*د. ابراهيم خليل حسونة
( ثقافات )
يرى البعض في الرواية أنها المثل الأعلى لكل العلاقات الدقيقة المتداخلة التي اكتشفها الانسان. انها التاريخ الإبداعي المتخيل، داخل التاريخ الموضوعي المعاصر.أصبحت على لاختلاف مستوياتها ، توجهاتها، ورؤاها ، وأبنيتها الزمانية الجمالية والدلالية، الوعي الإبداعي الكائق عن جوهر مفاراقات هذا التاريخ وتناقضاته وصراعاته، أزماته، فواجعه والتباساته، سواء في تضاريسه الحديثة الخارجية أو في أعماقه الباطنية. كما أنها كتاب الحياة المفتوح، وفنّ البوح والتفصيلات الواضحة والمحددة. عالم يبلو الواقع الذاتي والموضوعي، الاجتماعي التاريخي. حيث تلاحم الروائي المتخيل بالتجربة الحيالتية المعيشة، والتي رفدت بعامالين اثنين.
_ الأول: هو أن الرواية لم تكن أبدا مزدهرة في غير الوقت الحاضر في الكمية على الأقل.
_ الثانية: هي أنها لازالت بالنسبة للكاتب الوسيلة المفضلة في التعبير الأدبي.
وهكذا يمكننا أن نعتبرها الآلة التي تقيس درجة حرارة المجتمع لأنها تتطرق إلى كافة تيارات الفكر، وتتكيّف في كلّ الأحوال والمواقف، وتتبع جميع المغريات التي تثيرها الظروف. بناء على ذلك تبرز أهمية وضرورة الربط بين اشكال التعبير الأدبي، وطبيعة الواقع الاجتماعي. وهو ما تقترحه علينا رواية “نهاية سري الخطير” للكاتبة المتميزة ” زكية خيرهم” والصادرة طبعتها الثانية عن دار “زاوية” للفن والثقافة _ الرباط، 2008م. والتي تؤكّد أنها ليست ابتداعا لمعنى العمل، لكنها رؤيته التي تتحرّش به، وبالمتلقي بقوة. أثراها كون الرواية، قائمة على الاستطراد الحظي للنص، الذي يعتبره منظموا الرواية لا نهائيا. منذ البداية تبدو الرواية حافلة بالكثير من الاسئلة المباغثة التي تفرض نفسها بقوة الواقع، ومرارة الحياة الصعبة التي تعيشها المرأة العربية – والممتدة على مساحة أرضية واسعة، تتفاعل مع ترابها، وشخوصها، في مناطق مختلفة، ومتداخلة- المنطقة العربية – أمريكا- النرويج – كمحاولة احتجاج، وتحدّ لواقع مؤلم. يمتدّ على طول جسد الرواية، وعبر ستة عشر فصلا. تبدأ بفجيعة الإعتقاد، بفقد العذرية، وحتى لهفة التأكد من عدم ضياعها – معالجة بجرأة واقتدار قضية شائكة لم تزل تشكل هاجسا مرعبا للفتاة العربية والمسلمة من المحيط إلى الخليج حيث الابراز الجليّ للصورة الفجائعية، لطقس الزفاف المجنون.
في مشهد خرافي ذي طابع غرائبي لطقس الزفاف، والعرابات يترقبن اللحظة المصيرية …. للختم الذكوري في طقس اختبار شرف العروس، وعبر قطرات دم، للعلام الخط الفاصل ما بين العفة والدّنس، وخيط رفيع يفصل بين الموت والحياة.
هكذا يتضح لنا من هذه الجزئية صورة بائنة للثقافة الواقعية عبر بعدها المكاني، ديستويفكي” الواقعية تصوير أغوار النفس اللبشرية” وهذا يؤكد أن الكاتب حين يختار الزاوية التي ينظر منها للواقع، يعبر عن وجهة نظره، متأثرا بوصفه الذاتي داخل المجتمع، والطبقة التي ينتمي إليها، باعتبار أن الواقع الاجتماعي هو الذي يحدّد حياة الكاتب واحساساته. هذا الواقع نستطيع أن نتصرف ملامحه على طول جسد الرواية، وامتداد قامتها دون أن يعترينا التعب.
الليلة ليلة زفاف أختي، وغدا ستكون ليلتي. فمن اين سآتي بالدّم؟ كيف سأتدبّر أمري؟ عندما غسلت أختي من أبي تلك البقعة الصغيرة من الدّم التي كانت بلباسي الداخلي، هدّدتني ألا أخبر أحدا بذلك السّر الخطير، فدفنت في سري في قبر منسي بقرار عقلي، وأقسمت ألاّ أبوح به لأحد كي لا ينتهي بي المطاف إلى عالم الأموات” ص 6.
بناء على هذه اللوحة النصية التي تشير بالكثير ، نرى أنّ الكتابة عن (الأنا – الذات) أو ما يسمّى “الأنتوبيوغرافيا” عمل بسيط يعبر عن (صبو) الرّائي في عالم الكتابة. يتناول ذلك حياته، تاريخه الشخصي، وعلاقته بالأنوات، أو الذوات الآخر، لكل ذلك تمنت “غالية” أن تكون ذكرا …
” كم تمنيت أن أكون ذكرا، لأن الذكور لهم امتيازات في المجتمع من الاناث، إخوتي يمكنهم أن يتأخروا خارج البيت حتى نصف الليل، ولا أحد من والدي يلومهم على تأخرهم ” ص 6.
” همّ عائلتي أن توفّق أختي بعريس، وبحياة عائلية سعيدة، اللعب خارج البيت، وركوب الدّراجة، والقفز على الحبل ممنوع، لانّ ذلك يُفقدها عذريتها.” ص 43
هنا شكل سير ذاتي، وهو كما حدّده فيليب لوغون نص حكائي يستعيد المادي نزفا ويرويه، أو يلقيه شخص حقيقي عن حياته الخاصة، “الاهداء ص 3 “. فهذا الشخص بناء على تحديد “لوغون” ذو عناصر تركيبية ثلاثة. عناصر محورية “الكاتب – الراوي” الشخصية المركزية” والتي هي في هذا النص الروائي عبر عالمها المتكامل واحدة. تتولد عنها عناصر جزئية. سهّلت تشكيل هذا العالم – النص. هكذا تبرز علاقة الذات بالموضوع التفاعلية غير المترابطة رغم أنها متواصلة. لقد كتب ” لنين” عن ذلك قائلا:
(يواجه الانسان العالم الموضوعي أثناء نشاطه العملي، يعتمد عليه يعتمد عليه ويتقرر نشاطه بعالمه هذا/ مع ذلك، وفي نفس الوقت، وكما قال فإن الممارسة بالذات هي التي تشكل الواقع المباشر للإنسان” كما أنها تتصادم مع الذوات الأخرى. في تداخل صراعي يفرضه الوعي المغاير للتقليدي والطقوسي المتعارف عليه.
” المرأة ناقصة عقل ودين، ضعيفة أمام الشهوات، كيدها عظيم، رجس من الشيطان، لابد للرجل أن يضع حدّا لذلك الكيد وأن يمنعها من السقوط في هاوية الشيطان وهاوية الجنس ببتر عضو من جسمها الذي وهبه الله لها مثل ما وهبها سائر الأعضاء. لا يجب أن تحسّ بمتعة الجنس.” ص 97.
ولكي تبرز الكاتبة إضاءاتها في هذا المجال اعتمدت في لغتها: الأمثلة واللهجات الشعبية، الأغاني والأشعار، الثراث الطقوسي ثمّ الوعي المعرفي – شريط جو داسان – محاضرات مارلين بوث والاستاذ جون دوغون، ثم نورا ابسن – هذا التوليف الذي يتقدّم من الحسي الى الفلسفي، من العقلي والخيالي، المرئي والخاص إلى اللانهائي في النهائي، تشكّلت رؤية كاتبتنا صورة موطنها. وكأن هذه الرؤية من العوامل التي ساعدت على الطرد – الغياب – الخروج – لهذا بات الجمال الفني غريبا، رغم واقعيته مادام المبدع – المبدعة هو – هي – المراقب والفيلسوف في آن … لهذا انطلق وعيها في ردّه فعل عنيفة ، ناقدة وبشكل لاذع. يدعو بشكل مبطن للمساواة حتى في العقاب إن كان لابدّ من ذلك.
” من يفقدها الشيء الأعز في نظركم، أليس الرجل ؟! فلماذا لا يخصونه حتى لا يمارس الجنس بطريقة غير شرعية؟” ص 223.
هكذا تبدى المسار الفني في الرواية في التزام كاتبتنا الثابت بينها وبين المجتمع عبر النص، بواقع عايشته، قبات يتشكل في سياقات جدلية مهولة. فضاءات وأمكنة غائمة، في زوايا الدهن، عبر رحابة لا نهائية للمكان والاحتمالات.
الشكل والمضمون:
لا يرى علم الجمال – ومنه المادي – المضمون فقط انعكاسا للحياة بل وفي الشكل أيضا، فليس الشكل ببساطة البنية المادية التي تدعم المضمون وتحتويه. إنه شأن المضمون انعكاس للحياة، يتم ابداعه بمعرفة وسائل مادية، وتقنية – لغة – خاصة بفن من الفنون، وهو دوما معماري تركيبي. غير أن هذه الوسائل المادية أو التقنية تمتلك إمكانات تعبيرية ، ومجازية، تمدّ عروقها في سياق العمل الفني بأكمله، وتكرر الشكل، وهي لا تأتي جزافا أو تصادفا فوضويا، بل وفق ما يقرره المضمون ذاته، ولذا (يغدو الشكل بنية للمضومن، وليس بنية لهيكل خارجي فقط) هذه الرؤية تنفعنا إلى معالجة الوعاء الشكلي الذي وضعت فيه الكاتبة موضوعاتها الروائية، وبمعنى آخر التطرّق إلى الأسلوب الكتابي الابتدائي الذي تمنطقت به كاتبتنا المتميّزة. هذا وإذا كان الأسلوب الكتابي، والذي تبينه جمله المتزاحمة، ويضجّ بالتأزم والمشاعر المضطربة، وكذلك جدل الأسئلة، والذي هو مجموع الطاقات الايحائية في الخطاب الأدبي. ميزة كثافة الايحاء، وتقلّص التصريح والتصالح، مع الخطاب العادي. رغم بعده عن نفعية الظاهرة اللغوية فيه، حاملا فعله الدفاعي الشرس عن استقلالية الفرد – وهنا المرأة – ما جعل من هذا النص مشروع تشكل صدامي دون فرار، أو انصواء تحت سادية التقليدية تحت سارية تقليدية القصة، في السلوك الاجتماعي، كوعي توعوي، يجوس إيحاء النّص، ويمتدّ على طول مساحته. هكذا تتبدى هنا قوّة علاقة الاشياء بأشيائها، حيث يمكننا الادعاء، بتشابك جملة من الرؤى، تمثّلت في:
الرؤية المعرفية:
يعتبر الفرق في استعمال الكلمات عامل أساس في مركزية النص الأدبي. يضاف الى ذلك عناصر الايقاع، واكتشاف دلالات، والنصّ لا يتوحد في التحليل الأخير إلا من خارجه. وخارجه ليس مؤثراته الواقعية فقط. انه اكتشاف عناصر الجدل، ونقلها الى النص الذي يتفجّر بها، ثم ينتقل إليها، وهي في الخارج، في لهب الصراعات الاجتماعية، ليسميها داخل دلالتها الجديدة، ما يجعل مهمة الروائي هي – تأريخ الحياة الخاصة – على أساس الصدق، في تصوير السمات الأساسية في المجتمع. وتجاوز رواءة، ووضاعة، وبؤس الحياة اليومية، وتسليط الأضواء، على المواقف التي تعبر عن التناقضات الفردية، والاجتماعية، لتوتر وعنفوان، وبنيات متعارضة. لو وضعت الكاتبة وجهة نظرها تجاه العقل الدوغماتي للرجل العربي الذي يأبى تحرير عقله من مفهومه التقليدي المتخلّف تجاه المرأة حيث انه يرى فيها:
” مجرّد آلة لتفريخ عدد من الأولاد والبنات، ينشأون ضمن نفس الثقافة، الولد يكبر ليمارس جاهلية والده، مع انثى كبرت لتعيش معاناة والدتها.” ص 369
الرؤية المعرفية في نص “زكية خيرهم” ارتبطت فلسفتها الجمالية بالدلالة الاجتماعية والتربوية لابداعها. انها بالمفهوم الروحي محاولة للنقاء – التطهير، والتطهير ليس احترافا ذاتيا فقط، وانما هو حالة روحية ثابتة ومعقدة، يصطدم فيها الاحتباس والفقد، مع الاحساس بالعثور على قيمة عظمى (الوعي به من أجله) (وعدم تعليب الوعي)، ورفع الحالة الصدامية ال منتهاها على أساس:
الأول: وعي العلاقة مع الآخر:
ويرتبط بخلاصة موقفية تؤكد أن الآخر لا يمكن أن يكون نسويا لأن وعيه قائم على اسس لاهوتية ظلامية، تنفي حقوق الغير عبر تابو لا يمكن تخطيه. هكذا ظلت فاطمة تستمرئ، وتبرر موقف زوجها “ابن الايمان” منها بقولها:
” سأطيعه كما أوصاني والدي، قال لي: الزوج في مقام الأب أو اكثر. لأن المرأة لها ثلاث خرجات للدنيا ولبيت بعلها ثم للقبر.” صف 60.
الثاني: وعي العلاقة مع الآخر الضديد:
وهي علاقة في جلّ معانيها صدامية نسكن في عمق الذات الجمعية، في حبها، كرهها وبرؤيتها لما يجب أن يكون.
” أنا لا أعتبر أمريكا المجتمع المثالي، كما لا أعتبرها بلد الخبث والفساد. فالخبث في كل مكان في العالم.” ص 251.
2 الرؤية النفسية:
تتمثّل رؤية الكاتبة هنا في حالة سوداوية ترى العالم عار دون دلالات، ودون غايات. كل جزء منه مقلوب حسب وعيه عبر ثقافة مكانية صارخة من الصعب التحلل منها، التقليدية الصارمة في مجتمع الكاتبة- والاباحية الفوضوية في المجتمع الغربي). تحاول الكاتبة تجاوز كليهما. عبر ربطها بين الأشياء محللة لانعكاساتها على الذات والمجتمع. وتتقدم في ذلك أحيانا لجعلها تتحدّث عن نفسها. وهي حالة من الانعكاس القيمي في وعي الانسان يبلوره شكل نوعي للنشاط النظري الثقافي، يقوم بوظيفة خاصة ضمن عملية الممارسة الاجتماعية المؤثرة على قيمتها بالنسبة للانسان، رغم التضاد النسبي بين الموقف والموقف المغاير- الايجابي – السلبي – من هنا انطلق هدير الغضب والتشظي اللفظي العائد الى التغيير الجدري في المواقف التي تنتقدها الكاتبة رافضة كل التبريرات (الدينية، التربوية، الاجتماعية) مرة. رغم حضور الواقع الموضوعي مرات عديدة.
” أمسكوني وأنا اصرخ بكلّ ما لديّ من قوة، وقطعوا جزءا من جسمي بشفرة غير معقمة، أصبت بعدها بالتهاب عدة اسابيع حتى كدت أن أموت وأغم علي. إنهم يريدون أن يعدّلوا ما خلق الله. ص 223
3 – الرؤية الحلمية التوعوية:
ترتبط هذه الرؤية برصد مظاهر الجهل فينا، وتعويض الواقع غير المرضي عنه بالحلم القافر المطلوب. وهنا محاولة الخروج عن التقليدي والخجل المصطنع، البعيد عن تلمس انسانية الانسان كروح وجسد خاصة بالنسبة للآخر المكمل – الزوج – حيث الحرية مخبأه مكمون عبر لاهوت طقوسي لا يمكن تجاوزه … وإلا بعيدا عن كلّ العقائد والانشاءات، بحيث نستطيع أن نقول أن فرحها تمثّل في حزنها وتأزمها.
” لم يخطر بباله مجرد التفكير، هل هذه السلعة حصلت على غايتها، ووصلت إلى متعتها أم لا، ولماذا يفكر!! هل هو فكّر اساسا أن لها حاجة للذة والرغبة، والاثارة والمتعة مثله؟ هي بالنسبة له جهاز الاستقبال، سوائله، وحيواناته المنوية، وكافة انواع زبالته، وعليها احتضانها وتفريخها أطفالا لا حصر لهم” ص .370.
هذا النص المقتضب أعطانا أكثر مما أرادته الكاتبة له. فجدل الصراع وتسابق الأحداث فرضا نفسيهما على بساط الرواية ، ولو على حساب الشخصية – الشخصيات في الكثير من الأحيان. كما أن لسطوة الزمان والمكان دورهما في التفاعل بين ” السيكولوجي – المعرفي – التوعوي) حيث كل ذلك المجموع الكلي للرواية التي أبانت رؤيتها الشاملة ضرورة التأمل والحسم. ولفظ زبالة التقاليد المقولبة باسم الدين والعادات وقانون العيب، ومفهوم الشرف على أساس التجزيئية والدونية بين الرجل والمرأة، القائمة على الممارسة الكابوسية والتعسفية المقيتة.
القبح الجميل والجمال القبيح
لقد وقفت هذه الرواية على جسر ثابت يربط بين القبح الجميل والجمال القبيح. فمثلت حالة جريئة ومفاجئة، ترصد لحظتها تحت احتلال التقاليد. تفككها عبر سردية ليست معقدة تتطلبها ضرورة ايصال الفكرة ناضجة. تحاول انتشال الحياة من تاريخ البلاء التقليدي – والبلاء الثابت منه والمفترض ومحو مذاقات الماضي التي تقبع في تلافيف المنح. هنا شرط وجودي، لكنه غير هام، يعطي العمل، مزيدا من الأهمية. هنا شرط وجودي لكنه غير هام، يعطي العمل مزيدا من الأهية. إنه يقرأ الحزن ويشخصه، ثم يقدم عملا غير اسقاطي، لكنه ليس منفصلا عن حركة الحاضر، واحداثياتها بكل ما يحمله من تناقضات وتنافر. فعن الحرية تقول الكاتبة .
” الحرية سلوك ومعاملة، وتصرف وإنسانية، فما رأيت في هذه النيويورك حرية المرأة، وحرية الدعارة، وحرية الإجرام، وحرية العنصرية.” ص 339
” … والبعض الآخر يمشي شبه عار، وأجسامهم موشومة بإشارات وشعارات وصور مائعة، شاب يعانق شابا وويقبله في الطريق، فتاة تعانق فتاة وتقبلها في فمها.” ص 338
” حتى الخبز أغلب دولنا تعتمد على القمح الأمريكي والكندي، والاسترالي، لماذا أصبحنا مجرّد أفواه تأكل، وآذان تخاف كلمة الحق” ص 367.
هكذا بات النص بقدر ما يحمل مذاق الرحيل، بقدر ما يتقدم نحو ضفاف اللاوقت، حالة الاختلاف هنا هي البداية في العقل، تتجلى بصورة مكتملة تكون محركا أو دافعا لبلوغ الغاية النهائية، بمضي تحقيقها، إما بتجسيدها، وإما ببلوغ معناها. إنها تصفع بقوة زمن اليأس الأنثوي – والقحط الذي لم يزل يقضم أناسه بلا هواده، هنا حالة من الخلاص، وان اتخذ شكل التأرجح، خلاص ، يخص، ينفي ذاته، كونه قائم على الفرار في الغربة، بعيدا عن الوطن. وهي غربة مرادفة للأنين، والألم، والوحشة، بين استياء العالم. ذلك الأنين الذي كرسته الطقوس التقليدية باسم العادات والتقاليد، والدين.
” آه يا أبي كم تظلمون آية الله ، وكم تستشهدون بها لإرضاء أهوائكم ظنا منكم أنكم تتقيدون بما تحتوي هذه الآيات العظيمة من معان.” ص 248
لقد رفدتنا الرواية بحالات متداخلة – متنافرة من الفزع العاري الذي يضرب دون أن يتكلّم. هاذفه إلى سلخ فكرة التسليم عن الإنسان – المرأة – الذي خضع – خضعت لعمليات صعبة، من الصدمات والعذابات ، ممثلة في العادات التقليدية، كنموذج ذاتي مندعم بالمثال الجمعي، ” من يا ترى ينفض الغبار عن تلك الطقوس المتجمدة، والمتعفنة في ذاكرتنا الخربة.” ص 293.
” لقد جعل المجتمع المعادلة كالتالي: غشاء موجود، فأنا موجودة، غشاء بكارتي مقصوص فأنا مقتولة، إذا لابد من أسلو وإن طال السفر.” ص 283.
هذه الرؤى محاولة أبدتها الكاتبة للربط بين المعرفة والأطر الاجتماعية، تذكر بما حاول “غيرفيتش” للتدليل عليه في مستوى المجتمعية، أو مستوى الميكروسوسيولوجي في مستوى الجماعة المحلية، والعمل، وحتى الدولة، وفي مستوى الطبقات والسلوكيات الاجتماعية بما يعتورها من تناقضات. وهو أمر من الأهمية بمكان. لأنه بفضي إلى علاقات إنسانية بين انظمة المعرفة بصفة عامة والبنى الاجتماعية في كليتها.
