على أعتاب مولانا جلال الدين الرومي يسجد العقل


*خالد محمد عبده

سُئلت أنا ماري شيمل في أحد المؤتمرات لماذا لا تترجمين المثنوي وأنت قد عشتِ مع مولانا جلال الدّين الرومي عمرًا؟ فأجابت لا أستطيع!

أنا ماري شيمل كانت تعرف من اللغات ما لا يعرفها غيرها من دارسي الإسلاميات اليوم، وكانت سببًا في تعريف الشرق – هذا إن عرف الشرق ما أرادته الطاهرة قرة العين – بشخصيات صوفية من الهند والباكستان والسند وتركيا لم يسمع عنها من غيرها. كانت تستطيع أن تترجم أعمال الرومي كلها كما فعل نيكلسون. لكنها لم تفعل.. لم تملك قدرة على نقل هذا العالم الثري إلى أي لغة مهما كانت من اللغات التي تمتلك ناصيتها. فكلّ اللغات بالنسبة لها تعجز عن نقل عالم مولانا الرومي إلى القرّاء!
صاحبة كتاب “وأنّ محمّدًا رسول الله” كانت ترى الرسالة أوسع من أن تستقل بها منطقة أو يحدّها زمان، فتجاوزت الأزمان وخرقت حدودًا وسياجًا صنعه (أهل الإسلام) من أجل (خدمة الإسلام).
سحرُ هذه السيدة كبيرٌ، وكلُّ حرفٍ خطّته من نور حرف من حروف مولانا. ورغم أن السيد الكريم محمد كفافي قد قام بتحمّل مشاق نقل معاني ثلاثة أجزاء من المثنوي، تمّ طبع جزءين منهم في بيروت، ومن قبله فعل الشيخ الصاوي شعلان في بعض قصص المثنوي التي ترجمها ونشرها في مجلة “الأزهر”، ومن قبلهما فعل عبدالوهّاب عزّام في نقل بعض الفصول وحاول أن يعرّف كعادته قرّاء العربية بروائع الأدب الفارسي، وأخرج لنا كتابه الثري رغم صغر حجمه “فصول من المثنوي”، وأتم نقل معاني المثنوي إلى العربية في صورة كاملة من حيث عدد الأجزاء الراحل الدكتور شتا. إلاّ أن سحر ترجمة من يتخلّص ويوقّع مقدمات كتبه بـ (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ) عيسى العاكوب بارك الله في جهوده يذكرك بالأنوار الحقيقية، فهو موصولٌ بالقديم وبالمحدث، نقل نصوص مولانا من الفارسية إلى العربية فمن “مجالس مولانا” إلى “فيه ما فيه” تجد نورًا متصلاً يُصرّ العاكوب أن يحمله إليك، ولا يتوقف عن إدهاشك في حُسن صياغة الجمل، أو النفخ في طينتك الراقدة حتى تُبعث من جديد مع حروف الرومي التي تحمل سر الأسرار، ولا يفنى معها إلا البارّ بحق نفسه.
نقل العاكوب غير هذا من عوالم الرومي السبعة رسائل مولانا ورباعياته. نقل من ديوان “شمس تبريزي” أيضًا ما يجعلك تخشى على قلبك وأنت تقرأ من حلاوة معناه. تكفينا مختاراته التي أراد نقلها في “يد العشق”. وقد أحسن العاكوب الاختيار بنقل دراسات أهل الغرب “الأكابر المخلصين” إلى اللغة العربية – التي حتى الآن لا يعرف كثير من أهلها الرّومي.
نقل لنا دراسة المستشرقة الفرنسية التي انجذبت إلى عالم الرومي الأستاذ، ومن أراد أن يتشرّف بتلمذة روحية عليه محمد إقبال، فمِن إقبال إلى الرومي غرقت ايفا ميروفيتش في عالم الروحانية في الإسلام، ومن العجيب أن يعرف الدارسون المختصون إيفا وشيمل منذ وقت مبكّر، فلم تكن الرسائل العلمية في مصر تطرح جديدًا في عالم الرومي دون الاعتماد على دراسات شيمل وايفا، نذكر من ذلك على سبيل المثال: حسين مجيب المصري في دراسته عن إقبال وترجمته لروضة الأسرار عام 1977، وترجمته لتطوّر الميتافزيقا في بلاد فارس، ومحمد السعيد جمال الدين سواء في ترجمته لجاويد نامه “رسالة الخلود لإقبال – أو معراجه الروحي” أو نقله لتطور التفكير الديني في إيران، أو كتاباتهم عن “الأدب المقارن”، ورغم جهود هذين الأستاذين، أضحى من النادر رؤية مجيب المصري مرة أخرى يولد في مصر، إلاّ أن كتابات غنيمي هلال الراقية كانت أكثر عمقًا وإبداعًا في هذا الجانب!
نقل العاكوب رحلة ايفا مع الرومي والتصوف إلى العربية، نقل المحب لأمانة رأى أن نقلها سيلقى فرحة عند أرواح العطاشى والتائقين لعالم غير عالم الطين هذا. نقل عن ايفا التي نُقل جسدها حيث رحاب مولانا الطاهر لتدفن بجواره، كما دُفن كل أحبابه القريبين زمانًا بجواره، ومن انتسب إليه ماحيًا الزمان والمكان كإقبال الذي صُنع له تمثالاً يقف في قونية في شموخ واقتدار.
من يعرف الرومي لا يموت، من يعرف الرومي يُولد كل يومٍ من جديد، نقل العاكوب الذي يحب الشفا لحقوق أهل الإخلاص دراسة فرانكلين الباحث البريطاني الذي بدأ مع سنائي كمولانا، وأعلن أهل بلدته حُسن صنعته حين أوقف سنين طوال من حياته على درس الرومي، وأخرج لنا كتابا في مجلدتين شرّق وغرّب فيه، وأحصى واستقصى ما لا يطيقه العرب أهل النقش على الماء وتغليف القلوب والأوادم في حديدٍ وزجاج. من الذي يقدر على الوقوف في حضرة مولانا؟!
يسجد العقل ويفنى القلب على أعتاب مولانا. 
____
* ميدل إيست أونلاين

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *