ليلى البلوشي *
( ثقافات )
” لقد قرأت في أحد الأيام جملة – لابد أنها لكاتب مشهور – تقول شيئا بمعنى أن الحياة مصنوعة من مادة الأحلام نفسها .. أما أنا أقول : إن الحياة يمكن لها أن تكون مصنوعة بالضبط من مادة الأفلام نفسها ” ..
هكذا تعترف ” ماريا مرغريتا ” في الفصل الرابع والعشرين من رواية ” راوية الأفلام ” ؛ فمن هي ” ماريا مرغريتا ” وما هي حكاية راوية الأفلام ..؟
في رواية سهلة ولذيذة في آن تتشبث الحكاية بصوت طفلة في الحادية عشر من عمرها ، والتي ترقب الأب المولع بالسينما ولادتها كي يطلق عليها اسم الممثلة الأثيرة لديه ، والتي أغرت العالم في عصرها وما يزال إغراؤها حديث الناس اليوم ” مارلين مونرو ” ، ولكن أم الطفلة والتي كانت تقلد حركات ومشية ” مارلين مونرو ” رفضت تحقيق أمنية الأب ، ليختار على مضض اسما آخر لابنته المنتظرة عزاؤه هو حرفيّ ميم في اسمها المركب ليكون ” ماريا مرغريتا ” ، غرامه كمشاهد لنجمة الإغراء الساحقة ” مارلين مونرو ” جعله يطلق على أبنائه الخمسة أسماء تبدأ بالميم ..
الطفلة التي تكبر بين أربعة أشقاء ذكور يعتني بهم الأب الذي كان عاملا في مناجم لاستخراج الملح في بقعة نائية من منطقة صحراوية بعد أن هجرتهم أمهم هاربة وراء أحلامها السينمائية من نوع آخر ورجل آخر حين تعرض الأب لحادث أقعده بقية حياته على كرسي بدواليب صنعها صغاره ؛ لعجزهم المادي عن شراء كرسي متحرك له ، الأب الذي يعتاد على عادة معاقرة الكحول بعد أن فرت منه المرأة التي أحبها لكنه يظل مولعا بالسينما كأنها عزاؤه الوحيد ، ولأن هذا الولع ، وهذه المتعة الوحيدة التي بقيت له بعد أن خسر زوجته وصحته تحتاج إلى إشباع ، لهذا يسعى إلى تحقيق متعته بطريقة فريدة من نوعها وهو اختيار راوي للأفلام من أبنائه الخمسة في تنافس أشبه بمسابقة واختيار أفضلهم مقدرة في سرد حكاية الفيلم الذي يشاهده في صالة السينما ، ليكون جديرا بتذكرة مشاهدة الأفلام في كل مرة وروايتها لهم ، فالأب يقوم بتوفير تذكرة واحدة لدخول السينما لواحد من أبنائه الخمسة للذي يكون الدور عليه ، لأن فقرهم المدقع لا يسمح بحضورهم جميعا الفيلم المعروض في صالة السينما الوحيدة في تلك الصحاري التي تخلو من كل متع الحياة ، لهذا كانت السينما هي المتنفس الوحيد لعمال معسكر المناجم وأسرهم الفقيرة ، وفي كل مرة يحضر أحد من الأبناء الفيلم ، فإن مهمته لا تنتهي بل يذهب رأسا إلى صالة المعيشة حيث ينتظره الأب العاجز على كرسيه وإخوته على مقعد عريض وبعد شرب الشاي يحكي لهم مشاهدات الفيلم بكامل تفاصيله ، وبعد أن يجتاز الأبناء الخمسة الاختبار يرشح الأب ابنته الصغيرة ” ماريا مرغريتا ” كي تكون حكاءة الأفلام لما تتمتع به من ملكة سرد الحكايات بأسلوب تمثيلي بديع مع حنجرة غناّءة ، هذه الطفلة التي بأسلوب سردها الفريد سرعان ما تكون ورقة رابحة لأسرتها حيث تتحول رواية تلك الأفلام إلى مصدر للرزق بنصيحة أحد الرجال الذين يقدرون الفن وقيمته في حياة الناس ، سرعان ما تكون ” ماريا ” التي تكبر مع كل فيلم تتابعه كما يكبر خيالها الخضب الراوية الأهم والأعظم في المعسكر الملح ، وفي كل بيت تذهب إليه يحمل أحد إخوتها صندوق الشاي الذي تضع فيه كل الأدوات والملابس والأقنعة التي صنعتها بنفسها لإضفاء مزيد من التشويق والخيال على تمثيلها ، وليكون تقديمها نابعا من قلب ممتلئ بالحكايات ، حتى أنها تستحوذ بصوتها الدافئ على عقول أهل المعسكر ؛ ليغدو ما ترويه بالنسبة لهم أفضل من الأفلام نفسها ، بل إن شغفها برواية تلك الأفلام يدفعها أحيانا إلى ادّعاء ما يشبه الكذب على العجائز حين كن يطلبن منها أفلاما قديمة كانت تمثل حقبتهن لم تكن راوية الأفلام قد شاهدتها من قبل ، ولكن كي تدخل إلى قلوبهم السعادة كانت تدّعي معرفتها بتلك الأفلام ، فتختلق أحداثها لهن بكل رحابة الخيال الذي كانت تملكه ” أظن أنه كانت لي في العمق روح مدبرة مكابدة ؛ ففضلا عن أنني بمجرد رؤية صورتين أو ثلاث ملصقة على لوحة الإعلان الخارجية ، ومن خلال نظرة كاهن شبقة ، وتقطيب وجه طفلة ، وإيماءة راهبة متواطئة ، كنت أستطيع اختلاق حبكة وتخيل قصة متكاملة وتدبر فيلمي الخاص ” ..
” ماريا ” التي أدركت من تجربتها في رواية الأفلام أن الناس يحبون أن تروى لهم الأكاذيب ، وهذا يشابه ما ذهبت إليه الكاتبة التشيلية ” إيزابيل الليندي ” حين حكت مرة بأن زوج أمها كان يلقبها بـــ” حكاءة الأكاذيب ” لأنها كانت تروي قصصا من خيالها البعيد المولع بكل ما هو ساحر وأخاذ ويستولي على عقول الناس بلهفة .. ويشابه أيضا ما صرّح به الكاتب ” جورج أورويل ” في كتابه ” لماذا أكتب ” حين أجاب عن هذا السؤال بقوله : ” عندما أجلس لكتابة كتاب ، لا أقول لنفسي : سوف أنتج عملا فنيا .. أكتبه لأن هناك كذبة أريد فضحها ، حقيقة أريد إلقاء الضوء عليها ” .. أما الروائي الياباني ” هاروكي موراكامي ” ففي خطبته أثناء دعوة لاستلام جاهزة القدس للآداب 2009م أشار إلى مسألة الأكاذيب في حياة الروائي قائلا يومئذ : ” لا أحد يتهم الروائي بالكذب وليس ثمة من يقول أن روائيا أرتكب عملا غير أخلاقيا في روايته حين أفترى على بطل من أبطال الرواية بل على العكس كلما كبرت الأكاذيب الروائي وأبدع في اختلاق أكاذيبه على الأرجح سوف يلقى إشادات لا حصر لها من الجمهور بشكل عام ومن النقاد ، لأنه حوّل الكذب إلى مهارة ” ..
لكن أسطورة راوية الأفلام سرعان ما تستحيل إلى مجرد ذكرى تستعاد كحكاية أسطورية ، لعدة أسباب من ضمنها موت الأب الذي كان وراء تكوينها كراوية أفلام ، ولكن الحدث الأهم الذي كان وراء أفولها هو حضور ” التلفزيون ” الحدث الطارئ والاختراع الرهيب الذي سرعان ما غزا كل البيوت في ذاك المعسكر ، لتتحول ” مارية مرغريتا ” أو كما استعارت لنفسها اسما مستعارا ” الحورية ديلسين ” إلى مرشدة سياحية لمعسكر خلا من أهله تماما بعد أن انتهت مهمة عمال الملح في المعسكر ، لتحكي لكل عابر سياحي حكاية راوية الأفلام لتدهش حكايتها عقولا استعمرتها التقنيات التكنولوجية الحديثة ..
” ماريا مرغريتا ” التي بفضل خيالها الفائض بقصص الأفلام استطاعت أن تتغلب على وحدتها في مكان خال من كل مظاهر الحياة الحديثة ..
ويبدو أن شغف رواية الأفلام كانت مستحوذة على كثير من البيئات في فترة ما قبل اختراع التلفزيون أو في دول منع عنهم هذا الاختراع كالصين ، حيث أن فكرة رواية ” راوية الأفلام ” ترجمة ” صالح علماني ” للكاتب التشيلي ” إيرنان ريبيرا لتيلير ” الذي ترعرع بدوره في قرية كان يستخرج أهله فيها الملح في وسط صحاري ” أتاكاما ” تلامس الفكرة التي عرضها الروائي الفرنسي من أصل صيني ” داي سيجي ” في رواية ” بلزاك والخياطة الصينية الصغيرة ” ولكن بأسلوب سردي مختلف ، حين ثمة صبيان ينفيان إلى قرية نائية في إحدى قرى الصين في عهد الزعيم ” ماو ” في أواخر عام 1968م ؛ وذلك ليعاد تأهيلهما مثل ملايين الشباب الصينيين – تحت إشراف الفلاحين الفقراء – وفي القرية يخضع الشابان الصغيران لأنواع شاقة من العمل السخرة ، وفي ظروف جغرافية ومناخية قاسية ، ولا يجدان ما يشفع لهما سوى موهبتهما الفريدة في الكلام ، والتي بدورها أغرت مأمور القرية ، ولذلك يعمل على إرسالهما مرة واحدة كل شهر إلى مركز المقاطعة لحضور العرض الشهري لفيلم سينمائي يقام في ساحة الألعاب الرياضية في المدرسة الثانوية للمدينة ، ليقوما بسرد ما شاهداه بالتفصيل لأهالي القرية ..
– كاتبة من عمان تعيش في الإمارات