هي تمتد لتشمل الأحداث والمواقف والتغيرات وسلوك الشخصيات وانعكاسات الأزمان الأخرى عليها.
زمن الـ(مابعد): هو زمن الأحداث التي يمكن أن يتخيل القارئ حدوثها بعد ان يفرغ من قراءة الرواية وهو زمن الامتداد.
وأخيرا، هنالك ما نطلق عليه التوقف الزمني، اذ يستطيع الروائي وقف الزمن التاريخي في روايته عند لحظة معينة، وهي لحظة تعطيل التتابع وتجميده لصالح الإيضاح مثلا، ولا أعني الحوار الذي يعد واحدا من تجليات الزمن التاريخي.
ومع أن الأخطاء الزمنية في الروايات كثيرة ومتعددة، إلا أن كشفها لا يعد أمرا يسيرا بسبب احتياجها إلى درجة عالية من التدقيق والمتابعة.
الأخطاء الزمنية الوحيدة التي يمكن كشفها بسهولة، هي أخطاء الزمن التاريخي في الرواية، وهي على أي حال نادرة في الروايات وقلما يقع الروائيون فيها.
الأخطاء التي يتم ارتكابها في بعض الأعمال الروائية تتمثل في كيفيات التعامل مع الزمنين النفسي والفلسفي، وبدرجة أقل، الزمن البيولوجي، ولو أخضعنا كثيرا من الروايات العربية والعالمية إلى اختبارات الأزمان النفسية والفلسفية على وجه التحديد، لاكتشفنا وجود أخطاء وتجاوزات كثيرة، على الرغم من البروباغاندا، التي ترافق ترويجها، خصوصا في التعامل مع مسائل النمو والتغير النفسي للشخصيات، أو مواكبة التغيرات البيولوجية التي تطرأ على الشخصيات للتتابعات الزمنية التاريخية.
أما الزمن الوجودي فهو الزمن الذي لم يتم استثماره بشكل كاف في الرواية، ربما بسبب صعوبة استيعاب القارئ أو حتى الكاتب له.
في كل الأحوال، فإن من أسباب حدوث الأخطاء الزمنية في الرواية، انشغال الكاتب بترتيب الزمن التاريخي على حساب الأزمان الأخرى.
________
٭ روائي اردني فلسطيني/القدس العربي