ميشال النمري سوسنة بشّرت بالربيع


صقر أبو فخر *


في الثامن عشر من سبتمبر/أيلول 1985، اغتيل في أثينا الكاتب الأردني، ميشال النمري. وها هو الزمان يدور دورته ليطوي تسعة وعشرين عاماً على الجريمة، ويدلف إلى الثلاثين. ومع ذلك، من المحال أن يطوي النسيان ذكرى ميشال النمري، ما دمنا شهود الأيام على مظالم الحُكّام. لم يكن ميشال أحد أوائل الطيور المهاجرة التي بشرت مبكراً بمقدم الربيع العربي فحسب، بل كان، إلى ذلك، إحدى العلامات القليلة في تاريخ الصحافة العربية الشجاعة. ولا ريب في أن اغتياله كان شوطاً في مسار طويل سقط فيه كثيرون، أمثال غسان كنفاني وكمال ناصر وعز الدين القلق ووائل زعيتر ومحمود الهمشري وباسل كبيسي ونعيم خضر وحنا مقبل وناجي العلي وآخرين. لكن، انفرد ميشال النمري عن هؤلاء جميعاً بإعلاء شأن الديمقراطية والحريات والدعوة إلى تأسيس الحكم على قاعدة النظام البرلماني الديمقراطي، بينما كانت الثقافة السائدة آنذاك تُعلي من شأن التحرر الوطني والعدالة الاجتماعية والتضامن الأممي مع الشعوب المضطهدة، الأمر الذي جعله يتصادم حتى مع أصدقائه في المنظمات الفلسطينية. ومهما يكن الأمر، فقد كان ميشال النمري جسوراً غير هيّاب في التعبير عن نهجه وأفكاره، وكثيراً ما أقضَّ قلمه مضاجع الاستبداد العربي والمستبدين العرب.
ولد ميشال النمري في سنة 1948 في قرية صمد في شمال الأردن، وعاش مع عائلته في مدينة المفرق، قبل أن ينتقل وحيداً إلى مدينة إربد لمتابعة دراسته. وبدأ اسمه يلمع في أثناء الدراسة الثانوية، ما جعله ينضم إلى “الاتحاد العام لطلبة الأردن” المعارض للسلطة الأردنية. وقد اختاره المؤتمر الثالث للاتحاد الذي عُقد في مخيم عين الحلوة في سنة 1971 عضواً في هيئته الإدارية.
سافر ميشال النمري إلى يوغوسلافيا سنة 1968، والتحق بجامعة بلغراد، ثم انتقل إلى إيطاليا لدراسة الطب في جامعة “بيروجيا”، لكنه لم يلبث أن غادر إيطاليا إلى بيروت لينضم إلى حلقات الأردنيين في الثورة الفلسطينية. وفي 1974، بعد أن اعتقد أن حرب 1973 غيّرت الحياة السياسية في الأردن، عاد إلى عمّان، وراح يكتب في جرائد “الصباح” و”الأخبار” و”الدستور”، وشارك في تأسيس “رابطة الكُتّاب الأردنيين”، وأسس “لجان الدفاع عن الحريات الديمقراطية في الأردن”. غير أن توقعاته لم تكن في حجم آماله، فشدّ الرحال ثانية إلى بيروت، معقل الهاربين من عسف سلطات بلادهم، وموئل الحالمين بعالم خالٍ من القمع والتسلط.
عمل فترة قصيرة مديراً لتحرير مجلة “الموقف العربي” في نيقوسيا، وعاش حصار بيروت في 1982، وبقي في هذه المدينة، حتى بعد أن غادرها المقاتلون والأدباء والكتاب العرب، وبدأ يكتب في جريدة “السفير” ومجلة “الكفاح العربي”. وجراء الأحوال المرّوعة التي خضعت لها بيروت، بعد الخروج الفلسطيني منها، غادر إلى دمشق في سنة 1984، ثم إلى نيقوسيا، حيث أسس مجلة “النشرة” التي تخصصت برصد الاعتداء على الحريات العامة والفردية، وأصبحت منبراً لفضح التسلط والتنكيل وامتهان الكرامة الإنسانية. ثم اتسعت صفحاتها لنقد المعارضات العربية، وتقصيرها وأغلاطها. ولعل عند هذا الحد، وقعت “النشرة” في “النقطة الميتة”، وباتت حقلاً بلا سياج، فتناوشتها السلطات العربية والمعارضات العربية معاً. وكان من عقابيل ذلك أن اغتالته في أثينا مجموعة إرهابية، ونقل جثمانه ليدفن في المفرق، ولم يتمكن أصدقاؤه، وكانوا قد تفرقوا أيدي سبأ، من المشاركة في جنازته. ومن غرائب الأحوال أن الكاتب خليل الزبن الذي تولى إصدار “النشرة”، بعد اغتيال النمري، اغتيل في غزة أيضاً. وهكذا طويت صفحة وضاءة ونادرة من سجلات الشجاعة العربية.. نعيد فتحها كي لا ننسى



* كاتب من فلسطين يعيش في بيروت

– العربي الجديد

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *