الثقافة الغربية تجدد رموزها العتيقة


*محمد الأسعد

لماذا يتصور كتاب ومخرجو ومصورو أفلام هوليوود، وما جرى مجراها، أن “الآخر” أو الغريب الهابط من الفضاء، الغازي للكرة الأرضية الزرقاء، لا بد أن يكون على هيئة مسخ متوحش؟ وحتى إذا جاء على هيئة إنسان طبيعي يشبهنا، وهبط من سفينته الفضائية، فلابد أن يكتشف صحفي فضولي أنه مسخ أيضاً، سحلية ضخمة مقنعة أو صرصور قذر منتفخ؟

هذا السؤال لم يفارقني، وتكرر في عدة مناسبات ولم يعد يتوقف عند الأفلام السينمائية، بل تجاوزها إلى كتب الرحالة الغربيين هذه المرة، ورسامي المخطوطات القروسطية وأخبارها عن الشرق وسكانه، عن أرض الظلمات المجهولة، وصولاً إلى التأملات الفلسفية لأصحاب الفخامة من أمثال مونتسكيو صاحب “روح القوانين” الذي لا يصدق أن الإله الرحيم وضع في جسد الأسود الإفريقي روحاً . 
في كل هذه المناسبات يظهر “الآخر” على هيئة “وحش” أو متوحش على الأقل، ويفقد، إن كان إنساناً، حتى سماته البشرية، فهو كما رأيته في المخطوطات، يسير بلا رأس، أو يمتلك عينين في صدره، أو يجلس مع قرين أمام نار يشويان إنسان “سفداه”، أي وضعاه على السفود . وتنتشر صور “الآخر” في نسيج الثقافة الغربية مسخاً شاذاً أينما وليتَ وجهك، بدءاً من كتب الراشدين وصولاً إلى كتب الأطفال . ولكن “الأنا” يعامل معاملة مختلفة، فحتى لو نشأ في بلاد المتوحشين بمصادفة ما، وترعرع على أنه من صنفهم، فلا بد أن يصحو يوماً ويتعرف إلى ذاته كإنسان كامل الأهلية، متحضر أباً عن جد .
ودهشتُ ذات يوم وأنا أعيد قراءة روايات “طرزان” الشهير باللغة الإنجليزية، فهذا الإنسان/القرد كما يطلقون عليه هو ابن لورد إنجليزي أصلاً، قتلت القردة على ساحل إفريقيا الشرقي عائلته، فنشأ هو الطفل الرضيع في وسط قبيلة من القردة، إلا أن مخترع شخصيته ينتزعه من محيطه البدائي المتوحش هذا ويعيده إلى أرض الحضارة، إلى لندن أو نيويورك، أما إفريقيا المتوحشة، غاباتٍ وبشراً، عرباً كانوا أو قبائل بانتو أو يوروبا، فيظلون كما هم، لأن أدمغتهم على حد تعبير مخترع طرزان “تفتقر إلى الشرارة الإلهية، شرارة العبقرية، التي تلتمع في دماغ الرجل الأبيض، رجل الحضارة الغربي” . الإفريقي والعربي بخاصة الذي وجده الغربيون قد سبقهم إلى إفريقيا، أرض الماس والذهب، ثم المحاصيل الزراعية الثمينة وبعد ذلك المعادن النادرة والنفط، متوحش بالفطرة، ولص وقاتل وتاجر عبيد كما تقول روايات الأطفال هذه!
ومرة أخرى لماذا؟
نحن نفهم الآن دوافع تصوير الشرقي على أنه من أقرباء الوحوش أو هو وحش كامل الأهلية، لأن هذا التصوير تقتضيه ضرورات إبادته والاستيلاء على أرضه وثرواته من دون أن يرف للقاتل جفن، ونفهم الآن أن كتاب القرون الوسطى، ومن رسم متخيلا الكائنات التي تعيش خارج عالمهم المعروف (أوروبا) على هيئة مسوخ لا تمت للبشر بصلة حتى في الهيئة، كان ينطلق من الدوافع ذاتها ربما، وإن كنت أرجح أن الجهل المطبق في تلك العصور هو الذي يقف وراء تخيلاتهم الشاذة، وليس سفنهم وقراصنتها فقط، ولكن كيف تجذر هذا السلوك وتمكن من أخيلتهم وصولاً إلى عصر الفضاء، عصر التقانة والعلوم كما يقولون؟ كيف تمكن بعد أن مر الغرب بعصر النهضة فالأنوار ثم العقل فالعلم كما يزعمون؟
“الآخر” وحش دائماً، غير عقلاني، أو هو من دون عقل أصلا، هكذا خلق، وحاشا لله أن يكون هذا من خلقه . وحتى اللغة التي ينطقها “الآخر” البربري، في خيال صناع الإمبراطوريات الاستعمارية بدءاً من روما وحتى واشنطن مروراً بمدريد ولشبونة وأمستردام وباريس ولندن، لا بد أن يكون الشيطان هو صاحب براءة اختراعها . أو هذه النتيجة هي ما توصل إليها مبشر في أرض اليابانيين على الأقل . فحين أراد ترجمة كتابه المقدس إلى اللغة اليابانية استعصت عليه الترجمة، فاستنتج أن الشيطان هو من اخترع لغة هؤلاء البرابرة حتى يمنع ترجمة الكتاب المقدس إليها . 
“الآخر” وحش دائماً، ليس هذا الذي يسكن الكرة الأرضية معهم فقط، بل وحتى ذلك المظنون أنه قد يأتي من الفضاء السحيق ذات يوم . ومعنى هذا باختصار أن كل ما هو “إفرنجي” أو “أوروبي” أو “غربي” وأخيرا كل ماهو “أمريكي” هو “الإنسان”، وغيره سواء كان جاراً أو قادماً من المجرات البعيدة مسخ كامل الصفات، يتغذى على لحوم البشر ويقتل بلا سبب، ولا أحد يسأل أو يجب أن يسأل إن كان هذا المخلوق المتخيل دون أدنى شك من مخلوقات الرب الرحيم أم من مخلوقات رأسمالية بربرية غربية تتلبس زيفاً وكذباً لبوس الحضارة؟
هذه النزعة في تصوير الآخر كمسخ عجيب، أو بربري، طافت بثقافات بعض الشعوب الشرقية، إلا أنها لم تتلبث طويلا، فأطلق الصينيون ذات يوم على كل من هم خارج دائرتهم الحضارية ألقاباً من هذا النوع، وكذلك فعل اليابانيون . واعتبرت ثقافة لغة الهند السنسكريتية الآخر مختلفا إلى درجة عميقة بحيث أخرجته من دائرة الإنسانية، بل وأخرجت من هذه الدائرة بعضاً من مواطنيها فنبذته، وطوقته بطوق حديدي في دائرة “المنبوذ”، وأكرهته على مسح وإزالة آثار خطواته على الرمل حتى لا تدنس قدمي عابر من طائفة الأسياد البراهمة يتصادف مروره فوقها .
ولكن هذه النزعة تمكنت من عالم الغرب إلى درجة لافتة للنظر، فهي وليدة عصرهم الهمجي المسمى القرون الوسطى، وتطبع بطوابعها عصورهم اللاحقة، وتتصاعد وتبلغ حداً جنونيا في عصر رأسماليتهم المتوحشة التي لاتستطيع تخيل “الآخر”، حتى وإن سكن أبعد مجرة تفصلنا عنها ملايين السنين الضوئية، إلا مسخاً . 
السبب، وهذه إجابة عن سؤالنا، بسيط جداً، فهذا المسخ العجيب هو انعكاس لصورة الرأسمالية البشعة التي تسقطها على العالم من حولها وعلى سكان المجرات، فهي آلة حرب وقتل وتدمير وتطوير أسلحة، وهي مصنع خيالات ترتسم على جدران كهف شبيه بكهف إفلاطون، لا يدرك سكانه العالم إلا أخيلة ترتسم على الجدران، سكان يجهلون الواقع الإنساني الحقيقي خارج الكهف . 
________
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *