قراءة في رواية أعالي الخوف لهزّاع البراري


د. ديانا رحيّل

( ثقافات )


الحبُّ والخوف وأزمة الإحساس بالوجود



إن كل عمل هو إيمان حقيقي بخصوبة الذهن البشري، والعالم المحيط بالإنسان، وإن أعمال كل مبدع إنما هي تعبير عن مدى هذا الإيمان، وهزاع البراري مع شخوصه تخطى بكل ثقة المحاكاة واستطاع من خلالها نقل أبعاد كل شخصية بصورة واضحة.
وتلك قدرة المبدع حتى يستطيع أن يمحو معالم كل جانب بشكل منفرد، لأن عملية إظهار الشخصية بوصفها أحد العناصر الفنية في العمل يحتاج فيها إلى مقدرة نقل تتجاوز حدود الزمان والمكان إلى عوالم رحبة، أكثر صلاحية لكي تصبح نماذج بشرية عامة.
ولا بد للروائي من تسجيل التفاعل المحتدم بين عالمي الشخصية الداخلي والخارجي، إذ تبدو أبعاد شخصية البطل من خلال مواصلة الصراع والتفاعل المطّرد في جوانبها.
يجمع البراري بين الشخصيات الرئيسية في الرواية تقديمهم من خلال راو عليم بمجريات الأمور. وتعيش الشخصيات الثلاث قصص حب لكنها يغلفها الخوف، فالحب والخوف هما حركتا الشعور، الأولى للأمام والثانية للوراء، والخوف يأكل الروح.
بطرس طبيب الأسنان المسيحي الذي أحب عليا البدوية المسلمة، وكانت نهايتهما بمقتلها وتعرضه للضرب المؤذي على يدي أشقاء عليا.
أما فارس فهو أستاذ جامعي، هذه الشخصية خاضت علاقات عدة، لكنه أحب إيناس وتزوجها، وعندما أصيبت بسرطان الرحم، انتهت علاقته بها بالطلاق بناء على رغبتها، وحينما ذهب للقاهرة لرؤيتها راغبا بإعادة الحياة بينهما، لكنه فوجئ بإيناس جديدة.
وديمة فنانة تشكيلية، أحبته حبا ملائكيا، كانت مستعدة للانزلاق في علاقة لا حدود لها معه، وتراه حبيبا أبديا، وزوجا، وهو أحبها، لكنه رفض الزواج بها لأنه كان يرى أن الزواج موت مؤكد، ويطيح بكل شيء جميل في حياته، فآثر الوحدة والحزن والألم على الارتباط.
أما هديل فاتسمت علاقته بها بالجرأة، فهي أرملة في الأربعين ولديها بنت، ولم تتحرج من إقامة علاقة عدة مرات معه، في السيارة وفي الفندق، وانتهت علاقتهما بسفرها إلى الإمارات للعمل.
ونور هي الطالبة الجامعية الصغيرة، التي أحبته لكنه لم يترك لهذه العلاقة شيء، وأطاح بأحلامها، رغم محاولاتها بالتقرب منه.
إبراهيم الذي نشأ في بيت دين وأصحاب كرامات، أحب ديانا قدري الشيوعية المسيحية، وانتهت علاقتهما سريعا بسفرها لإكمال دراستها. 
رواية أعالي الخوف، كما يشي عنوانها، تغلّب الخوف والقلق على الجميل في الحياة، فهي تفيض بالحب الممزوج بالخوف، وبالتالي لم تعش الشخصيات حبها بصورة إيجابية، بل كان الحب أزمة، لأن الحب الذي يمنحه طرف يقابله الآخر بالرفض، كما في شخصية فارس ، فقصته مع وإيناس، الذي أحبها لكنها بعد الطلاق لم تلبِّ له رغبته بالعودة. أما ديمة فهي التي منحته الحب لكنه فضّل الوجع والجرح على ايجاد علاقة جادة وصحيحة. ونور أيضا هي البادئة بالحب ورغم إعجابه بها إلا أنه قتل ذلك الحب منذ البداية.
وفي قصة بطرس وعليا، لم تنتهي بأزمة بُعد وفراق بل بالموت، أو بصورة أدق بالقتل لها، وقتل لرجولته. وإبراهيم الذي شغف قلبه حب الشيوعية ديانا، انتهت العلاقة سريعا، محدثة في القلب جرحا لا يبرأ.
هذا الحب الممزوج بالخوف، هو الحب الذي تفيض به الرواية، وهذا يجعلنا أكثر رضى بما آلت إليه أحوال الشخصيات، إذ جعلتنا نتقبل ذلك الفقد المقيت بينهم، لأنه كان حبًّا مشوّها، ولم يكن سليما. الحب الذي يقدمه طرف ويرفضه الآخر، والحب الذي يقدمه الطرفان يرفضه الدين.
