والآن أثور على الموت…. رامبو


*عبدالحميد القائد

شهد المارة في فرنسا بكثير من الدهشة والذهول والشفقة موكبا صغيرا لجنازة متواضعة لم يكن يمشي فيها سوى امرأتان متشحتان بالسواد، كان ذلك يوم وفاة الشاعر الفرنسي آرثر رامبو في 10 نوفمبر 1891. «ولكنك على الأقل تموت الميتة التي تريد، زنجيا أبيض، متوحشا رائع التمدن….» قالها صديقه الشاعر بول فيرلين الذي كتب عنه أيضا فيما بعد: «إنه شاعر ملعون، إنه أحد الشعراء الملعونين، لكن الغريب في أمره أنه هوالذي يلعن نفسه ولا ينتظر هذه الصفة من الآخرين». أعلن ثورته على الموت لكن الموت اختطفه وهو في سن السابعة والثلاثين. لم يتوقع أحد أن هذا الطفل ذا العينين الزرقاوين اليقظتين بشعره الكستنائي اللامع سوف يصبح من أشهر شعراء فرنسا. في السابعة من عمره كان يتخيل قصصا عن الحياة في الصحراء الكبرى حيث تشرق الحرية الرائعة على الغابات والشطآن والسهول المشرقة، وكان يستعين برسوم الصحف المصورة حيث يتأمل في خجل الأسبانيات والإيطاليات، وقد انفجرن ضاحكات، وفي بعض الأحيان كان يجرؤ على دعوة بعض صبية الحي إلى دخول منزله فيلعب معهم مستهترا بجميع نصائح أمه. تعتبر مسيرة رامبو الشعرية، الذي ولد في 20 اكتوبر 1854، من أقصر المسيرات زمنياً حيث بدأ الكتابة في سن الخامسة عشرة وتوقف في سن العشرين عن الشعر فجأة ودخل في صمت طويل مما جعل النقاد يتقاطرون لشرح هذا الابتعاد المفاجئ عن مملكة الشعر، وما عاد يذكر شيئاً من تجربته الشعرية في الفترة الأخيرة من حياته، حتى انه وصف قصائده «بالخربشات» و»القاذورات». ومع كل ذلك، كان لقصائد رامبو أثرها ووقعها في الشعر الفرنسي إذ يعتبر النقّاد أنه تقاطع بها مع المدرسة البارناسية ومع التيار الرمزي الذي كان قد تأجج منذ بودلير وصولاً الى فيرلين وغيره من معاصريه، وأسس لكتابة جديدة تنطلق من تجربة أو اختبار «الرؤيا» وهذه الكتابة شكلت لغزاً وتحدياً تماماً مثل حياته. وأصبح رامبو شاعرا لامعا من شعراء فرنسا بالرغم من أنه لم يكتب سوى في حدود مائة صفحة بخط اليد وكلها كتبت قبل أن يبلغ سن العشرين وأن يتجاوز بهذه المائة صفحة حدود الأدب الفرنسي ليصبح واحدا من أكبر شعراء العالم حيث ترجمت أشعاره إلى مختلف اللغات الحية. وقد تمكن بعبقريته الشعرية أن يؤسس لمدرسة فنية في الشعر الفرنسي والعالمي. ومع رامبو، اخذت قصيدة النثر وجهةً لم يُسبق إليها أحد، فقد شحنها بصور لم تطف بخيال شاعر سابق، جاعلاً منها شظايا متطايرة من حمم المجهول فوق الصفحات، مجازاً مرسلا من سماء لغة جديدة لن تعود فيها القصيدة إيقاعَ حدث، وإنما ستستبقه. هذا يثبت بأن كمية القصائد لا تجعل من الشاعر عظيما بل نوعية القصائد وإبداعها وتجاوزها وعمقها كما يبدو. فهناك شعراء لديهم عشرات الدواوين الشعرية لكنهم لم يتركوا بصمة تذكر على الساحة الشعرية. ولم يلفت رامبو نظر الأوساط الأدبية في العالم كله بشعره فقط بل كانت حياته مصدرا من مصادر الدهشة التي أحاطت بهذا الشاعر خلال عمره القصير. كانت حياته مليئة بالمغامرة والصعلكة والارتحال الدائم من أجل هدف مجهول. في قصيدته من أجل الشتاء يقول:

في الشتاء سنمضي في قاطرة وردية صغيرة
لها وسائد زرق
سنشعر بالرغد عش من القبل المجنونة سيكون مطروحا
في كل ركن وثير
ستغمض عينيك لكيلا ترى عين الزجاج
تكشيرة الظلال المسائية
هذه المسوخ الشرسة، هذه الدهماء
من شياطين سود وذئاب سود
ثم تحسين في وجنتك بخدش
وعلى امتداد جيدك ستعدو
قبلة صغيرة كمثل عنكبوت هائج
ستقولين لي , حانية الرأس : « ألا ابحث ! «
وستمهل في البحث عن هذه الدويبة
التي ما أكثر ما تسافر
جميعنا سجنــــــــــاء ولكــــــــن
بعضنــــــــــــــــا في سجــــــــون ذات نوافذ
وبعضنـــــــــــــا في سجــــــــون بدون نوافذ
تعاطى رامبو مع الشعر بعفوية وبساطة كمن يبحث عن وسيلة تعبير تفجر مكنوناته الداخلية وليس من باب السعي إلى الكتابة التي تشد القارئ وبالتالي تجلب الشهرة والنجاح. عندما يكتب رامبو كان يعتزل ولا يرغب في رؤية أي إنسان، كان يكتب بانفعال وحماسة متناهية. كانت امه تصعد إلى منتصف السلم فتسمع صوته وهو ينتحب أو يخاطب أشباحا أو يصرخ فكانت حينها تفطن بأنه يكتب… كان يزجر كل من يحاول الاقتراب منه. لقد أراد أن يكون بصيرا، أن يضع يده على المجهول، أن يعيش كالمطلق بكل ما في حواسه من رهافة.كتب الكثير من شعراء ونقاد القرن العشرين عن رامبو الذي استيقظ وكان العالم في الظهيرة، عن شاعر لم يكتب أكثر من مائة صفحة ولمدة خمس سنوات فقط نال بعدها من المجد والشهرة التي لم يحققها أي شاعر آخر كتب عشرات الدواوين ولسنوات عديدة. ويرى الكثير من النقاد المحدثين بأن هناك مبالغات لا أساس لها في وصف أشعار رامبو وكأن رامبو هو الأول والأخير ولم يأت شاعر عظيم بعده ويرون بأن هذا فيه اجحاف بحق الكثير من الشعراء ويعتقدون أن معظم من امتدحوه كانوا معجبين بتفاصيل حياته الغريبة أكثر من شعره.
لكن السؤال لماذا توقف رامبو عن كتابة الشعر؟
حسب قول رامبو فإنه توقف عن كتابة الشعر كليا خلال إقامته الطويلة في القارة الأفريقية. من يؤكد لنا أنه لم يمر «بأزمات» شعرية حادة هناك؟ من يؤكد لنا انه لم يكتب أجمل القصائد ثم مزقها؟ هل كان يستفيق الشعر في روحه خلال انشغالاته اليومية؟ كيف قاوم الشعر؟ ولماذا قاومه؟ كل هذه التساؤلات بقيت معلّقة في سماء رحيله المؤلم، ليبقى رامبو فتى اللغز الأكبر في تاريخ الشعر الفرنسي.
________
*عُمان

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *