الرواية السعودية … أما زالت في الهامش!؟


محمد العباس *



فيما يبدو محاولة لتأسيس مرجعية للرواية العربية نشرت جريدة «أخبار الأدب» في سبتمبر/ايلول 2001م قائمة تضم أفضل مئة رواية عربية. وذلك نقلاً عن إتحاد الكتاب العرب في دمشق حيث تمت مراعاة التوزيع الجغرافي، وتمثيل مختلف الأجيال. وقد تمثلت السعودية في تلك القائمة برواية ( الوسمية ) لعبدالعزيز مشري فقط. ويبدو ان القائمة توسعت إلى مئة وخمس روايات. فدخلت رواية (العصفورية) لغازي القصيبي كاستدراك غير مبرّر. وبطبيعة الحال حضر عبدالرحمن منيف كروائي من السعودية بروايته (مدن الملح). على الرغم من كون منجزه الروائي اللافت خارج سياق الرواية في السعودية.
في تلك الأثناء كانت الرواية في السعودية تعزز مكانتها بعد ان استأنفت حضورها مطلع التسعينيات بروايات تركي الحمد وعبده خال وغازي القصيبي ورجاء عالم، كما تبشر بطفرة روائية، بعد نوبة سبات طويلة حيث انقلب السؤال المزمن عن سبب غياب الرواية في السعودية إلى البحث عن سر الفورة خلال العقدين الأخيرين حيث لم تتصدّر الرواية السعودية المشهد الإبداعي المحلي وحسب، بل أفردت لنفسها محلاً في منصة الجوائز العربية، لدرجة ان روايتين من السعودية حصدتا جائزة البوكر. وقد فازت رواية عبده خال (ترمي بشرر) بالدورة الرابعة 2010، فيما تقاسمت رجاء عالم جائزة الدورة الخامسة 2011 بروياتها (طوق الحمام). كما تأهلت روايات أخرى لمحمد علوان (القندس) وبدرية البشر (غراميات شارع الأعشى) وعبدالله بن بخيت (شارع العطايف) وأميمة الخميس (الوارفة) للقائمة الطويلة والقصيرة في مختلف الدورات. وحظي يوسف المحيميد بجائزة الشابي عام 2011م عن روايته (الحمام لا يطير في بريدة).
منذ ان بدأت تلك الطفرة الروائية لم يهدأ المشهد لاستقرائها واستشراف مدياتها. حيث أثارت روايات تركي الحمد وغازي القصيبي موجة من الأسئلة التي يمتزج فيها السياسي بالاجتماعي بالأدبي. كما أحدثت رواية (بنات الرياض) لرجاء الصانع، ضجة إجتماعية إعلامية، حتى قبل ان تُترجم إلى أربعين لغة. وجاءت رواية صبا الحرز (الآخرون) كحلقة أخرى من حلقات انفجار الصمت الانثوي، الذي كان له صداه في قراءة الظاهرة النسوية. حيث تكثفت الدراسات حول هذا الحقل، إلى جانب المحاولات الرامية إلى قراءة المضامين الليبرالية والعلمانية في مجمل المنجز وتفكيك متوالية المعاني والدلالات المختزنة في طياته.
وقد توالت القراءات وتشابكت ضمن مدارات المشهد الداخلية فيما يبدو نوعاً من محاولة الفهم أو الانشغال بدراسة فاعلية المضامين داخل المنجز الروائي الذي أحدث بدوره رجّة إجتماعية. بدون التماس مع مستوجبات الظاهرة من الناحية الفنية وبدون ان ينفجر السؤال عما أضافته الرواية في السعودية من القيم الفنية والموضوعية إلى المنجز الروائي العربي وهو سؤال مستحق وبقوة خصوصاً بعد الدفع المتوالي لرموزها، وموضعتهم في صدارة المشهد العربي. لأن الإجابة المقنعة على هذا السؤال ليست كفيلة برد الشبهة النفطية لجائزة البوكر فقط، بل بتحريك الجدل حول الخطاب الروائي العربي وتجديد حيويته.
عندما يتعلق الأمر بالسرد تقل فرص الإحتكام إلى جدلية المراكز والأطراف. لأن الرواية تنتمي إلى نسق كتابي فردي في المقام الأول وليس إلى كتلة إجتماعية إلا ان الراوية القادمة من السعودية، وبموجب قانون الخبرة هي رواية الهامش الثقافي. مقارنة بالرواية الراسخة ذات التقاليد الكتابية العريقة في مصر مثلاً. وقد انتعشت في لحظة مفصلية على درجة من التعقيد السياسي إلى جانب روايات متولّدة في الأطراف خصوصاً في الخليج العربي وهي اللحظة التي استأنف فيها العراقيون والمغاربة حراكهم الروائي مرة أخرى.
هذه اللحظة التسعينية هي التي تمثل الجيل الثالث للرواية العربية التي ترافقت مع تحولات أيدلوجية وسياسية عميقة وتغيير معادلات الصراع وهو ما يعني ان الرواية العربية كانت على موعد مع موجة جديدة من الكتابة الروائية المغايرة، التي اضطلع بها جيل يختلف كلياً عن جيل التأسيس والجيل الذي تلاه حيث بدأت المراكز الثقافية المعروفة تتزعزع وبالتالي فان القارىء العربي يتوقع من الرواية في السعودية ان تحمل فنياً ومضمونياً ما يتجاوز رواية (التوأمان) لعبدالقدوس الانصاري، أو (ثمن التضحية) لحامد دمنهوري كمنطلقات للمنجز الروائي في السعودية. كما تتخطى قصص سميرة بنت الجزيرة وما تزدحم به من مادة حكائية، لا تفارق رومانسيات عبدالله جفري التي جاءت في مراحل لاحقة.
لقد صاحب صعود الخطاب الروائي بروز النقد الروائي عربياً إلا ان هذا النقد لم يُبد من الإهتمام ما يتوازى مع السمعة الإعلامية للرواية المنتجة في السعودية وتكاد تكون خارج اهتمامات القارىء العربي. على الرغم من كل ما يقال ويروج له إعلامياً لولا بعض المقاربات المدرسية التي يؤدي فروضها نقاد في الجامعات والملتقيات الثقافية السعودية، مفروضة بطبيعة المناسبات والإلزامات إلى جانب مطالعات إعلامية لروايات من الدرجة الثانية والثالثة لكُتاب يحاولون اختراق المشهد لأسباب مادية صرفة بالإضافة إلى مقاربات بحثية محتمة بشروط الدراسات العليا المنهجية.
لا وجود لقراءات ذات قيمة على المستوى الفني والكمي لرواية عبده خال (ترمي بشرر) مثلاً التي تُوجت بجائزة البوكر مقارنة مع ما حظيت به رواية (عزازيل) ليوسف زيدان، أو على الأقل مقارنة برواية (ساق البامبو) لسعود السنعوسي، وهو ما يعني انتفاء المقروئية، وامتناع النقد عن البحث العبثي في الهامش، أو العمل كرافعة لرواية لا أركان فنية أو موضوعية لها وهو الأمر الذي ينطبق على مساحة عريضة جداً من المنجز، إذ تفتقر معظم الروايات إلى الأفق المعرفي وحرفية السرد.
أما دور النشر العربية فقد استفادت من الطفرة الروائية في السعودية بشكل لم تكن تتوقعه. ففي الوقت الذي كانت معظم دور النشر تعاني من الإفلاس، جاءت تلك الموجة لتنفذها من أزماتها المالية فغيرت بعض الدور استراتيجياتها وحتى أيديلوجياتها اقتناصاً لفرصة لا تفوت تتمثل في وجود طابور طويل من الروائيات والروائيين الراغبين في الحضور لمجرد الحضور. كما تأسست دور نشر جديدة لهذا الغرض بالتحديد. ولم تعد تلك الدور معنية لا بسمعتها كدار نشر تنويرية مرموقة ولا بجودة المنتج، إنما بما يتطلبه السوق الآخذ في التوسُّع على إيقاع تمدُّد الرواية القادمة من السعودية.
ولا شك ان الرواية الصادرة في السعودية، المصنّفة كرواية من روايات الهامش، تحمل في بناها الظاهرة والغائرة رؤيتها الخاصة للذات التي انتجتها وللمجتمع الذي تولّد فيها. كما تحاول طرح مفهومها إزاء الآخر، وكل ما يجري على الأرض العربية من أحداث. وهو ما يحتّم وجود خصائص نوعية تفارق بها الذهنية السورية أو العراقية أو الفلسطينية أو اللبنانية وهكذا. بمعنى انه من اللازم وجود مرجعية سوسيولوجية مغايرة لمرجعيات ومنطلقات الآخر العربي ومشتركات أيضاً. فمرجعية الحرب والاحتلال في العراق مثلاً، غير متوفرة في السعودية وما طرحه الروائيون في السعودية حول هذا الشأن مجرد تأملات برّانية، مستمدة مما تعرضه الفضائيات.
لكل مجتمع مرجعياته وقضاياه وهنا تكمن مهمة الرواية أي التحرك على هذه الأرضية، خصوصاً ان الرواية أصبحت تحتل مكانة في المجتمعات. بما تمثله كمصب للحداثة الإجتماعية. وهو الأمر الذي يتطلب تغييرات سردية انقلابية على مستوى الشكل والأسلوب والمضمون لاستبطان التحولات السياسية والمجتمعية والثقافية العميقة إذ يُفترض ان تغلب على المنتج الروائي في السعودية سمة التجريب لمفارقة أنقاض الواقعية، لتغيير أفق القراءة، وتجديد الرهانات. 
ولكن يبدو ان الرواية في السعودية ما زالت تنسرد من الهامش، وتعيش لحظة فوضى يصعب ضبطها، سواء من قبل الرموز الذين يقدمون كل عام رواية تدل على تضاؤل حرفيتهم السردية واضمحلال خبراتهم أو على مستوى الجيل الجديد الذي حطم أرقام عدد الطبعات بروايات عادية جداً كرواية (أحببتك أكثر مما ينبغي) التي قد تغري فئة من القراء في الداخل، ولكنها لا تخاطب المركز الثقافي العربي ولا تضيف للفعل الروائي أي شيء.
ولو تأملنا منجز أي روائي من السعودية، من أولئك الذين يحضرون في المشهد كل عام برواية للاحظنا ان منجزه من ناحية الكم يفوق ما انتجه بعض الروائيين النوبليين في مساحة زمنية قصيرة. إلا ان الفارق على مستوى الفن والمضمون يقاس بالسنوات الضوئية. وهو ما يعني ان الروائي في السعودية مأخوذ باللعبة الإعلامية ومحمول على ضجيجها. وليس معنياً بالعملية الإبداعية. وكان معظمهم قد نذروا أنفسهم لتحطيم رهانات الإبداع وانتاج روايات دون أفق القارىء لا تنفتح على خطابات العصر، ولا تتفاعل مع شروط انتاج الرواية بمعناها الهدمي البنائي.
ان الهوس بالجوائز والترجمات يطمس روايات لافتة في طرح رهانات إبداعية وإجتماعية وثقافية، وهي روايات لم تحصد جوائز ولم تأخذ حقها من المقروئية، بل ان بعضها تم ترحيله بسرعة إلى الإرشيف لأنها مطروحة في مشهد يوصف بالمجتمع الدّفان الذي يلهث وراء الصخب الإعلامي ويجهل الكيفية التي يقدم بها نفسه للعالم. وعلى هذا الأساس تبدو صلة الرواية في السعودية بمختبر الرواية العربية على درجة من التشويش والارتباك وسوء الفهم الذي يحط من قدرها، ولا يسمح بقراءة النماذج الأجدر منها.

* ناقد من السعودية
( القدس العربي )

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *