*صالح العامري
1-عن الكتابة
• شمس ملتهبة ، شمس في مركز الكون ، لا تكفّ عن الدوران، ولا تكف الأشياء عن الدوران حولها. إنها الكتابة، إنّها السرّ، إنّها النوستالجيا، إنّها التوق الحار، إنّها الشهوة التي تسوق الوعول من قرونها، والفيلة من أنيابها، والممالك من عروشها، والمياه من قيعانها، والزلازل من فروجها، والبراكين من أفواهها المجنونة.
• يبدو أنّ جدوى الكتابة في لا جدواها، فلو كانت ذات نفع ومردود كبيرين كالذي للعقار أو الذهب أو النفط لاحتكرها الإقطاعيون وسماسرة المال وأخذوها جارية واغتصبوها ثمّ وأدوها حيّة. إنها غير مجدية قطعاً ، فلم تستطع- في أمد أنفاسها الطويلة نسبيا- أن تلد فيلسوفا بحجم إصبع اليد؛ يستطيع أن يقنع العالم بالكفّ عن شروره وأحقاده وضغائنه، ولم تستطع أن تنجب شاعراً يقذف الكائنات بوردته فيخرّ الشوك وينمحق القبح. الكتابة هيبّية ومتشردة وصعلوكة وشعثاء غبراء، لذلك لا يلتفت إلى جوهرها إلا قلة قليلة، ولا يسهر تحت شمعتها إلا جوابو الآفاق الطامعون في المستحيل. لكنّ الكتابة تشبه الحرية، فلكي تتحقق لا بدّ أن تنتهك قيمتها ويتقذر هيكلها وصلواتها. فالحرية لا تقوم إلا بعد أن ترتفع راية الطغيان والاستبداد، كما أن الكتابة لا تكون مفيدة ونافعة إلا عندما يشعر الكائن بفقره الروحي وتيبّس أطرافه من العوز للكلمات وبشاعة استنشاقه للمواد الكريهة المنفرة. اكتبوا يا أصدقائي، لا لكي تغيّروا العالم، فهذا زعمٌ لا يحتمل التكرار وجريرة ساذجة، بل كي تستطيعوا أن تحكّوا برؤوسكم تلك الجدران اليابسة الجوفاء، وأن ترتاح صابونات ركبكم على حجارة خطرة وزلقة، قد تودي بكم إلى فردوس مفقود أو جحيم يتشهّاه الشعراء، كما في بيتَيِّ القائل:
يا لاشتهائي جنّة من لظىً آكُــلُ من يانِعِها الآكِـــــلِ
في شجرٍ من لهبٍ ثائـــــرٍ على ضفاف اللهب السائلِ
• يبدو لي أنّ ثمة وشيجة بين ثمرة الرمّان والكتابة ، إذ يُقال أن أكل الرمّان وشرب عصيره يساعد على تقوية الذاكرة ويؤخّر الشيخوخة ويقاوم الخرف ، وإحدى مهامّ الكتابة هي أن تحفر وتؤسس ذاكرات للكائن ، وأن تمنع الصدأ والنسيان من ممارسة دورهما الشره والمتكالب. إنّ ثمرة الرمّان تحمي نفسها في حصن حصين وفي طوبوغرافيا معقّدة ومضمرة وحنون، مثلما هي الكتابة التي هي ليست إلا وليدة العزلة المجيدة وعناق الذات لأسئلتها وكينونتها الدفينة الغامضة.
2-عن الطريق
• في وسط الحشد الراقص، كانت ثمة امرأة تبكي، وكان القمر يمضي إلى سبيله الحالم.
•يقال بأن أقوى عضة إنسانية تساوي 750 نيوتن، (النيوتن يساوي ضغط عشرة كيلو جرامات) أي نصف قوة عضة الذئب أو سمكة القرش، لكن الإنسان لم يعد يعض أخاه الإنسان بأسنانه، بل بآلات أكثر دموية من جهنم، ويروّع ويبطش ويقتل ويسفك الدماء أكثر من أيّ حيوان جائع في الغابة، كما بلغت به الهمجية مبلغها بعد أن صار يعضّ نفسه وغيره من المخلوقات والأشجار والحيوانات. مسكين هو الأسد الذي يعض بقوة 4100 نيوتن، وبائس هو التمساح الذي يعض بقوة 13000 نيوتن. الوحش إنسانيٌّ بكل تأكيد، والخراب إنسانيّ، أما العض الفيزيقي فهو الدلال الوحيد الذي تمكّن البشر من الحصول عليه، منحة سماوية، بعد أن هبطوا إلى الأرض، ومع ذلك فإنّ أشجار معارفهم الزقومية قد دلتهم على موائد أشهى، مثل تقطيع الرؤوس، وبتر الأجساد، وإغراق المساجين، والتنكيل بالضحايا، وتمزيق الصحائف الأولى التي كتبت عليها الينابيع والشلالات والأراضي العذراء مواثيقها وعهودها الأزلية.
• بقي الطريق لي، كي ألقي فيه عصاي وأُخْرِج قطعان غنمي من كهفي المتواري، قارعاً أجراسي، نافخاً في مزامير البرية كي تقترب السهوب والمروج من عينيّ، وتتشاسع أمام خطواتي. بقي الطريق لي، وها أنذا مفتونٌ برعشة ما، تقف في منتصف جبيني الدائخ حقا. بقيت دوختي وها أنذا ألمسها كي لا تتعافى أبداً من الطريق.
• وجدتُ الشيء في اللاشيء، وجدتُ الكامل في الناقص، وجدتُ ريّي في عطشي، وجدتُ شبعي في جوعي، وجدتُ صرختي في صمتي، وجدتُ عيّي في كلامي، كما وجدتُني أقود دراجة هوائية لساعة كاملة بينما الدراجة لم تتزحزح قيد أنملة عن مكانها.
• ألفيتُ الجَمال في السراب، والنمر في الغزالة، والقلم في الممحاة، والعيد في ستارة تتخطفها الريح، والنهار في الليل، والضاحك في الحزين، والفقيه في المنفى، والصعلوك في الملك، والطاولة في سحابة، والجامعة في تفاحة الصف الأول الابتدائي، وأمّي في كمثرى، والمدينة مدهوسة تحت عربة قطار، والألف ياءً والياء أرملة تنتظر لا أحد في شرفة دامعة.
• كل ما كان يحلم به ذلك الشقيّ، أن لا يتعفّن في هذه الحياة، أن يحيا أطفاله فيه، أن يتحرك القمر في روحه وئيداً وئيداً مثل قطعة موسيقا متشظية في الرذاذ، وأن يصلي كثيراً كي يسقط مرة أخرى في المهد الأول والصرخة الأولى والرحم الأول.
• صادفتُني الليلة، صادفتُ قدميّ التائهين في ليلة مبقّعة بالنيون والأحلام، وعلى كتفي صرّة من جنون أنوي أن أفتحها في حانة أو مقهى لكي تنتشر خيرات العالم وثماره الطائشة وفواكهه التي بلا أنياب. صادفتني، يا لحسن الحظ، وقد كنتُ أظنّ أنني لن ألتقي وإيّاي إلا على متن طائرة تتبأر في انفجار مرعب.
• بعد أن يلج جملٌ في سَمّ الخياط، وفيلٌ في ثقب إبرة، سيتورّد خدّ فتاة قروية، وسأستعيد ابتسامتها مرة أخرى في وجه العالم المكفهر.
•أيها الغائبون الذين طواهم القمر بين أذرعته الحانية، الغائبون الراحلون في الفيء الأبديّ، المجللون بالرماد والغبار، أتذكر في الظلام شمعتكم، أتذكر في الحقيقة المخاتلة تردداتكم وذبذباتكم ولهفاتكم، أتذكر أغصانكم التي كانت النسائم الحرة تداعبها وتتأرجح عليها. يا أحفاد الموت، يا صبية المعزوفات النائمة، لا سلطة لكم ولا أعوان، لا شهوة لكم ومع ذلك يمضي فلجٌ من الحب بين المقبرة، لا قمر الليلة، لكنكم مضيئون. لا شمس لأحدكم، لكنكم تشرقون من كلّ جهات الحليب والخمر والعسل.
•ذهب الأعمى إلى آخر الطريق، بينما وقعتُ أنا في بئر الدهشة.
•وماذا لو مشيتُ إلى آخر العالم، سائراً صوب منبلج الوردة، ذاهباً نحو آخر شمعة تؤذن بالغياب!.
• كنتُ سعيداً أتلهى مع فراشة الغروب، وأتبع وعل الشاعر الحائر فيّ. وفجأة احترقت مدينة بأكملها أمام عينيّ، وابتلع الغول العظيم بحرها المطمئن. فقلتُ في نفسي: يا إلهي، من سيدفن كلّ هذا الحطام؟ ومن سيستردّ البحر من جوف الشيطان؟.
•«التزم بالسرعة المحددة» حتّى في قبرك. علّق تلك الأيقونة في منفاك، وحتّى عندما تمارس الحبّ؛ كي لا تنهبك أرَضة العار أو تحترق في المخازي أو تتأبطك الشرائع الأرضية. «التزم بالسرعة المحددة»، لا الدنيا، ولا القصوى، لكي لا تصل أبداً، أو لكي تصل، في أضعف الحالات، في الوقت المناسب للتهلكة.
•أهداني صديق لي كان منغمساً في الكتابة، وقد كفّ عنها بعد أن انغمس في الوظيفة، هذه القصاصة من سلالة «الإخوانيات» و»هجاء الوظيفة»، جاء فيها:
كان ما كان أنني فـي الـديار المزنّرهْ
أكتُبُ الشعر والمُنى والأغاني المشحررهْ
فـانتهى الحال ها هنا بين لحدٍ ومقبـــــــرهْ
كلّ صبح بقهــــــوةٍ مُرّةٍ أو مخمّــــــــرهْ
تشتكي من صداعها مثل رأسي المبعثرهْ
وأداجي زبائـــــــناً وظــروفاً مـــبرّرهْ
كلّ يومٍ مـــــــكرّرٌ وضياعٌ وثـــــرثرهْ
وغرامي مؤجّــــلٌ وعيوني مشفّـــــــرهْ
ومصــــــيري موقّتٌ بين فخٍّ وقُـــــــــبّرهْ
______
*جريدة عُمان