الإيقونة والمنمنمات .. حوار الأديان الأزلي



*عبدالرحمن جعفر الكناني

ارتقت الرؤيا البصرية الى تجسيد المضمون المقدس في شكل فني جمالي يقترب بالإدراك العقلي من المعنى الروحي العقائدي الذي يسعى لبلوغه الوجود البشري.

أجمعت الاديان السماوية على تحريم تجسيد الذات الإلهية في شكل مادي لكنها التقت في جعل الصورة كشفا روحيا كتابيا لما يعبر عن عقائدها في إيحاءات رمزية مستوحاة من رسالات السماء وسير الرسل والأنبياء، جاءت في إيقونات ومنمنمات تشكلت بخصائصها التقنية، وانفردت بمزاياها الإسلوبية، وشغلت المكان بدورها الوظيفي، لما احتوته من فلسفة تجمع بين الإنسان والكون والدين، هي في حصيلتها تآلف العالمين الروحي والمادي في كتابة حروفها مصورة يتجلى فيها الباطن في شكل ظاهري قابل للإدراك الحسي.
اتجهت المنمنمة في مسار يوازي الإيقونة، اختلفتا في مضمون الوظائف، واتفقتا على هدى التوحيد الإبراهيمي الذي تنتسب اليه الديانات السماوية الثلاث والتقتا في تحريم الشرك الوثني عبر التشخيص المصور، ورفض شرك النسبي بالمطلق أو المخلوق بالخالق الأوحد، واتفقتا على معنى واحد متقارب:
• كتاب الروح
الكتابة المقدسة
ففي بابل حيث هبط الملكان هاروت وماروت سميت المنمنمة بـ “كتاب الروح”، وفي أثينا حيث ازدهرت الحضارة اليونانية سميت الأيقونة بـ “الكتابة المقدسة” إذ نجد في تفصيل مصطلح “ايقونغرافيا” كلمتي الرسم والكتابة.
وأدرك من أبدع المنمنمة كما الإيقونة، الإيمان بالحقيقة المطلقة:
لا يدرك مخلوق قدرة الخالق
القواسم المشتركة في خصائص الايقونة والمنمنمة
الأيقونة والمنمنمة كلمتان تدلان على منجز فني بصري.
ارتبطت الأيقونة بالديانة المسيحية، فأضحت مظهرا دينيا في الكنائس والأديرة، وهي منذ العصر اليوناني القديم كانت وسيلة تعليمية للإعلان عن “القصد الإلهي” كما هي اليوم في الكنيسة الشرقية، في حين ارتبطت المنمنمة بالفنون الإسلامية، وسلكت نهجا معرفيا يكمل صناعة مضامين الكتاب، الذي ظهر لأول مرة في بلاد الرافدين، نهاية القرن السادس الهجري الموافق للقرن الثاني عشر الميلادي قبل أن يأخذ مكانته البارزة في الرسوم التي كملت كتاب مقامات الحريري للأصفهاني، والتي نفذها يحيى بن محمود الواسطي أبرز رواد فن المنمنمات في الدولة العباسية.
استعمل مصطلح الأيقنة للدلالة على الفن المسيحي، قبل ان يتسع ليشمل الفنون الدينية في العصر الوسيط، ويتحول اليوم إلى علم لتفسير الخصائص والرموز عبر تصوير شخص ما، أو فكرة ما، أو البحث عن أصل الشكل ومعناه في الإبداع الفني.
واتصفت الأيقونة بتجاوز حدود الواقعية في مضامينها وليس في شكلها واعتمدت تقنيات رسم الخطوط المقتضبة المتآلفة، وتبرز فيها الألوان المضيئة، المتخلية عن الظلال،لا يكون في الأيقونة ليل، لأن السماء لا تأخذ صفات الليل وتتمتع بالنورانية المطلقة، وهي تعبر عن خصائص الغبطة الروحية، في بلوغ حالة التصوف التاملي.
والمنمنمة هذه الصورة التصغيرية المزوقة، وضعت لكيانها وظائف متعددة، كتوضيح مضمون كتاب، أو حكاية وجعلت من منجزاتها الفنية سجلا للحياة والبيئة والعادات والتقاليد والطقوس والأحداث التاريخية والدينية والأزياء والعمارة، التي تترافق مع كل مرحلة من مراحل التاريخ العربي والإسلامي.
تلون المنمنمة بألوان الغواش، أو الألوان المائية على الورق، أو على رق الغزال المعروف باسم «برغامين» أو الزجاج أو العاج إلى جانب بعض أنواع الألواح الخشبية الورقية الناعمة.
لم تكن المنمنمة الإسلامية التي أنشأت اول مدرسة لها في مدينة الموصل/شمالي العراق/، ممارسة ترفية، ترفيهية، حين نشطت في بداية نشأتها بتصوير وترجمة المؤلفات اليونانية في مختلف العلوم إلى اللغة العربية، لتتوالى بعدها المدارس الخاصة بهذا الفن، بغداد والبصرة والكوفة.
الرمزية: توافق الرموز مع مدلولاتها عبر النص البصري المجسد للمضمون، فالفن المقدس يختص في محاكات الفعل الخلاق، الذي لا يتجسد إلا رمزيا وبمدلولات لا تقترب من خصوصيات المنظور الوثني بصيغ التشبيه المحرم، فالدلالة في البناء الفني لا تعني التطابق الكامل مع المدلول الذي يعبر عنه بإيحاء محسوس.
يتجلى الفن الرمزي الذي يأخذ خصائص المقدس في مظهر خارجي مرئي، له قدرة إثارة الحواس التي تعزز الإيمان بسر قدرة الخالق، فالرمزية ليست سوى رؤية حقيقية باطنية تشكل مشهدها البصري الذي يتفق حوله المؤمنون برسالات السماء.
والإنسان الذي ينزع إلى تصوير جوهره أو عقيدته في إطار رمزي، اختار لدينه رمزا بصريا استوحاه بنفسه من مباديء الكتب السماوية أو من سير الأنبياء والمرسلين:
بسم الله الرحمن الرحيم
“الم ذلك الكتاب لاريب فيه هدى للمتقين، الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، والذين يؤمنون بما إنزل اليك وما إنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون، أولئك على هدى من ربهم واولئك هم المفلحون”. صدق الله العظيم
الهلال: جاء ذكره في القرآن والأحاديث النبوية: (1) عدد الآيات التي ذكر فيها الهلال والقمر هي: 50 آية. (2) عدد الأحاديث النبوية التي ذكر فيها القمر والهلال هي: 2027 حديثا. فيكون المجموع الكلي هو 2077 مرجعا.
الصليب: ارتفاع السيد المسيح عليه السلام على خشبة الصليب دفع المسيحيين إلى اختياره رمزا مقدساً، رغم أن كلمة صليب لم ترد في العهد القديم، إلا إنه أصبح رمزا حزينا يعبر عن المعاناة، وهو في ذات الوقت رمز يعبر عن عيد القيامة المنتظر.
النجمة: نجمة داود وتسمى أيضا بخاتم سليمان عليهما السلام وتسمى بالعبرية ماجين داويد بمعنى “درع داود” وتعتبر من أهم رموز الدين اليهودي.
أصل نجمة داوود السداسية في عقائد الشريعة اليهودية ترمز إلى الأيام الستة التي خلق فيها الله الكون، كما ورد في الإصحاح الأول من سفر التكوين في العهد القديم.
الواقعية: إحالة النص البصري إلى صورة واقعية يتمكن الذهن من استيعابها، فرغم العمق في الواقعية، إلا ان الصورة تأخذ الصفة المثالية في ظل التقنيات الفنية المستخدمة، لتقترب من خصوصية مضمونها القدسي المؤثر.
التاريخ: اقترنت المنمنمة بالنص المكتوب في التاريخ الإسلامي، فأحدهما يكمل الآخر. أما الإيقونة فتطلق في كيانها الفني المجرد نصا مكتوبا يقرأ بأبجدية تشكيلية الأحداث والوقائع وسير الأشخاص.
وهكذا تلتقي المنمنمة مع الإيقونة في أداء وظيفة توثيق الحدث الإنساني والديني من خلال كتابتة وتدوين وقائعه بمدلولات بصرية، فهما ليستا مجرد إنجاز فني جمالي بعد إن أخذتا سياقا تاريخيا يحدد انماط البيئة الدينية والدنيوية التي يعيشها الإنسان الموحد المؤمن برسالات السماء.
وكانت تلك الرسوم تشكل أولى مراحل الكتابة التي سميت فيما بعد بالصورية وهي أولى الأبجديات القادرة على التعبير والتواصل، ومن الطبيعي أن ترتقي وسائل الإنسان وأدواته بارتقاء فكره ونشاطه واكتشافه لقوانين الحياة والمادة، فأصبحت وسيلة تواصله «لغته» رمزية تعبيرية.
• من الدلالة اللفظية إلى الدلالة البصرية
المنمنمة كما الأيقونة مزيج هائل من العناصر والمفردات:
الإشارة – الموضوع – المعنى
ليغطيا حقلا من حقول الممارسة الإنسانية، من خلال تحويل الدال اللفظي أو المحسوس إلى دال بصري يشغل مساحة في المكان.
تتحول النصوص البصرية المختلفة في المنمنمة أو الأيقونة إلى صور ذهنية واقعية في مشهد متكامل من الأحداث والسير والوقائع يدركها العقل الإنساني، رغم واقعيتهما في البناء التقني الفني إلا انهما لا يتخليان وفق نمطعما المثالي احيانا عن عالم الغيب والسحر والخيال.
التعاويذ “التميمة” في الأديان .. رموز وصور
الرموز والصور في التعاويذ التي لجأت اليها مختلف الأديان السماوية وغير السماوية، هي مجرد رؤية بصرية، لما هو محسوس ذاتيا يجسد الإيمان بقدرة الاديان السماوية على إنقاذ البشر المهتدين من ضلالة الجهالة وادخال الطمأنينة في قلوبهم بفعل القوة الإلهية الواحدة، بعيدا عن الخرافة والوثنية والسحر والدجل.
وصممت التمائم بحجم صغير، لتسهيل حملها أو ارتداؤها, سيما وان بعض هذه التمائم صنعت من مواد ثمينة كالذهب والفضة, وهذا ما دعا إلى اختصار الكلمات المعوذة في التميمة ومنحها البعد الرمزي.
لم يتعارض الدين الاسلامي بجوهره مع العلم ولم يدخل في أزمة حقيقية، بتحصن المسلمين بالمعوذتين، أما في الطقوس الكنائسية. فالتخلص من الادران والآلام والتوصل إلى الطهر والعفاف جاءت مؤكدة لفكرة الخطيئة الاولى.
إن الرقي والتعاويذ وما يصاحب العزائم من إجراءات وطقوس تضع الانسان في موقف التوجس والترقب والتوتر الذي يؤدي إلى نوع من عملية التطهير او التنفيس، اشبه بالتنفيس خلال الاعترافات الدينية او خلال العلاج النفسي او حفلات الزار والرقص البدائي العنيف عند القبائل القديمة، فالتعويذة تطلق العنان للانفعالات الحبيسة وبذلك يتم الشفاء.
• منزلة الصورة في الأديان
الدين اليهودي: الوصايا العشر في التوراة: “لا تصنع لك منحوتًا ولا صورة شيء مما في السماء من فوق، ولا مما في الأرض من أسفل، ولا مما في المياه من تحت الأرض”.
الدين المسيحي: الذات الإلهية تتعالى قطعًا عن كلِّ تمثيل أو تصوير.
الدين الإسلامي: الإسلام لا يدين الفن البصري في حدِّ ذاته، بل يحذر من خطر التباس المطلق بالنسبي فيه.
لم تسع المنمنمة الإسلامية نحو انتزاع القيمة الكهنوتية التي سعت اليها الأيقونة وهي تؤدي وظيفتها الكنائسية القائمة على التأمل والخشوع واستحضار العالم الروحي، فارتباط المنمنمة بالنص المكتوب حررها من الأسر الكهنوتي ومنحها بعدها التوضيحي، المعرفي لما احتواه المضمون.
ما المغزى من الإشتغال على الرسم التشخيصي للأنبياء والرسل والخلفاء، وتناول سيرهم؟
يكمن المغزى في استجلاء معنى التواصل بين نقطتي الإحساس والإدراك، فأحدنا لن يصل إلى مستوى المعرفة بالشيء، قبل إثارة الحواس .. فــ “الإحساس شرط المعرفة” كما قال الفيلسوف ارسطو: “من يفقد الإحساس يفقد القدرة على التعلم” وحواسنا كما يقول فيلسوف آخر هي: “جسرنا نحو الأشياء ” فغياب الإنطباعات الحسية يؤدي إلى بُطلان المعرفة.
وهكذا يقتضي اتصالنا بالعالم الخارجي “الإدراك العقلي” طالما تزامن إحساسنا بالأشياء مع إدراكنا لها ، فالعلاقة إذن بين الإحساس والادراك هي علاقة اتصالية لا تنقطع.
إذن يبقى دافع الإشتغال على الرسم التشخيصي في المنمنمة والأيقونة هو استثمار الفن البصري في منح العقل الإنساني مزايا إدراك الحقيقة بغية تعزيز الإيمان بها.
______
*ميدل إيست أونلاين

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *