اسكندر حبش *
هل من رواية “نسائية” جديدة في إيطاليا؟ يبدو السؤال وكأنه يُميّز ما بين كتابتين واحدة خاصة بالرجل والثانية بالمرأة، في حين أن الطرح هنا، لا ينظر إلى ذلك مطلقاً. فقط لنقل هي كلمة اصطلاحية بحتة، للدلالة على جيل من الكاتبات الروائيات الإيطاليات عرفن كيف يحضرن في المشهد الروائي، منذ سنوات. جيل يضم أسماء عديدة مثل سوزانا تامارو (التي لمع اسمها منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي) وسيلفيا باليسترا روسانا كامبو وكريستينا كومنشيني وسيمونا فينشي، وغيرهن من اللواتي عرفن كيف يجلبن بعض “الدم الجديد” إلى المشهد الروائي الإيطالي “النسائي”، على قول النقاد الإيطاليين. في هذه المتابعة، تقديم لثلاث روائيات، عبر رواية لكل واحدة منهن، صدرت في ترجمة فرنسية.
في طليعة هذه الكتيبة النسائية، يسطع اسم روسانا كامبو، فهذه الروائية، الناقدة، المعارضة، “الوقحة”، “الشريرة” أحيانا (وفق الصحافة الإيطالية) لا ينقصها أي عامل من عوامل النجاح. مهمتها؟ أن تضع فوق خشبة الأحداث عذابات الجيل الجديد وهمه وقلقه وألمه، عبر ريشتها التي تعرف كيف تصيب الهدف مباشرة من خلال حواراتها القاسية واللاذعة. هذه القسوة اللاذعة نجدها في كتابها “حتى الجنون” (منشورات “فايار”) الذي تدخلنا فيه عبر سيرة فتاتين إلى عالم المصحات النفسية وما يحوي ذلك من رعب وعدم توازن وقلق تفضي بدورها.. “إلى الجنون”.
كانت غولي، ذات الأصل الإيراني الصقلي، قد أمضت خمس سنوات في إحدى المصحات النفسية العصبية، في مدينة “لافال” الفرنسية، بسبب إدمانها على الكحول والمخدرات ونزوعها الدائم نحو الانتحار. في هذا المكان القاتم، تتعرف على ستيلا، السينمائية الإيطالية لترتبط معها بصداقة ما. وعند خروجهما من هذه المصحة، تشعر الفتاتان بصدمة الحياة مجدداً، وكأنها غادرتهما إلى غير رجعة، أي أصبحت “في مكان آخر” (لو استعرنا تعبير ميلان كونديرا). لذلك تقرران أن تتشاركا في شقة باريسية لتحاولا أن تعيشا فيها مع عدم توازنهما المتبادل.
كانت الفتاتان موسومتين بقصتيّ حب فاشلتين: من ناحية غولي، كانت لا تزال تشعر بالحب تجاه ماتيو ذلك الرجل المتزوج الذي حولها إلى لعبة بين يديه، لذلك وجدت أن أفضل طريقة للنسيان تكمن في علاقات عابرة، في علاقات “بلا غد”، بينما بقيت ستيلا مسكونة بذكرى باسكال الذي غادرها بعد أن حاولت قتله. بالنسبة إليهما وهما اللتان ذبحتا حيتين كان من المستحيل أن تجدا مكانا لهما في هذا العالم “الطبيعي”، عالم “المظاهر… والخبثاء” حيث كل دخول إليه يتوافق مع العنف والفشل وعدم الفهم. من هنا نجدهما تختاران العيش في محيط يشبههما، مع أناس التقتا بهم في “لافال”، بمعنى آخر قررتا العيش على هامش المجتمع، على حدود الجنون، لأنه “عندما تكون قد وصلت إلى القاع، لا تستطيع أن تتحدث إلا مع أناس يشبهونك، أليس كذلك”؟
عنف وتهتك
يستمر الأمر على هذا المنوال لغاية اليوم الذي يقرع فيه ريناتو والد ستيلا الذي “اختفى” قبل 17 سنة من دون أي سبب ظاهر على باب الشقة، ليعود ويبعث، في ابنته كلّ أحزان وآلام الطفل الذي أهمل وهجر ذات يوم. تعود ستيلا لتكتشف في نفسها كلّ تداخلات وتقاطعات مشاعر الحب والكراهية الغريبة، كما كل تكبّر وتغطرس أنانية هذه المشاعر التي تدفع الآخر إلى اليأس. في البداية ترفض أن تقابله، من ثم ترضخ للأمر إذ إن حضوره جعلها تعيد طرح الأسئلة على هويتها وعلى تجاربها الماضية: “أكره نفسي لأنني خدعت على جميع المستويات ولأنني أصبحت خارج العالم لأنني أشعر أنني حمقاء… عنيفة وحادة. لأنني لا أزال أشعر باليأس من جراء شيء لم يعد موجوداً وربما لم يوجد مطلقا”. هذا الشيء، هو الحلم الذي ولّده الحب الأبوي عندها: “اعتقدت أنني معك سأكون قوية ولن يجعلني أحد أشقى”. بيد أنها الآن تشعر بالاختلال العاطفي: “الحب، بالنسبة لي ليس سوى النيتروغليسيرين الصافي”.
تسبر روسانا كامبو عبر هذه الشخصيات الثلاث الموسومة، كلٌ على طريقتها بالجنون الميل إلى العنف (كما عند ستيلا) وثقوب الذاكرة (كما عند غولي) وعدم المسؤولية والتهتك (كما عند ريناتو)، أي أنها تحاول سبر أغوار “حدود الإنسانية هذه”، حدود هذا العالم القاتم الذي تجمدت فيه الكائنات البشرية، الذي تُمنع فيه الصرخة الإنسانية الحقيقية النابعة من أعمق أعماق عذابات الكائن. بيد أن الكاتبة، تذهب إلى أبعد من ذلك، إلى ما وراء الصيغ الجاهزة التي تجرّنا إليها صور الداخل. تقودنا الروائية إلى عالم المواخير، إلى الواقع الذي ينجب الكآبة، إلى “البروزاك” (نوع من الأدوية المهدئة) الذي يبدو الحل “الوحيد تجاه كل الخوف الذي يعترينا”.
ما يخدم شفافية السرد بالكامل هو هذه الطريقة في رواية القصة المرتكزة فقط على الحوار الذي لا يلجأ إلى علامات التوقف. من هنا نجد أن ذاتية الراوية ستيلا تعبّر عن نفسها بكل عنفها وبكل نزقها. في أحيان كثيرة تنحو اللغة إلى الفظاظة، إلى الفجاجة، إلى هذا السلخ، تماماً على صورة حياة هؤلاء الأشخاص المعدمين من كل ترس واق: “المجانين، لا يقطعون لنا خصيتينا، لا يتظاهرون بشيء، لا يلبسون الأقنعة، ولا يطلبون منا أن نكون عمّا نحن لسنا عليه”، أو كما تقول أيضا (ص 187): “لا يطلب منك المجتمع إلا شيئاً واحداً، أن نكون مثل الآخرين، أن لا تعارضيه أبداً، أن لا تزعجي أحداً، عليك أن لا تشعري بأنك سيئة، عليك أن لا تطرحي أسئلة وقحة. وبخاصة تذكري هذا جيداً لا تطمحي أبداً إلى حرية قرروا مسبقاً عدم إعطائك إيّاها”. إنه أسلوب ينحو طواعية إلى المألوف، ليأخذ شكل مونولوغ داخلي مليء بالحوارات: مونولوغ تتجاور فيه المثابرة السريعة مع العادي والساخر. من هنا قد تتبدى النية وكأنها معقودة على المرارة بشكل رهيب، بشكل عدمي، هذا إن لم تأت جرعة كبيرة من السخرية الذاتية لتضفي بهاراتها على كل شيء.
لذلك تتحول الكتابة هنا إلى حوار شوارع، إلى أحاديث بين أصحاب، وهي بذلك تخفي عن قدرة كاملة في السيطرة على هذه الموسيقى اللغوية، على طريقة الشاعر الفرنسي جاك بريفير. من وقت إلى آخر، تشير إلينا روسانا كامبو بطرفة عين، تدفع إلينا بصيغة تشبه صيغ شعراء التروبادور الذين عملوا عليها في الماضي، إذ إنهم بدورهم وعبر لغتهم الفظة كانوا يؤلفون قصائدهم “العليمة” بشكل أكبر مما كانت تدل عليه. إلى أي مدى يستطيع الحب أن يأخذنا؟ تتساءل الكاتبة في روايتها هذه، “حتى الجنون” وكأنه الجواب “المنطقي” الوحيد الذي تقوله شخصيات هذه القصة الساخرة أحيانا والآسرة في أغلب الأحيان طالما أن العواطف حيّة إلى هذه الدرجة.