إن الإحساس بالوجود لا يتحقق في الذاتية وإنما يحصل الإنسان على الإحساس بوجوده من خلال الآخر، لذا فالاغتراب هو جدلية، هو أزمة الإحساس بالوجود، هذا الإحساس سواء نبع من دواخلنا أم داهم أحدنا من الخارج (البيئة الخارجية) وما حملت له من قلق ومساحة مرعبة من أحداث لا طاقة له على حملها، يحاول أن يهرب من هذه البيئة معتقدا أنه تحرر منها، ولكن الحقيقة ليست كذلك، لأن الاغتراب هو أزمة الإحساس بالوجود، لا بتغيير الأمكنة أو الأشخاص أو البيئة، إنه يبدأ بقلق الوجود. كإحساس إبراهيم حين قال له بطرس بأن يعود إلى بشرى ويتزوج كي يحقق رغبة والدته، ” انغرزت كلمات بطرس في قلبي كالخناجر الغجرية، عادت إلى صور قرية بشرى مثل كلاب مسعورة تنهشني دون رحمة، تحسست دماء لم تسل من أعضائي الممزقة، صورة أمي التي كساها الخذلان تحط على صدري كصخرة، كيف سأتنفس الآن وأنا برئتين متحجرتين؟ هل أعود إلى بشرى وأستسلم لكرامات الأرواح في المغارة، فأرتدي العباءة البيضاء وأضع كوفية خضراء، وأنام في فراش جدي وأبي، فيزورني شيخ مصري، ونمضي ليالي في المغارة مع سر لا يعرفه أحد، ثم ينقطع عني الشيخ وأهجع لأموت بالحمى: لن أتزوج وأترك ولدا تلاحقه الأسطورة”. 
وربما شعور الفرد بالعزلة والضياع والوحدة تتوجها أفكار عدم الانتماء أو فقدان الثقة بمن حوله يصاحبها إحساس شديد بالقلق، هذا الاغتراب حينما يعصف بالإنسان تختل لديه روابط الحياة الأسرية، وتولد لديه رغبة شديدة في التمرد على كل شيء. 
والاغتراب يشير إلى عدد من العلاقات المتنوعة مثل علاقة الإنسان بذاته وعلاقته بالآخرين وبالطبيعة وبالعمل الإنساني، ولكن كان اكثرها هو اغتراب الإنسان عن ذاته، وهو النابع من داخل الذات. وهو الشعور بالوحدة والغربة وانعدام علاقات المحبة أو الصداقة مع الآخرين من الناس، ويأخذ صورة الاختلالات النفسية. ” كلنا يتلبسنا القلق والخوف… القلق ينبت الخوف، والخوف يفجر القلق، وجهان لعملة واحدة، ونحن تلك العملة اللعينة”.
إن إحساس الفرد بأنه غريب عن المجتمع الذي يعيش فيه، يجعل الهوة تزداد بينه وبين عالمه، فيدفعه للضياع، ويهيم على وجهه، وهذا ما حصل مع إبراهيم حينما تركته ديانا وسافرت، إذ خبأها في قلبه، ولم يستكن، لكنه بكآبة بادية قال لفارس” أنا أتوه يا دكتور، أتوه ولا خلاص، لذا قررت أن أذهب في رحلة طويلة … لم يبقَ لي شيء هنا… إننا نفتقد نكهة الحياة والأشياء، حتى الأسئلة صارت جوفاء بلا معنى، ولا يقين … “. فالحب الذي ملأ قلبه أودى به إلى الضياع.
ومعاناة الشخصيات من اغتراب بين الذات والآخر، ينقل الصراع من المسرح الخارجي إلى النفس الإنسانية، فقد وجدنا اضطرابا في حاجات ( بطرس ) ورغباته من ناحية وبين الواقع وأبعاده من ناحية أخرى، إذ انه فقد اتصاله بنفسه وبالآخرين، وجاء نتيجة للمواقف التي عاشها مع نفسه ومع الآخرين ولم تكن تتصف بالتواصل والرضا، فعن حبه لعليا الفتاة البدوية قال: ” كان حظي وحظها عاثرين، لم نفكر بالعواقب، حتى اختلاف الدين لم يكن في البال، كنا غرقى حالة غريبة وهجينة من العشق العذري المجنون، لم يكن من مجال للقاء والحديث، الا في العيادة، تكررت زيارتها إلى عيادتي، وإن كانت الزيارات متباعدة”.
وبالتالي أوجدت لديه شعورا بعدم التفاعل بين ذات الفرد وذوات الآخرين ونقص المودة والألفة معهم، وندرة العواطف وضعف أواصر المحبة والروابط الاجتماعية مع الآخرين.
