*أمير العمري
كان من أفضل ما عرض من أفلام في مسابقة مهرجان سان سباستيان الثاني والستين الذي اختتم مؤخرا، الفيلم الدنماركي “قلب صامت” للمخرج الشهير بيللي أوجست الذي تعرف العالم للمرة الأولى على موهبته السينمائية الكبيرة في عام 1987، مع عرض فيلمه “بيللي الغازي” الذي سرعان ما مضى ليمنح مخرجه جائزة الأوسكار لأحسن فيلم أجنبي.
بعد “بيللي الغازي” عاد بيللي أوجست ليتألق من خلال فيلم “أفضل النوايا” (1991) عن سيناريو لإنجمار برجمان يروي فيه فصولا من حياته، ثم تتالت أفلامه مثل “منزل الأرواح” (1993) عن رواية الكاتبة الشيلية إيزابيل ألليندي بطولة ميريل ستريب وجيرمي أيرونز وجلن كلوز.
وأيضا فيلم “أعده إلى المرسل” (2004)، وأحدثها فيلمه الذي أخرجه العام الماضي عن رواية أدبية وهو “قطار منتصف الليل إلى لشبونة”.
معظم أفلام أوجست تدور في الماضي، وفي بلدان مختلفة، ولكنه يعود في فيلمه الجديد “قلب صامت” إلى الدنمارك، في دراما تبدو في ظاهرها تقليدية تنتمي أيضا إلى الماضي، وقد تكون مستوحاة على نحو ما من عالم برجمان، متأثرة بفيلم “حب” لمايكل هانيكه، لكن أوجست يمنحها تلك الصبغة الإنسانية التي تجعلها قريبة من كل متفرج في العالم.
الموضوع يدور في معظمه داخل منزل كبير لأسرة من الطبقة الوسطى: الأب طبيب، والأم مريضة بمرض عضال، لا أمل في شفائها منه، كما يدرك الزوج جيدا.
على ما يبدو وكما سنرى خلال الفيلم، هناك اتفاق حدث بين الأم والأب والابنتين: الأولى متزوجة ولديها ابن في عمر المراهقة، والثانية تعاني من تدهور في حالتها النفسية والعقلية، وقد سبق أن أقدمت على الانتحار، وتعيش على العقاقير المضادة للاكتئاب. هذا الاتفاق يقضي بالموافقة على أن يقوم الأب بإعطاء الأم جرعة مضاعفة من العقاقير تكون كفيلة بإرسالها إلى العالم الآخر في هدوء، خلاصا لها من آلامها.
وهذا هو ما يطلق عليه “الموت الرحيم”. يأتي الجميع إلى منزل العائلة الكبير في الريف لقضاء عطلة نهاية الأسبوع الأخيرة مع الأم وتوديعها، قبل أن تزف إلى نهايتها مساء الأحد بعد أن يرحل الجميع.
الابنة الكبرى مع زوجها وابنها، والابنة الصغرى مع صديقها الجديد، وهو شاب سطحي غير متعلم ينتمي إلى طبقة أدنى، مدمن على تناول الحشيش، مما يدفع بالابنة الكبرى التي لا تثق في سلامة عقل وتقدير أختها الصغرى، إلى تعنيف هذه الأخيرة على إحضـــاره معها في تلك المناســـبة العائـــلية.
وتحضر أيضا امرأة عجوز هي صديقة الأسرة، وكانت كما سنرى من خلال الصور الفوتوغرافية، ترافق الأسرة منذ سنوات بعيدة، في كل الرحلات التي تقوم بها إلى خارج البلاد.
أسئلة معقدة
ما الذي يمكن أن يدور خلال عطلة “نهاية الأسبوع” في ظروف كهذه؟ ما الذي سيكتشف من أسرار، وما هي الشكوك التي ستندلع بين الجميع؟ وكيف ستتعامل الأم المريضة مع أفراد العائلة قبيل رحيلها؟ وهل قرار الأسرة صائب؟ وماذا لو كان الأب -كطبيب- قد أخطأ التقدير؟ وماذا لو كان الأب على علاقة سابقة قديمة بتلك المرأة الأخرى؟ خاصة بعد أن شاهدته الابنة الكبرى يقبلها ليلا.
وهل من الممكن التراجع عن هذا القرار الصعب بإرسال الأم إلى موتها؟ خاصة وأن من بين الشروط الأساسية لتنفيذ الخطة موافقة جميع أفراد الأسرة كبارا وصغارا واقتناعهم بذلك.
كثير من المشاعر والأحاسيس والبكاء والشكوك والهواجس تسيطر على الجميع، تخفف منها فقط حماقة ذلك الشاب الفوضوي، وحماس الأم ورغبتها في أن تحيا ولو لسويعات قليلة محتفلة بالسعادة وسط أبنائها.
تجرب ما لم تجربه في حياتها من قبل، ولو كان ذلك يتمثل في تدخين الحشيش، والرقص على نغمات أغنية قديمة من الماضي، وتناول كعكة أعياد الميلاد قبل الرحيل.
الابنة الصغرى تبدو أكثر ارتباطا بأمها، وبعد أن تمضي معها ساعة أو بضع ساعة، تضعف وتعاند وترفض أن تسمح بذلك الموت المقدر سلفا، مشككة في حسن تقدير والدها ودقة تشخصيه، فـ”ربما”.. يكون أمام الأم بضعة أشهر، فها هي تراها تمرح وترقص معهم جميعا وتباشر بنفسها الإشراف على إعداد وتقديم طعام العشاء لهم، فلِمَ لا نتركها تعيش ونستمتع بصحبتها أطول وقت ممكن؟
الابنة الكبرى من ناحيتها ترفض تماما هذا المنطق، بل وتبدو وكأنها تريد الخلاص من الأم في أقرب وقت، غير أنها سرعان ما تتراجع وتتشكك وتقول لأختها، إنها الآن فقط تتفق معها في رفض الانصياع لإرادة الأم، بعد أن أصبحت تشك في علاقة والدها بتلك المرأة الأخرى المتواجدة معهم، وهو ما ينفي عن موقفه النزاهة، بل قد يكون له مأرب ذاتي. وتقع المواجهة الحتمية مع الأب، ولكن الأم تتدخل بعد أن تتصاعد الاتهامات في الليل أمام باب المنزل، وتصارحهما بالحقيقة، حيث أنها هي التي أوصت صديقتها بأن ترعى زوجها وتـــتخذه زوجا لها بعد وفاتــها.
ثم تأتي المواجهة مع الأم التي ترفض وتتشبث، بل وترجو ابنتيها أن تسمحا لها بالانصراف في هدوء، فهي لم تعد ترغب في أن تواصل هكذا، إلى أن يفاجئها الموت المحتوم دون أن تكون مستعدة لاستقباله!
محنة مربكة
معظم مشاهد الفيلم تدور في الداخل، تحت إضاءة خافتة، وبين جنبات المنزل الكبير، ومع هيمنة اللونين الرمادي والأصفر على المشاهد.. ورغم قتامة الموضوع عموما، إلاّ أن هناك الكثير من لحظات كسر الطابع الحزين وإشاعة روح المرح في الفيلم من خلال الغناء الجماعي والرقص.
تبرز في الفيلم علاقة واضحة خافتة بين الأجيال الثلاثة: من جيل الأب والأم، فجيل البنات إلى جيل الحفيد الذي ينشغل بالتخاطب مع فتاة يشعر بالانجذاب نحوها، ولكنه لا يجرؤ على التصريح لها بإعجابه، بل ويشك في أنها ستعرض عنه عند دعوتها لمصاحبته، لكن الجدة تمنحه النصيحة التي يكتشف بعد تطبيقها أن الفتاة ترحب بالخروج معه.
وتبدو العلاقة بين الشقيقتين مشدودة ومتوترة، لكنها تصبح تدريجيا علاقة تعاطف مشترك أمام تلك المحنة المركبة: القدرية-الاختيارية.
أداء الممثلين والممثلات في الفيلم من أكثر ما يلفت النظر في هذه الدراما العائلية التي تدور حول فكرة الحب، وكيف تدفع بالمحبوبة إلى الموت انطلاقا من زاوية الرحمة والرغبة في تجنيبها الشعور بالمعاناة والعذاب.
في النهاية تنتهي الأم إلى مصيرها المنتظر والمقدر سلفا، ويرحل الجميع كما جاؤوا، ولكن هل ستبقى النفوس على ما كانت عليه قبل تلك المواجهة، مع الذات ومع الآخر، والأهم مع الموت؟!
بيللي أوجست واثق ومتمكن من تقنيات عمله في إخراج الفيلم، إنه يعتمد اعتمادا أساسيا على “الميزانسين”: تفاصيل الصورة، اللقطات القريبة التي تظهر المشاعر، الكاميرا الثابتة، الضوء الشاحب الذي يحجب تماما بقدر ما يظهر.
توليف الفيلم يدفع بالنسق الإيقاعي نحو بلوغ الذروة في تصاعد مشاعر الشك والتشكك، ممّا يوحي بأننا مقدمون على صدام ما، ويقع حقا لكنه يخبو، كما نشهد لحظات سعادة منتزعة من قلب المأساة ومن صلب الموضوع القاتم دون مبالغة أو ادّعاء.
أما استخدام شخصية الشاب الفوضوي الذي يصمت طويلا ويدخن كثيرا فكان جيدا، إذ أنه عندما ينطق، فإنه يلقي بعبارة تجعل الجميع ينفجر بالضحك. ففي لحظة من اللحظات الحزينة، يتطلع الشاب إلى الجميع ثم يتنهد ويقول: الأيام تمضي سريعا.. والسنون تمضي ببطء، وعندما يتطلعون إليه يستدرك على الفور قائلا: لا تظنوا أنني أصبحت فجأة مثقفا.. لقد سمعتها في إحدى الأغاني!
__________
*العرب