ترسم روسانا كامبو (من مواليد مدينة جنوى العام 1963 وتعيش حاليا في روما) صورة لجيلها، إنها صورة من غير تسويغات، صورة هذا العالم “المليء بالبلهاء، بالعنصريين، بالذين يلوثون الكوكب، بالذين شتاءً يعيشون ممددين على خطوط سكة المترو كي يلتقطوا قليلا من الحرارة”، إنهم هم المجانين الحقيقيون، “المجانين هم الآخرون”.
كريستينا كومنشيني
الذكريات والذاكرة المرّة، إن جاز القول، نجدها أيضاً في كتاب كريستينا كومنشيني وهو بعنوان “ماتريوشكا” (منشورات “فيردييه)، وتتحدث فيه عن كيارا، وهي أم لطفلين، لم تنجح في أن تصبح روائية، وبعد أن شعرت بالإحباط من ذلك، تحولت إلى كاتبة سير ذاتية. هناك أيضاً أنطونيا، نحاتة شهيرة ومدللة، توافق، عند مشارف مغيب حياتها (حين بلغت الخامسة والسبعين من عمرها)، على “استخدام” كيارا، لتجعلها “تضع مذكراتها” على الورق: “أقوم بذلك من أجل المال فقط”. هكذا تحدد الفنانة منذ البداية الأسباب التي جعلتها توافق على هذا المشروع، مشروع كتاب عن حياتها. بيد أن الأسباب الحقيقية، وبعيدا عن كونها أسباباً اقتصادية صرفة، سرعان ما تتبدى بكلّ تعقيداتها وتعددها: امرأة سمينة (تحس بعقدة من ذلك)، متسلطة، لا أحد يعرف بمرضها (مصابة بالسرطان). من هنا تظهر أنطونيا، في مواجهة محدثتها الشابة، موقفاً من التحدي، على الرغم من ممارستها عليها إغواءً متعمداً.
في “صالة الذكريات الصغيرة” (غرفة الجلوس)، حاولت كيارا المتسلحة بآلة التسجيل وبقلم ودفتر ملاحظات، أن تسبر أغوار شخصية هذه المرأة المعقدة، ذات الجسد المهيب والتي كانت حياتها البوهيمية على تضاد كليّ مع شخصيتها وحياتها هي. من هنا تبدأ بلملمة أسرار هذه المرأة “المدهشة” (بكلّ ما تحمل الكلمة من معنى)، مفضلة عدم اللجوء إلى أحاديث متقاطعة مع معارف الفنانة وأصدقائها.
تستعد أنطونيا لهذا السلوك شبه اليومي، من دون أن تعدّل مع ذلك خط حياتها الروتيني: “أعرف بأنه من أجل مهنتك، عليك أن تراكمي الدلالات والإشارات، لكن بالنسبة إليّ أفضل أن أبقي الماضي ممزقاً إرباً، فهذا يشبهني. لذلك أيضاً، تلعب، بمعنى من المعاني، مع كاتبة سيرتها، لعبة الفأر والقط، وهي لعبة سرعان ما تجعلنا نسمع هذا الصوت ذي النبرات الرجولية وهو يفتت الذكريات في فوضى عليمة: “في القصص نبدأ دائماً من البداية، وهذا خطأ. علينا أن نعرف في البدء نقطة الوصول ومن ثم علينا أن ننزع، تدريجياً، قشور الجلد المصنوعة منها الحياة.
تتبع كيارا هذه النصيحة بحذافيرها، إذ تحاول أن تعطي الملفات التي تسجل عليها ملاحظاتها، إسماً إشكالياً هو في الوقت عينه عنوان الرواية: “أعطيتها عنوان ماتريوشكا لأنني أجد أن أنطونيا تشبه دمية روسية، وهي دمية تحوي دمى أخرى أصغر منها، وهي كلها ذات وجنات حمر وعيون محاطة بدائرة من السخام”. إنه مناخ من النضال، مناخ موسوم بالتجاذب ما بين القبول والرفض، ما تحاول أنطونيا الكشف عنه في قصتها. بيد أنه، وبإثارتها قضايا الكبت المتبادل عند الشخصيتين: الإبداع الفني عند كيارا والأمومة عند أنطونيا، نجد الأدوار وكأنها انقلبت: “لديّ إحساس غريب بأن التفكير بنفسي يقودني إلى التفكير فيها، بأن ذلك يضيء بعض المظاهر من سيرتها. وبشكل معكوس، إن الدخول التدريجي إلى أحداث حياتها يحيلني إلى المعطيات الأعمق لقصتي الشخصية”، هذا ما تعترف به الراوية، والذي يجد صداه، بعد عدة صفحات، في قول محدثتها بأن “قصة الآخر تنتهي دوما، وبالضرورة، داخل قصتنا الذاتية”.