إن هذا الاغتراب الذي تعيشه الشخصيات تشير إلى تعرض وحدة الشخصية للانشطار او الضعف والانهيار، ويشير إلى النمو المشوّه للشخصية الإنسانية، حيث تفقد فيه مقومات الإحساس المتكامل بالوجود والديمومة، والإحساس باللامعنى، وأن أحداث حياته أصبح لا معنى لها، والأحداث والوقائع المحيطة به قد فقدت دلالتها ومعقوليتها.
فارس كان يرى حياته غير مجدية وبلا معنى، فقط هو الضياع ” أنا وحيّ جبل القلعة نقف وسط الوحشة والبرد، لا ننتمي لشيء”. وإبراهيم روحه ” تهيم في مغارة في قرية بعيدة، روحي تتعذب ولا تتعب”، يتصارع فيه الدين والعقل. وبطرس ” منذ ذلك اليوم، لم أستقبل مريضا، فقدت رغبتي في العمل واستسلمت لتقاعد كسول، ومنذ ذلك اليوم صار الشيخ إبراهيم يتردد علي ليلا، نتحدث عن الأرواح المتعبة، والأماكن المسكونة بمزق في أرواحنا وذكرياتنا”.
وفارس حينما رفض عرض ديمة بالزواج بقوله ” أنا لا أصلح للزواج … فحياتي كلها مغامرة خاسرة، نزوة بلا معنى، وأنني أعيش هكذا لأتحايل على الزمن والحياة، أعيش يوما بيوم”.
فارس وإن كان هو الوحيد الذي لديه فرصة حقيقية بالاستمرارية في علاقة تبدو هي الأقرب والأوفر حظا، وهي علاقته بديمة، لكن هو من أنهاها، بسبب شخصيته الانهزامية البائسة، رغم اصرار ديمة بتعزيز الحب رغم كل ما تعرفه عنه وعن علاقاته الكثيرة، ومنحه حرية كبيرة، الا أنه عدّ الزواج موتا حقيقيا. 
والرواية أثبتت ان ماضي الشخصيات وحاضرهم مرتبطان بقوة، إذ أن ماضي فارس شكل حاضره بالكامل وبدا هذا بقوله :” سأخبر ديمة عن أمي التي أكلها المرض حتى ماتت، سأحدثها عن أبي الذي خسر معاركه جميعها، وكانت خسارة رهانه علي قاتلة، لم تقتله هو، فقد ظن أنه انتصر أخيرا، الآن أنا من أقول لأبي في قبره حتى معركتك الأخيرة خسرتها، خسرت رهانك علي، ها أنا بقايا إنسان يستفحل فيه العفن، سأحكي لها عن إيناس، إيناس التي تغيرت حياتها منذ ارتبطت، لم تكن تعي أنها ارتبطت بالنحس وقلة البخت…”. فلم يستطع الانعتاق من الماضي، ولا الاستمرار بثقة. في الحاضر، إضافة إلى ضبابية مستقبله. 
فالاحساس بالاغتراب عن الذات إحساس مقيت، يولد في النفس الشعور بالحزن والخوف والقلق، وأيضا غربة النفس أو الروح عن المكان من حوله. وأن هروب الشخصية من ذاتها تشكل إحباطا مؤديا إلى اقتناع الشخصية باستحالة التعايش في عالم صعب وطبيعة شرسة. ويبلغ الضياع مداه عندما يبدي ( بطرس ) رغبته في الموت، بل باعترافه بأنه ” عندما أموت لن أكون مريضا، سأموت لأنه حان موعد الدفن فقط، لكنني ميت منذ زمن بعيد” . وفارس الذي يسير بلا جدوى ” ملامحي تائهة، مثل هلام ينداح في الاتجاهات، لا طريق أبصرها، لا درب أزرع فيها خطاي، ها أنا أضع قدمي في الفراغ، وأمشي، وأمشي … “.
لعل قوة الإبداع للشخصية الأدبية لا تكون فقط في حياتها المتدفقة النابضة داخل الرواية نفسها بل خارجها، في حياتها الممكن استمرارها على وجوه أخرى في أذهان الناس. ورواية أعالي الخوف عمل روائي جدير بالقراءة لأنها تطرح أسئلة بلا أجوبة، وتجيب عن أسئلة لم تسألها، أمسكت بمبضع لا يرحم وغاصت في ثنايا الوجود. رواية حملت روحا عميقة وبسيطة في آن واحد، وتمسكت بتفاصيل دقيقة تدخل القارئ في قلب مشاهد شديدة الإنسانية، حيث تجول بنا في روح شخصياتها وأماكنهم ومشاعرهم، ترسم صورا تستند إلى لحظات إنسانية قوية ما بين الحب والخوف.


* ناقدة من الأردن

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *