هيثم حسين*
ينقل الكاتب التونسي علي مصباح (1953) في روايته “حارة السفهاء”، الصادرة عن “منشورات الجمل”، بعضا من إجرام المستبد وتعامله كسلطة احتلال مع أبناء بلده، بحيث ينهب موارد البلاد ويفتك بأهلها، ويسعى إلى بثّ اليأس بينهم، ودفعهم إلى الاغتراب عن ذواتهم، وهدر طاقاتهم في صراعات لا تجدي، بحيث يحتلّ تسخيف الآخر مركزية في العلاقة بين الناس، وتتمّ الاستعانة بأقوال السفهاء وتصرفاتهم التي قد تصبح مقياسا للولاء المزيف.
يتقصى علي مصباح في روايته “حارة السفهاء” طاغية منذ طفولته وحتّى شيخوخته، وكيف أن كلّ مرحلة عمرية اتسمت بخصائص مختلفة، تنوعت فيها الاهتمامات واختلفت التصرفات الغريبة، بحيث يهيمن عليه في كل فترة هوس ما، وغالبا ما يتّسم الهوس بممارسات عنيفة وفظاعات متعددة، ولا يعدم دوما وجود أشخاص يساعدونه على تجميل قباحاته وتزيينها له، والسعي لإظهارها كبطولات خارقة في الإعلام الموقوف لتعظيمه فقط.
صور كاريكاتورية
الزعيم غير المسمّى، يرمز إلى أكثر من طاغية عربي سابق ومعاصر، يفضح مصباح من خلاله سلوكيات الطغاة في التنكيل بالشعوب، والعمل على خلق فتن بين الناس لتقسيمهم وتفتيتهم، وإبقاء الجميع متّهمين ومدانين دون أيّ ذنب، وذلك بحجّة مصلحة الدولة العليا، تلك التي تكون ذريعة دائمة لتهميش الناس وإقصاء المختلفين، وتجريم المعارضين، والقضاء على أيّة احتمالات مستقبلية لنشوء أيّة معارضة.
يبرز مصباح كيف أنّ البطانة الفاسدة تمارس دورها الخبيث في إيهام الزعيم المتسلط بالتفرد والعظمة. يحضر المستشار بو قيس في الرواية بهيئة القرد المهرج المتخفي في لبوس التابع الوفي، يستعين به الرئيس في كثير من المهمات التي تتطلب قدرا كبيرا من السرية واللؤم، فتراه يلبي له مطالبه وينفذ أوامره، تلك التي تتبدّى بدورها صدى لمشورته، وانعكاسا لرغباته المرضية.
يشير مصباح إلى شرائح اجتماعية مختلفة، يرسم ملامح أجيال نهبت منها الديكتاتورية أحلامها ونغصت عليها حياتها، بحيث تجد أن الهجرة أصبحت حلما لجميع الشباب، والحلم بالهرب من البلد الذي لا يشعرون فيه بأيّ انتماء أو تقدير، ما يدفعهم إلى مواجهة المشقات، وتحمل الصعاب للظفر بسبل للخلاص من قيود الزعيم المستبدّ الذي يستلب كلّ شيء، ولا يبقي على أيّة بارقة أمل.
تنكيل الزعيم يبرز عبر وضع الشخص غير المناسب في المكان المناسب، وجمع رهط من المنافقين من حوله، بحيث لا يجيدون إلّا التصفيق له والتهليل لعتوّه وتسلطه، ويبالغون في رفع الشعارات العامِية، ويتحول كل واحد منهم إلى طاغية صغير في دائرة الطغيان، يمارس استبداده على مَن حوله من مرؤوسين، بحيث أن التصرفات الاستبدادية تتناسل وتعمّ، وتبلغ درجات من القسوة والعنف. وتتزامن مع إصدار قوانين مثيرة للسخرية، ومدعاة للرثاء والغرابة في الوقت نفسه.
كي تكتمل الصورة الكاريكاتورية للديكتاتور، تراه ينتقل من حقل إلى آخر، زاعما الإبداع في مختلف حقول المعرفة والفكر والأدب، التي لا تفلت من براثنه، ليحرص على الظهور بمظهر المثقف الموسوعي المواكب للعصر، يلقي بتنظيراته الجوفاء في مجالس أنسه، يفرض الالتزام بها وكأنها نظريات ثابتة. تراه ينتقد الفنّ الذي لا يهتف له ولا يكون مجيرا في خدمته، ويعتبر أي أدب خارج إطار رغبته وتعظيمه قلّة أدب، وتشويها للذوق العام. ودوما تكون ذريعة مصلحة الوطن العليا بالمرصاد لأي مخالف أو مختلف.
السخرية سلاحا
يوقن مصباح أنّ السخرية هي أنجع وسيلة لمناهضة الديكتاتورية، وتعرية الديكتاتور، وذلك عبر رسم صورة المهرج المتخفي تحت قناع الرعب والترهيب، وتصوير الخوف المتفاقم في داخله، ذاك الذي ينهش روحه، ويمنعه من التمتع بلحظة هناء وهدوء، ويبقيه أسير وساوسه وهواجسه وشكوكه التي تطال جميع مَن حوله، ولا يستثني زوجته التي تكون شريكة في الآثام ومحرضة عليها.
يفترض الروائي نهاية لا تخلو من سخرية وعبث، حيث تتحول لعبة المرايا التي تظهر الدواخل، إلى لعنة الشخصية ذات الأنا المتورمة، المهزوزة والموهومة بالأبدية، يغدو كلّ جرم اقترفه قيدا مضافا إلى سلسلة قيوده الكثيرة، يظلّ سجين انعكاسه في المرايا، ورهين رعبه المتعاظم، يتخلّى عنه مَن حوله، يجد نفسه شريدا مطارَدا مهزوما ملقيا به في هاوية الجحيم التي كان يخصصها لمعارضيه الذين سحقهم دون رحمة.
يختم مصباح روايته بتحريض على تسخيف المستبد ومواجهته بالسخرية اللاذعة التي تبديه سفيه قومه وبلده، تراه يطلق وصية بطله التي تبدو صدى لصرخة الأمل الواجبة في بحر الضياع الذي راكمه الطغيان وكرسه بالتقادم، يقول: “مَن له شدقان للضحك فليستعدّ. أن نموت ضحكا فذلك خير لنا من أن نموت كمدا!”.
يستعرض مصباح صورة الديكتاتور الشرقيّ في طغيانه وجنونه وفتكه بالبلاد بطرق ترويعية، ويتبدّى في روايته وكأنه يحاول محاكاة روايات صورت الطغاة والديكتاتوريين، وأظهرتهم من مختلف الجوانب، واقتفت سيرهم من بدايتها وحتى سقوطهم في الهاوية. من تلك الأعمال التي تحضر عوالمها بطريقة أو بأخرى؛ “السيد الرئيس” لأستورياس، “خريف البطريرك” لماركيز، و”حفلة التيس” ليوسا.
( العرب اللندنية )