إزاء ذلك، وعبر انطلاقتها للبحث عن الآثار المتعددة والسديمية لحياة أنطونيا، تجد كيارا نفسها وهي تنطلق في البحث عن أصولها هي، إذ لا شيء في واقع الأمر يفصل حياتها الخاصة ووجودها عن حياة الآخرين ووجودهم: “كلّ قصة تحوي قصصاً أخرى، من الأصغر إلى الأكبر، وما العالم سوى ذلك المحتوى السحيق واللانهائي”. أو أيضاً: “أحياناً يكون من الصعب علينا أن نبقى على مسافة بينة من الشخص الذي علينا أن نكتب عنه. تأتي حياته لتلوث حياتنا”… أي بمعنى آخر تغذي هوية الأول هوية الآخر”.
البحث الدائم
هذه الآثار كانت مكتومة خلف لغز تيريزا (أم أنطونيا) التي تخلّت عنها لحظة ولادتها. بدءاً من هذه اللحظة، تبدأ نقاط الالتقاء بالتضاعف ما بين هذه الأم المولّدة وما بين مالو، صديقة أنطونيا وكاتمة أسرارها، عبر هذا البحث الدائم عن الرجل المثالي. هل هي الصدفة أم الحقيقة؟ لقد شكلت هذه المصادفات، وفي جميع الأحوال، بالنسبة إلى كيارا، حجة في العودة نحو الذات، كما كانت مصادفات أفشت في نهاية الأمر هذا العصب الأدبي الذي أخفته فيما مضى: إذ من سيرة أنطونيا عادت لتكتب روايتها الأولى.
عبر معرفة عميقة في كيفية وضع أشخاص اللعبة الروائية في الهاوية، على طريقة “الماتريوشكا”، (هذه الدمية الروسية)، تنجح الكاتبة كريستينا كومنشيني (مواليد روما العام 1956 وهي أيضاً مخرجة سينمائية)، في القبض على تعددية الجسد والكينونة، على لا مبالاة الطفولة إزاء تراجعها الخاص تجاه الشيخوخة، مرورا بلمسات المراهقة ولا يقينياتها، كما بالبحث عن توازن سن الرشد. تولي الكاتبة القليل من الاهتمام بالرجال: الآباء الغائبون أو عديمو الأهمية، الأزواج الأنانيون أو العشاق المتقلبون، الأشقاء الحزينون … إذ، في هذه الرواية، ذات الأسلوب الحسي والقاطع في الوقت عينه، نجد أن المرأة هي التي تضطلع بالدور الرئيسي كما بعلاقات الحب: الحب الأخوي الموسوم بالمنافسة، الحب الزوجي الموصوف بالاختلال وعدم الفهم، وأخيراً الحب الأمومي، الإشكالي، وفي الوقت عينه الذي يشكل نبع الإبداع الذي لا ينضب، أكان ذلك عائداً لأعمال أنطونيا الفنية أو لأولاد كيارا.
من هنا ثمة سؤال لا بدّ أن يطرح نفسه: هل أن الكتاب، النهائي، الذي بين يدي القارئ، هو سيرة أنطونيا، أي نتيجة هذا البحث الذي قامت به كيارا؟ أبداً. لقد قاومت كريستينا كومنشيني التجربة في أن تضع بطلتها في هذه الهاوية النهائية، لأن قصتها تصبح وبشكل متناقض سيرة كيارا، أي أننا في مرور مؤثر وبارع لشهادة بين امرأتين تتشابهان في النهاية على الرغم من الفروقات الواضحة بينهما. إننا أيضاً أمام تساؤلات كومنشيني حول الإبداع، إذ في هذه المواجهة التي تجمع ما بين المرأتين: إبداع امرأة توقفت عن النحت وإبداع امرأة تريد أن تكتب الرواية، أي من هذه العلاقة المتضادة (البداية والنهاية) تجيء رواية ماترويشكا لتجعلنا نطرح السؤال بدورنا حول هشاشة الحياة المنتصرة، انطلاقاً من الحلم، من الذكريات ومن الفانتسمات.
سيمونا فينشي
فكرة الطفولة، نجدها في رواية سيمونا فينشي “أين هم الأطفال” (منشورات غاليمار). ظاهرياً، يبدو الكتاب تقريباً واحداً من تلك الكتب التي يحب الأطفال المستوحدون قراءتها خلال العطلة الصيفية ليخترعوا عبرها العديد من الأصدقاء المتخيلين، القصة العادية لخمسة أطفال لوحتهم أشعة الشمس، ما بين العاشرة والرابعة عشرة، يشعرون بالسأم والضجر من حياتهم العائلية بين أهلهم، يقومون بغزوات متكررة على “فرن الخبز”، بجولات كشفية داخل إيطاليا، يستمعون إلى موسيقى الروك الاميركية، يضجرون من المدرسة، يلعبون لعبة الحرب النووية، وأحيانا، يجدون أنفسهم في عتمة كوخ كي يخاتلوا الضجر هذا.
هناك مارتينا، الشقراء الصغيرة، ذات الركبتين المخدوشتين وذات “المخ الذي يغلي” والتي عند بداية الرواية ونهايتها تردد أغنية أمام محيط حقل الذرة الذهبي. أغنية حزينة أشبه بأغاني “البلوز”، لكن للأطفال. أغنية علينا ترديدها وترديدها وترديدها.. أغنية كاملة وشفافة كي نستطيع طرد الشر بأسره كما طرد الأفكار السيئة.
في حوار صحافي أجري معها يوم صدور الرواية، قالت الروائية الايطالية (مواليد العام 1970 في مدينة ميلانو) عن كتابها عن روايتها، إن قصتها هذه “ولدت من هذا المشهد. لعدة أشهر، تملكتني رؤية هذه الفتاة الصغيرة التي كانت تغني أمام حقل الذرة، من دون أن أعرف ما كان يعني ذلك. كنت أسمع هذه الأغنية الحزينة، ذات يوم، فجأة، فهمت أن شيئاً مرعباً قد حصل، شيء سأرويه”. ولكي تكتب هذه القصة المرعبة، عادت فينشي لتغرق في أحاسيس الطفولة، في أفكارها. راقبت مجموعات الأطفال في الحدائق العامة والباصات، شاهدت مرات عدة ـ وقد أحبته ـ فيلم “كيدز” للادي كلارك، كذلك تابعت مجلات “البورنو” (الإباحية) كما مواقع الانترنت التي تبث صورا مماثلة.
تبدأ رواية فينشي هذه بنبرة أشبه بنبرات الكتب التي تنتمي إلى سلسلة “المكتبة الخضراء” (سلسلة شهيرة للأطفال) كذلك تسم القارئ كما لو انه لم يقرأ كتاباً مشابهاً من قبل، ومع ذلك نجدها تنتهي في “حفرة من الظلمات”. إنهم خمسة، مثل “نادي الخمسة”: مارتينا وأغنيتها، لوكاس وتعبه الذي يمضي أياماً كاملة وهو نائم كأنه طفل رضيع، كأنه مصاب بانهيار عصبي. ماثيو الذي يركض حتى الإنهاك كي يبعد ظلال الذكريات. ميركو الأكبر سناً بينهم، ورئيس “العصابة” صبي غامض متسلط، يسيطر على المجموعة ويشكلها على طريقته، مثلما يُشكل المرء عجينة. أخيراً، هناك غريتا، الميتة.
في الكوخ المعزول عن العالم، يشاهد هؤلاء الأطفال المجلات الإباحية ذات الألوان الصارخة، يتعانقون ويتلامسون ويقبلون بعضهم البعض ويستمنون… ومع ذلك، لا شيء خبيثاً في ذلك كله، كأنهم يقومون بتنويع حديث للعبة “عريس وعروسة” أو “بيت بيوت”. غالباً ما يرددون: “سنصبح..”. ماذا بالضبط؟ لن يصبحوا راشدين أبداً إذ إن أهلهم لا يشبهون أبداً الكبار في المجلات، بل بهائم صغيرة وجميلة ووديعة، بهائم تمضي الوقت، هكذا، وهي تخاتل السأم اللطيف لآخر أيام المدرسة، وهي تخترع ألعاباً تعليمية للأحاسيس والجسد والرغبة والحرية.
لا نقع أبداً، في بداية الرواية، على أشياء منحرفة. ما من شيء عديم الأخلاق في ألعاب الأطفال. لا يقومون بارتكاب أي شيء سيئ، إذ إنهم لم يعرفوا بعد تحديد معنى السوء. عند “أطفال” سيمونا فينشي كما في كتاباتها لم يوجد بعد لا الخير ولا الشر، ليس هناك سوى نوع من الانتظار (أو التجاهل) الغريب لكل ما تظهره مشاعرنا.
أما على الطرف الآخر من الكتاب، فلا نحس أبداً بأي “شرقطة” من شرقطات الانحراف الجنسي نحو الأطفال في عين القارئ الذي يهدهده إيقاع هذه الكتابة الوجيزة والشفافة والمطمئنة. ليس لأسلوب سيمونا فينشي كما ليس لطرق تركيبها الجملة، أي قدرة لتجعلنا ندخل في تهويمات ما، ولا أن نلجأ إلى إقامة محاكمات ما. ثمة كتابة تصف فقط، كتابة تصف بأكبر قدرة على السرية الممكنة من دون أن تظهر الاختلاف ما بين الأحداث في الكوخ وما بين الأحداث الأخرى. ما بين حسيّة المشهدية وحسية الجسد. إن كوخ الأطفال، ليس سوى جنة وُجدت، يوتوبيا نستطيع أن نقوم داخلها بفعل عدة أشياء قبل أن يمضي بنا الزمن، قبل أن يأتي الحب والشعور بالذنب.
مئة صفحة مليئة بالحسيّة إذ إن القصة مليئة بالألوان والعطور والريف الايطالي، كما لو أن العالم الحساس كان المتراس الوحيد لغزوة الجحيم، كما لو كان علينا دائماً إشعال النور لنخرج من الكابوس تشعرنا عميقاً بمتعة أن نكون أطفالا بعد، في مغامرة هؤلاء. لكن الحلوى الخيالية، مُرة الطعم. المجلات التي يحملها ميركو إلى الكوخ وهي أشبه بمجلات تعليمية تقريباً تصبح مجلات قذرة أكثر فأكثر. آلة تصوير تخرج من الحقيبة، سيارة تمر، راشدون يتسكعون ويشدون حبالا يجهل كنهها الأطفال. هرم الأعمار يتوافق مع هرم السلطة، يستدير المراهقون نحو الأطفال كي يلعبوا لعبة الكبار الذين ينفذون المشهد والذين يبدون منشدين إلى السوء والى الإباحية والى فاشية المجموعة. كل شيء يدفعهم إلى الاتحاد من أجل الشر، لغاية أن يفرقهم الموت، لغاية أن يقتلوا الفتاة الصغرى كما لو أنهم يقطعون لعبة بلاستيكية أو مثلما ينزعون عيون “دب قطني” كي ينتهوا من الطفولة، لا تستطيع سيمونا فينشي شيئا حيال ذلك. لا تعرف شيئا غير التوصيف داخل هذا الوعاء التجريبي. وكأنها شاهد يكتشف الشر أمامه.
تبدو البورنوغرافية اليوم على قول الكاتبة ـ أقرب إلى الموت والعنف منه إلى الحياة والجنس. “حاولت أن أتخيل ما يمكن له أن يحدث فيما لو وضعنا مجلات إباحية بين أيدي الأطفال والمراهقين. تساءلت إن كانت جمالية الموت والعنف هذه التي تهز كل شيء فيما لو أن هذه العبادة لصورة الموت لا تتوافق أبداً مع الموت الحقيقي”.. وفي تساؤلها هذا لا تفترض الكاتبة أي جواب في قصتها ذات العنف الذي “لا يحتمل”. إنها لا تجيد سوى إحداث القلق والشفقة وامحّاء القارئ، هذا الشخص البريء ذو اليدين المليئتين والذي سيشعر بالأرق طويلا بعد القراءة.
إن كانت هذه الرواية التي تبدأ مثل لمسة وتنتهي مثل صفعة تملك أسباباً جوهرية لتصبح مثالا أو فضيحة فلأنها تنظر إلى الطفولة في شكل مواجه ولأن القارئ سيكون أول من يخفض عينيه. أما ما عدا ذلك، فلا نجد أسباباً حقيقية تدعونا إلى القلق. إذ إن مارتينا تغني وهذا شيء حسن. لا دروس أخلاقية في هذه القصة الحزينة والجميلة المليئة بالملائكة الخائبين، فقط، ثمة تذكير بالمنطق والإنسانية.
( السفير الثقافي )