*فاروق يوسف
يحتفل تيت غاليري في لندن هذه الأيام بالذكرى الثلاثين للإعلان عن جائزة تيرنر للفنون. وهي كما تُقدم في الإعلام والمحافل الفنية أرقى جائزة تمنح لفنان في عالمنا الراهن. قيمتها المادية (40 الف جنيه استرليني، يذهب منها 25 الفاً إلى الفائز الأول فيما يمنح كل من المرشحين الثلاثة المتبقين 5 آلاف جنيه) لا تختزلها ولا تشير إلى قوة تأثيرها. فالحاصل عليها سيجد أمامه الأبواب كلها مفتوحة. لن يجازف غاليري في رفض اعماله وستكون المزادات الفنية ساحة مكشوفة لصعود أسعار تلك الأعمال. بعضهم ممن ربحوا الجائزة صار يبيع أعماله بالملايين ولما يتجاوز الأربعين سنة. كما حدث مع تريسي أمين وداميان هيرست.
ولكن الأمر كله لا يخلو من الكذب والالتفاف على الحقائق الفنية والقيم الجمالية الراسخة. فالجائزة تستند في أصلها إلى خيال مريض، قرر أن يستولي على ذائقة الناس الجمالية ليتحكم بها ويبرمجها ويحصرها في نطاق ضيق من الخيارات التي لا علاقة لها بتاريخ الفن. لقد كانت الجائزة ومنذ تأسيسها منحازة إلى اللافن قياساً لمنطق التحولات التي شهدتها الحداثة الفنية في عصرنا. فهي لم تمنح إلى رسام أو نحات متمكن من حرفته ومدهش في خياله وإنساني في فكره. ما لم تعلنه الجائزة من حقيقتها تكشف عنه توجهاتها من خلال الفائزين بها. حتى يمكننا القول إن تلك الجائزة كانت ولا تزال مخصصة للهامشيين، ممن لا يملكون موهبة في الرسم أو النحت، غير أنهم يسعون من خلال شغف شخصي إلى أن يكونوا فنانين. كما لو أن المشرفين على الجائزة كانوا قد قرروا من خلالها أن ينتقلوا بفنانين من الحضيض إلى أكثر الأماكن رفعة في المشهد الفني العالمي.
كانت صدقية الجائزة أكبر من أفعالها المباشرة.
أولاً لأنها اتخذت من وليام تيرنر وهو واحد من أعظم رسامي القرن الثامن عشر عنواناً لها وثانياً لأنها تصدر عن تيت غاليري وهو واحد من أهم المؤسسات المتحفية في بريطانيا. فما الذي يدعونا إلى الشك في ما تنوي الجائزة التأسيس والترويج له والتبشير به كونه بديلاً معاصراً للفن؟
لقد شهدت الثلاثون سنة الماضية من عمر الجائزة تنافساً بين فنانين، لم يكن واحد من بينهم على الأقل يعرف شيئاً عن فن تيرنر أو عن عصره الفني العظيم. كلهم من غير استثناء كانوا من أتباع الفن الذي يمكن للمرء نسيانه بيسر ما أن يعطيه ظهره. لقد صنع (تيت غاليري) بنفسه من سرير تريسي أمين قطعة متحفية، ولكن ذلك السرير لن يكون كذلك لو عرض في أي مكان آخر. ألا يعني ذلك أن المتحف كان قد تورط في كذبة صار عليه أن يدافع عنها إلى النهاية، بغض النظر عما يمكن أن يلحقه ذلك الإصرار من ضرر فادح بالفن؟
في إحدى زياراتي إلى لندن رأيت صيدلية داميان هيرست معروضة في قاعة مجاورة للقاعة التي تعرض فيها رسوم تيرنر في (تيت بريتان). أليس في هذا الجوار المزعج نوع من السخرية من الفن ومن التاريخ؟ أظنها مبالغة في التسويق السمج والساذج لفنان صارت شركات عديدة تعيد تسويق أعماله مصغرة أو مرسومة على القمصان ودفاتر اليوميات والتقاويم والساعات والهدايا.
هي لعبة تجارية رخيصة ساهم فيها المتحف العريق من أجل الحصول على الأموال.
ولكن الأمر في حالة من نوع جائزة تيرنر يتجاوز الإطار الاقتصادي. هناك حيوية ثقافية يُراد لها أن تحل محل حيوية ثقافية أخرى كانت إلى وقت تمثل طوق نجاة بالنسبة إلى ملايين البشر. وهنا يكمن الخطر الحقيقي.
ولأن تاريخ الجائزة لم يعد سراً، فإن العودة إلى سيرة الثلاثين سنة من عمرها ستجعلنا نشعر بالإحباط. ذلك لأننا لن نعثر من بين المرشحين لها والفائزين بها على فنان حقيقي يعتد بتجربته قبل وبعد الجائزة. كل الذين وصلوا إلى القائمة القصيرة هم من أدعياء الفن، الحالمين بأن يكونوا فنانين من غير أن يتعبوا أنفسهم في المران والتدريب واللبحث. سيقال دائماً إنهم مفكرون عن طريق الفن، وهو قول مضلل يكشف عنه نتاجهم الفني الضعيف.
عالمياً تحتل جائزة تيرنر المرتبة الأولى في الجوائز التي تمنح للفنانين في عالم اليوم، غير أنها في اختياراتها تضعنا أمام الحكم الفني الذي صارت تمارسه صالات فنية في نيويورك ولندن وسواهما من عواصم الفن المعاصر. أما أن تلحق بنا أو تكون لا شيء. هناك اليوم سلطة للافن قادرة على أن تمحق كل ما يمت إلى الفن بصلة.
جائزة تيرنر في عامها الثلاثين إنما تؤرّخ لسلطة اللافن.
________
*الحياة