*عدنان حسين أحمد
أطلق مؤخرا في صالات السينما البريطانية والأوروبية فيلم “برايد” للمخرج البريطاني ماثيو ووركاس بعد عرضه في مهرجانيْ “كان” و”تورينتو” لهذا العام.
قوبل فيلم “برايد” عند عرضه باستحسان النقاد السينمائيين، الذين وجدوا في ثيمته الرئيسة أرضية مشتركة للتضامن والتكافل الاجتماعيين بين المثليين البريطانيين وعمّال المناجم الويلزيين، الذين تظاهروا عام 1984 /1985 احتجاجا على القرار الذي أصدرته مارغريت تاتشر بغلق 20 منجما للفحم في قرية Onllwyn، الأمر الذي ألحق أضرارا بالغة بعمال المناجم على مدى عام كامل، حيث تعرضوا للقمع من قبل عناصر الشرطة البريطانية، كما أن الصحافة لم تنصفهم آنذاك.
لا شك في أن ثيمة هذا الفيلم الدرامي إشكالية وهي مثيرة للجدل كذلك. ولا بدّ من الأخذ بعين الاعتبار أن أحداثه تدور قبل ثلاثين عاما من الوقت الراهن، حيث نظم الاتحاد الوطني لعمال المناجم مظاهرة احتجاجية على القرار المجحف الذي أصدرته تاتشر، رئيسة الوزراء البريطانية آنذاك التي تفّهت المظاهرة، ولم تأخذها على محمل الجد، الأمر الذي أفضى إلى فقدان الكثير من العمال لوظائفهم التي انعكست سلبا على حياتهم المعيشية والاجتماعية.
ربّما لم يدر في خلد البعض أن المثليات والمثليين البريطانيين سيشمرون عن سواعدهم، ويأخذون على عواتقهم مهمة مؤازرة المتظاهرين ومساندتهم من خلال جمع الأموال والتبرعات، وإيصالها إلى الاتحاد الوطني لعمال المناجم كي يوصلها بدوره إلى العوائل المتضررة في وادي ديلايس قرب سوانزي، المنطقة الكبرى التي جرت فيها وقائع المظاهرات الاحتجاجية الغاضبة.
إن المشكلة العويصة التي يركز عليها كاتب النص ستيفن بيريسفورد والمخرج ماثيو ووركاس، هي الصدام الثقافي والأخلاقي بين شريحة المثليات والمثليين بلندن تحديدا، وبين الاتحاد الوطني لعمال المناجم الذي وجد قادته وممثلوه أنفسهم محرجين من هذا الدعم المالي الذي يأتيهم من شريحة اجتماعية متحررة جدا، في ما يتعلق بتحقيق ملذاتها الجسدية بالطريقة التي يعتقدون أنها مناسبة لهم، ومنسجمة مع رغباتهم البدنية التي تتمثل بالميل الإيروسي للنوع أو الصنف ذاته.
وعلى الرغم من إصرار هذه المجموعة على التواصل مع عناصر الاتحاد الوطني ونجاحهم في تحقيق هذه المهمة التي بدت عسيرة وشبه مستحيلة أول الأمر، لكنها تحققت في خاتمة المطاف مع داي “بادي كونسيداين”، أحد قادة الاتحاد، وقد كان شخصية مفوّهة، وقادرة على الإقناع، ومع ذلك لم يستطع أن يروّض بقية أعضاء الاتحاد الذين يخجلون من فكرة تقبل الدعم المالي من شريحة مثلية.
وحينما يئس المثليون الثمانية الذين تبنوا عملية جمع التبرعات، قرروا الذهاب إلى القرية بأنفسهم وتقديم الدعم مباشرة إلى المواطنين المتضررين من غلق مناجم الفحم. أي أنهم ذهبوا مباشرة إلى المساحة المشتركة التي تجمع بين الشريحتين وهي التضامن أو التكافل الاجتماعي بمعناه الأوسع.
لم يكن الجمهور البريطاني متعاطفا برمته مع المثليين، ولم يتقبل كليا فكرة تحررهم، لكنه بعد عقدين من الزمان صار منظر المثليين الذين يتزوجون بعضهم بعضا أمرا مألوفا للغاية في الكنائس والأماكن العامة وأمام عدسات التلفزيون.
يمكن اعتبار “برايد” فيلم شخصيات إضافة إلى كونه فيلم “ثيمة إشكالية” لا تجد حرجا في تناول القضايا المحجوبة والحساسة، والمسكوت عنها خشية أن تستفز المحافظين، وتحرّض المتشددين على ردود أفعال عنيفة هم في غنى عنها.
فشخصية مارك التي جسدها ببراعة نادرة الفنان الأميركي الشاب بن شنيتزر، كانت محط اهتمام المتلقين الذين رأوا في شجاعته وإِقدامه محاولة جادة لتحطيم الرؤية الضيقة إزاء المثليين في كل أنحاء العالم.
فلهم هواجسهم الخاصة مثلما للمحافظين أو للمتشددين عوالمهم وأهواؤهم ونزعاتهم الحسية الخاصة، التي يعتقدون أنها صحيحة وأنهم يسيرون في الطريق القويمة الآمنة التي لا تتخللها العثرات والمفاجآت المربكة.
يعتقد الفنان البريطاني بيل ناي، الحاصل على جوائز عديدة من بينها البافتا والغولدن غلوب، أن فيلم “برايد” لماثيو ووركاس “هو الفيلم البريطاني الأهم في السنوات الأخيرة”.
ويعزو أهمية هذا الفيلم الدرامي الكوميدي إلى النص البارع الذي دبجته أنامل الكاتب ستيفن بيريسفورد، حيث قال عنه: “أنا أعتقد أن هذا النص هو واحد من أعظم النصوص التي قرأتها في حياتي”، مذكّرا بأهمية الظرف والفكاهة واللمسات الكوميدية الساخرة التي تتخلل الجمل هنا وهناك ضمن مدار القصة السينمائية.
ختاما نستطيع القول إن مسيرة “غاي برايد” ليست نزهة أو احتفالا باذخا، وإنما هي حدث سياسي واجتماعي ساهم في تخفيف معاناة الويلزيين، وهزّ قناعاتهم القديمة قليلا، كما مهّد، في الوقت ذاته، الطريق لتحرر المثليين والمثليات وأعتقهم من أسر القناعات القديمة والآراء البالية التي عفا عليها الزمن.
وعودا على بدء، فإن الفيلم يركز على الأرضية المشتركة التي هيّأها المثليون من جهة وعمال المناجم من جهة أخرى، ضمن فضائها الرحب ليتأكدوا بما يشبه اليقين المطلق بأن إرادة شريحتين في المجتمع البريطاني، هي أفضل وأقوى بالتأكيد من إرادة واحدة حتى وإن كانت هذه الأخيرة صلبة وعصية على التدمير.
_______
*العرب