*هدية حسين
أوصاها، والوصية شيء مقدس لديها، أن لا تفرّط بمحتويات الصندوق، كان يكرر عليها القول من حين لآخر: اسمعي يا لميعة، ما نخبئه اليوم سيصبح كنزاً بعد سنوات، وستكون له قيمة أكبر من قيمة الذهب.. تهز رأسها متوافقة معه، وتنتظر السنوات، بصبر حمار تثقل على ظهره الحمولة لكنه يواصل السير، ولذلك كانت تدرأ عبث الأطفال، وتحافظ على كل ما يكدسه زوجها في قعر الصندوق الخشبي العتيق، صحف محلية قديمة تخبر عن معارك الجبهات في الحرب العالمية الثانية، كان أبوه قد حفظها عن جده، مغامرات رومل ثعلب الصحراء، بيانات وخسائر بشرية، صور لمدن مُدمرة وجثث جنود متناثرة على الأرض.. يرتب الصحف بحسب تواريخ صدورها ويقول مشدداً على مخارج الحروف: ستصبح هذه الصحف النادرة وثائق تباع بأثمان لا تقدّر بثمن، وعلى الرغم من أن لميعة تصدق كل ما يقوله زوجها إلا أنها أحياناً يراودها الشك، فكيف لهذه الأوراق أن تصبح أغلى من الذهب؟ أما هذه السبحات الثلاث فلا تتصوري كم ستكون قيمتها، خصوصاً إذا ما قيّمها شخص خبير، انظري يا لميعة، يسحب السبحات واحدة بعد الأخرى، يرفعها أمام عينيها: هذه من العاج الهندي، وهذه من اليسر المطعم بالكهرمان، أما هذه فهي من الكهرب، كلها كانت لجدي وآلت لأبي ومنه لي.
متى سيبيعها، وإلى أي زمن ستبقى داخل الصندوق؟ تتساءل ولا تصرّح، وعلى الرغم من الشكوك التي تتسلل إلى رأسها من حين لآخر، إلا أن عزيمتها لم تهن في المحافظة على كنوز زوجها.
أشياء أخرى كدسها الزوج ليست ذات قيمة مادية لكنها قد تشكل قيمة خاصة له بسبب ارتباطاته العاطفية بها، شيلة وعباءة أمه، عقال وغترة أبيه، علبة تبغ تعود لجدّه وفيها آخر سيجارة من نوع اللف، صور الموتى بالأسود والأبيض من سلالة العائلة، وكان يخرج تلك الصور من وقت لآخر ويفرشها أمام أطفاله ليُعرّف بأصحابها، ويحكي لهم بعض الحكايات التي سمعها أو كان شاهداً على بعضها، يحكيها بمزيد من المبالغة، وهو بعمله هذا يريد أن يديم حضورهم ويحافظ على تواصل الأحفاد بالأسلاف، غير مُدرك أن الأحفاد سيدخلون زمناً لا يعبأ بما خلفه الآباء والأجداد، وأن هناك ما سيشغلهم بعيداً عن تلك الكنوز.. وثمة صور أخرى لمعالم بغداد القديمة، سوق هرج وسوق الصفافير، وإحدى شرائع نهر دجلة حيث القفّة واسطة النقل الشهيرة، ومقهى البيروتي وخان مرجان.
**
عندما حلّ الزمن الذي كان متربصاً بالجميع، سيق الزوج الى جبهات القتال، ظل يقاتل طيلة سنوات الحرب، جُرح خمس مرات في معارك مختلفة، الخامسة كانت الأشد، تمزقت أحشاؤه وتهشم نصف وجهه وانكسرت إحدى ساقيه، لكنه نجا بأعجوبة، ومُنح نوط الشجاعة تقديراً لثباته في المعارك، وحينما تمتع بإجازة لمدة طويلة، شعر بفراغ هائل، لم يملأه سوى ذاك الحلم بالعودة الى الصندوق، لايزال يحلم ويأمل ويعد السنين، أضاف آخر رصاصة عن آخر معركة خاضها قبل أن تعوّقه الحرب، لفّها بمنديل أبيض ودسّها بين مقتنياته في الصندوق، وحافظ على بدلته العسكرية الملطخة بالدم، رافضاً اقتراح لميعة بتنظيفها، قال لها: ستفقد قيمتها، ودسّ رسائل كان قد عثر عليها لجندي مزقته الحرب، كان قد كتبها من وراء السواتر في الفترات التي شهدت هدوءاً نسبياً، وكانت تلك الرسائل سبباً حفّز زوج لميعة لكتابة يومياته عن المعارك، قائلاً بفخر: اسمعي يا لميعة، هذه التذكارات والمذكرات سيكون لها شأن، إنها تاريخ حي ووثائق مهمة ستحكي للأجيال المقبلة صمودنا ومعاناتنا في الحرب.
ثم حطت سنوات عجاف من حصار لا تبدو له نهاية، وبدأ فيه الناس يبيعون أثمن ما لديهم بأسعار بخسة، ليوفروا ثمن الطعام والاحتياجات الأساسية الأخرى، لكنه ظل متمسكاً بكنزه، متيقناً من أن الوقت في صالحه، والظروف السيئة في طريقها للزوال، ولم تنفع توسّلات لميعة بأن يبيع المحتويات، فلقد تناهشتهم الفاقة، ولم تنفع بطولاته ولا نوط شجاعته من صدّها، قالت له لكي تغير من موقفه: الأولاد كبروا، واحتياجاتهم كثرت، والطعام صار شحيحاً، وصحتك لم تعد كما كانت، لذلك أرى أن تبيع الصندوق.
ما إن قالت له ذلك حتى اندفعت رياح غضبه وأغلقت فمها بهدير صراخه: ما هذا الهراء؟ أنتِ لا تقدّرين الذكريات حق قدْرها، غداً سأذكّرك، عندما تعبر غيوم الحصار وتعود الأشياء الى قيمتها الحقيقية.
بعد أشهر قليلة دخلت البلاد حرباً أخرى، أعنف وأشرس وأعتى، استبيحت البلاد، ومات كثير من العباد بمن فيهم زوج لميعة، وسُرقت كنوز المتاحف، وعمت الفوضى، وصارت وثائق التاريخ على الأرصفة تباع بسعر علبة سجائر، حتى أنواط الشجاعة أصبحت من ضمن الخردوات، ثم مرت الغيوم الداكنة وعادت الحياة تدب بأقدام عرجاء، حملت لميعة الصندوق وذهبت به الى سوق المدينة، صفّت البضاعة أمام المارة، لكن الكثير منهم لم يلقوا عليها نظرة، أو نظر البعض ومط شفتيه ثم واصل طريقه، كانت تشرح لبعض الفضوليين أهمية المعروضات: هذه وثائق لا تقدر بثمن، يمكنكم بيعها إن شئتم للأجانب الذين يملؤون البلد، انظروا…وتروح تحكي، وتعيد ما قاله زوجها الراحل عن أهمية هذه الكنوز، وليس من أحد يهتم لما تقول، أحدهم ضحك بسخرية، وقال لها: يبدو أنك تعيشين في زمن آخر.. لكنها بعزيمة لا تفتر، تحمل الصندوق كل يوم، تمضي الى سوق المدينة، تصفّ البضاعة، تحكي عن قيمة المقتنيات، وتنظر إلى المارة بعيون متوسلة، فلعل أحدهم يهتم لأمرها ويُشبع أربعة أفواه جائعة تنتظرها في البيت.
كل يوم تذهب لميعة إلى السوق ولم تبع شيئاً، تعيد بضاعتها إلى الصندوق وتعود خائبة ومعصورة.. لكن رجلاً ركن سيارته ذات يوم بالقرب منها، رجل تبدو عليه النعمة والوجاهة، وقف ونظر إلى البضاعة، ثم جلس وراح يقلّب المقتنيات، وكانت لميعة تشرح له ما حفظته عن زوجها، نظر مطولاً إلى السبحات الثلاث، أخبرته بأنها من الكهرب، والعاج الهندي، واليسر المطعّم بالكهرمان، لكن الرجل أخبرها بيقين تام أنها تقليد وليست ذات قيمة، ظنت أول الأمر بأنه يريد خداعها، لكنها تساءلت مع نفسها، لو كانت حقاً ذات قيمة لوجدت من يشتريها منذ اليوم الأول، الذي جاءت فيه إلى السوق، فهناك من يمتلك المال ويستغل حاجة الناس في أيام المحنة ليصبح أكثر ثراء، وقال لها الرجل قاطعاً عليها صفنتها: بكم كل هذه البضاعة؟ عندها خفق قلبها، وقالت بعينين مستعطفتين: لك أن تقدّر، أي مبلغ تعطيني إياه سأبيع، أولادي بحاجة الى طعام.
لم تصدق حين نقدها مبلغاً يسد حاجة شهر، هربت من المكان لئلا يغير رأيه، لم تلتفت الى الوراء، دخلت بين زحام الباعة والمتبضعين، اشترت الخضار واللحوم على عجل، ومن نهاية السوق خرجت الى بيتها، قرأت الفاتحة أمام صورة زوجها المعلقة في الصالة، واعتذرت منه قائلة: بأن الزمن الذي سترتفع فيه أثمان مقتنياته سيستغرق زمناً طويلاً، وقد لا يجيء إلا بعد موت أطفاله من الجوع، غمرتها الطمأنينة وهي تبدأ بإعداد الطعام….
بينما كان الرجل الذي اشترى (كنزها) قد عاد الى سيارته وغادر المكان، بعد أن انتهى من رمي المحتويات في حاوية الأزبال.
_____
*الصباح