خاتمة
هذا وإذا كانت الرواية ترمومتر المجتمع، ومانفستو المؤرخ والفيلسوف، وايضا الباحث الاجتماعي بهدف الوصول لخلق الدهشة وتحريك الزلزال، أي مقارعة السلوك الخانق، والارتواء المعرفي الايجابي بدل الظمأ ، تؤكد لنا رواية نهاية سري الخطير، توسلها خطاب الدهشة بأسلوب كاريكاتوري غاية في السخرية تصفع هضم حقوق المرأة يعثورها من إهانات بالجملة مفعمة بالرؤى الاجتماعية والمسلكية الصادمة. ما يجعلك تشعر كلما توغلت في قراءاتها أن الطفولة التي وضعتها الرواية ، هي طفولة من حولك من الأخوات وبنات الجيران. كما أنها تفصح من جانب آخر بأن الحب هو الحب رغم ألسنة الحزن الرتيبة والقاسية، هنا تبرز حقيقة وجدانية رائعة، امتزجت فيها الرقة الخشونة وعدم الطواعية، لقد رصد هذا العمل شخصيات مختلفة محلية وأجنبية، ومجايلات عمرية مختلفة، والغوص في تلك الاصوات هنا زكية خيرهم التي تحاول بعنادها النسوي، وحساسيتها الإنسانية مقاومة المحيط الواسع، والخروج من الأصفاد والحصار الكائن والمرتقب الأبوي- الاجتماعي – والمؤسسي. مبحرة من خلال ذاتها الأنثوية، ومجموع النقاط البشرية الأخرى عبر توحّد جمعي بهدف تسجيل رؤية نقدية اجتماعية من الحياة بصورة شجاعة حيال الظواهر السلبية السائدة والتي تبدو داخل النص الابداعي فردية ومحددة ، وان كانت غير ذلك كونها تعالج هموم اجتماعية نسائية متراكمة.
وأخيرا لا يسعنا القول سوى أن هذه الرواية التي بين أيدينا، تنم عن نشاط متحيز يتضح في افتراض قدرتها على الكشف، وفي محاولتها للتشيؤ. الأمر الذي جعل منها سيمفونية بديعة لا تقاوم، تعلو إلى السماء، وتهبط إلى الأرض دون خلل أو اهتزاز، غذا ما استثنينا النقلات السريعة التي عالجتها الذاكرة، ولربما يعود ذلك لشدة الانفعال والتأزم التي اعتورت وعي الكاتبة منذ البداية، والتي ظلت هاجسا مرعبا على طول جسد الرؤية ” لا يمكنني ان أدع قلبي يحب أحدا، لأن ذلك مستحيل، الحب معناه الزواج، والزواج معناه الدخلة، والدحلة معناها اكتشاف سري، واكتشاف سري معناه هلاكي.” ص 286
هكذا ارتفع تمردها الشكسبيري ( ان انكرتم علي حقي فليصعق الدمار،) فظهر نص الكاتبة تجربة فريدة لها خصوصيتها، نقلتها كاتبتنا عن المعيش اليومي، إلى المحكي، إلى الحلم، وعبر سردية تجعل الماضي حاضرا والحاضر حلما مستقبليا. لهذا توحدت الصورة والرؤية في انصهارها عبر تلافيف عقل الراوي – الكاتبة، بين الضديد والضديد، ولتؤكد أن الحياة تسير بكلّ( دقائقها) أو لابد لها أن تكون، لذا صرخت.
– يا …. كم عشت كذبة هدمت حياتي، وجعلتني أجوب الأرض شرقا وعربا، والآن يقول لي الطبيب أنت عذراء. ص 387. لهذا عصفت عبر تمردها الموضوعي بكل شيء تقليدي ، وطقوسي مقولب، فانطلقت إلى اسلو بعد أن عانقت بحميمية بالغة “نورا هنريك ابسن” … لتشعرك أثناء قراءتها أنك أمام كاتبة لم تغمس ريشتها حبرا لتكتب، بل كانت تغمسها من وجع الانثى العربية الحالمة للحرية والانطلاق وذلك بفرك الصدأ الاجتماعي عن العقول، لكسر الدوغماتية البغيضة كون المرأة تشكل الإسقاط الفجري القادم.