د. عمار علي حسن*
ليس «داعش» هو أول طور للإرهاب يواجهه العالم العربي، وفي ظني أنه لن يكون الأخير، طالما استمرت الأسباب التي تغذي التطرف الديني ومنها الخلل الفكري والنفسي والعيش تحت وطأة الصدمة الحضارية حيال الغرب، وضعف مجددي الرؤية السياسية المستمدة من الإسلام، إلى جانب الاستبداد السياسي والفقر والعوز والتهميش الاجتماعي ووجود من يسعى دوماً إلى توظيف الدين في الصراع أو التنافس على السلطة السياسية.
وعلى مدار ما يربو على سبعة عقود ومختلف الدول العربية تشهد توالد تنظيمات إرهابية تتكاثر كالأميبا، متشظية بلا انقطاع، يخرج بعضها من رحم بعض دون توقف، ومع الأيام يتزايد تطرفها وتشتد قسوتها ودمويتها. فـ«داعش» أشد عنفاً من «القاعدة» بل إن سلوكه طاول ما كان يفعله المغول وفق «شريعة هولاكو» وابتعد تماماً عن صحيح الإسلام، وعلى غراره أو تقليداً له بدأت تفعل مجموعات وجماعات وتنظيمات إرهابية في دول عربية عدة، تنظر إلى «الداعشيين» باعتبارهم ملهمين!
وقد مرت مصر بخمس موجات للإرهاب منذ الأربعينيات وإلى الآن، بدأت بما فعله التنظيم الخاص لجماعة «الإخوان» وصولاً إلى خلايا «جهادية» عدة وتنظيم «الجماعة الإسلامية» ثم العودة إلى «الإخوان» وأعوانهم مرة أخرى بعد أن سقطوا من جديد في الدم. وعلى التوازي شهدت دول عربية أعمالاً إرهابية قامت بها مجموعات تميل إلى التصورات التي اعتقد فيها وتمسك بها التنظيم الخاص لجماعة «الإخوان» وكذلك الجماعات والتنظيمات التي تتوسل باستغلال الدين لحيازة السلطة، لعل من أخطرها تلك التي شهدتها الجزائر في «عشرية دموية» اندلعت بعد تدخل الجيش للحيلولة دون وصول «جبهة الإنقاذ» للحكم، ليرفع الراديكاليون الإسلاميون السلاح في وجه السلطة والمجتمع، مستهدفين الجيش والشرطة والأحزاب المدنية وجموع الشعب بمن فيها الطبقات الفقيرة والمعدمة التي لا ناقة لها ولا جمل في الصراع على السلطة.
وخلال عشر سنوات من الحرب الضروس التي خاضها الجيش ضد الإرهابيين قُتل ما يربو على مئة ألف شخص، كثير منهم ذُبح كالخراف، ودمرت منشآت، وتعطلت مؤسسات، وحيكت مؤامرات، واستُنزفت أموال، وشاعت فوضى واضطرابات، وتفنن الإرهابيون في عملياتهم ما بين تفجيرات في العاصمة ومدن أخرى، ومهاجمة القرى النائية وقتل أهلها لعقاب الجميع على الالتفاف حول الجيش أو لإحراج السلطة وإظهارها على أنها عاجزة عن حماية الشعب، وتفجير منشآت نفطية وخطوط نقل الغاز الطبيعي.
وتحطمت أهداف الإرهابيين أمام إصرار الجيش على استئصالهم ونفور المجتمع منهم وظهور انشقاقات بين صفوفهم وقيام جناح من الحركة الدينية المسيّسة بالابتعاد عنهم بعد أن أدركت أن العنف لن يحقق لها مكاسب عاجلة أو آجلة. وحين جاء الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة طرح مبادرة لـ«المصالحة الوطنية» وتلكأت فصائل من «الإسلاميين» في قبولها ثم لم تلبث أن ارتضت بها، ورجعت تمارس السياسة بشكل علني ومن خلال مؤسسات الدولة وقوانينها وتشريعاتها. وظلت هناك جماعات إرهابية مصرة على رفع السلاح وانعزلت في الصحراء واعتنقت أفكار «القاعدة» وساهمت في إعلان ما يسمى «تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي».
والدولة العربية الثالثة التي شهدت موجات متلاحقة من الإرهاب هي اليمن، ولاسيما بعد أن استعصمت عناصر تابعة لـ«القاعدة» أو متبنية لأفكارها أو ما يشبهها بالجبال الوعرة وبنتْ علاقات مع المحيط الاجتماعي القبلي الخارج عن سلطة الدولة أو المتحدي لها. ولم يقتصر استهداف «قاعدة اليمن» أهداف داخل الدولة، وهي مسألة تكررت كثيراً على مدار العقد الذي سبق اندلاع الثورة، بل طال أيضاً أهدافاً خارجية مثل ضرب البارجة الأميركية «كول» في مياه عدن خلال شهر أكتوبر من عام 2000. وبالقطع سيجد المتطرفون في اليمن فرصة جديدة مع استمرار الصراع على الحكم وتدخل القوى الإقليمية في بلادهم إلى جانب استمرار العوامل التي أوجدت الإرهاب وتغذيه بلا توقف.
وفي سوريا تمكنت السلطة من إنهاء أي نفوذ لـ«الإخوان» وغيرهم من أتباع «الإسلام السياسي» و«السلفية الجهادية» بعد المواجهة المسلحة في حمص وحماة سنة 1981 ولكن هؤلاء ظلوا يعملون تحت الأرض في هدوء، وجاء الاحتلال الأميركي للعراق ليجعل النظام في دمشق بحاجة إلى التعامل مع «السلفية الجهادية» لمقاومة الاحتلال ولاسيما بعد أن هددت واشنطن بأن سوريا ستكون المحطة الثانية للقوات الغربية بعد العراق، ولذا نسقت دمشق مع بعض المجموعات «الجهادية» الراغبة في التسلل إلى الأراضي العراقية. وفور اندلاع الثورة ضد نظام بشار الأسد أطلت «السلفية الجهادية» و«الإخوان» برأسيهما فتحولت الثورة إلى حرب أهلية ثم صراع إقليمي أخذ في جانب منه صيغة مذهبية، وتطور الأمر إلى قيام مجموعة «داعش» الإرهابية باقتطاع جزء من البلاد.
والأمر نفسه ينطبق على ليبيا حيث كان القذافي يواجه عناصر جماعات التطرف الديني بالحديد والنار، ولكن هؤلاء تواجدوا صامتين ثم توافدوا من الخارج عقب اندلاع الثورة وانضم إليهم متطرفون من جنسيات أخرى، لتصبح البلاد أرضاً خصبة لجماعات إرهابية شتى في الوقت الراهن.
ولم تخلُ الدول بعض العربية الأخرى من جماعات متطرفة رأيناها في العراق متمثلة في «التوحيد والجهاد»، وفي الصومال هناك أكثر من جماعة حلت محل الدولة، وفي تونس نشهد توحشاً للسلفية الدعوية و«الجهادية» معاً، وفي المغرب كذلك والسودان والأردن ولبنان، وكل هذه البلدان شهدت عمليات إرهابية متفرقة. كما استُهدفت المملكة العربية السعودية في أكثر من حادث إرهابي منذ منتصف التسعينيات وحتى الآن، وكذلك الكويت، واكتشفت الإمارات أكثر من خلية إرهابية ومتطرفة منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001 وإلى الآن.
ولا أعتقد أن العالم العربي بوسعه أن يتخلص من الإرهاب ورواسبه في زمن وجيز وبلا ثمن، فالمسألة تحتاج إلى جهد جهيد ووقت مناسب، بشرط أن يفهم من يصنعون القرار ويتخذونه أن مواجهة الإرهاب هي معركة فكرية قبل أن تكون مواجهة أمنية بحتة.
– الاتحاد
* اديب وباحث من مصر