الأمير الحسن بن طلال
ذكر القرآن الكريم في أكثر من موضع مبدأ الشورى، وأجزل الثناء على قيمتها الرفيعة في تنظيم المعاملات والعلاقات الإنسانية، وأشار إلى ضرورتها في ترتيب الشؤون الخاصة والعامة؛ من أمور الأسرة الصغيرة إلى تقرير مصائر المجتمعات الكبيرة، أي أنها مطلوبة في كل حال من أحوال الإنسان المسلم.
وحفل التاريخ الإسلامي بنماذج مشرقة من التطبيقات الحكيمة لمبدأ الشورى، وإعمال العقل، في إدارة شأن المسلمين.
وقد جاء في الذكر الحكيم إيضاح نماذج ساطعة لأهمية الشورى في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وصواب أخذ الرأي في الشأن العام، منها ما بيّنه الله، عزّ وجلّ، عن ملكة سبأ عندما ألقى الهدهد إليها بكتاب سليمان عليه السلام في قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا المَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ.”(سورة النمل 29-32)، ذلك رغم أن الكتاب كان واضح الدلالة في الدعوة إلى عبادة الله والإذعان لوحدانية الحق سبحانه وتعالى، ولكن بلقيس دعت الملأ من قومها، وأهل الرأي، ما يزكي قيمة التشاور بين الحاكم والمحكومين في كل الأمور المتعلقة بمصير الأمة.
من هنا نعلم أن الأقوام في أقدم العصور قد حرصوا على هذه الشورى، وأدركوا أهميتها، وتمسكوا بمنهاجها، واقتنعوا بمنافعها في تصويب الرأي، وأفضليتها في اتخاذ القرار. ولكن، السؤال الذي يفرض نفسه هو: إذا كانت الأمم الغابرة في الماضي السحيق قد تمسكت بها وقادتها إلى سمو الرأي ورشد الممارسة، فما بالنا نحن اليوم نتخلى عنها؟ وإذا كان الأمر شورى بيننا نحن أهل السنة والجماعة، وشيعة آل البيت، والإباضية، الذين يشكلون مع بعضهم المذاهب الإسلامية السبعة، فلماذا نختلف ولا نأتلف؟ إن الشورى سِمةٌ حيوية من سمات الإسلام الحنيف، وقاعدة أساسية لمسلمي اليوم مثلما كانت مُرشدة للأولين كذلك، وهي تساعد على فتح باب الاجتهاد واسعاً أمام الأساليب والأشكال المنظمة لعملية التشاور والتحاور، إذ إنها تعزز قيمة الحوار، وتقارب وجهات النظر، وتضع إطاراً مناسباً لاستيعاب الاختلافات المذهبية، التي ما جاءت إلا رحمة للأمة، أو هكذا ينبغي أن تكون. ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم “إن اختلاف أمتي رحمة”، إشارة إلى احترام التنوع والتعددية، التي قامت عليها الحضارة الإسلامية، منذ نشأتها الأولى في عهد الرسالة والدعوة المحمدية.
أذكر جيداً أن أحد شيعة آل البيت قال لي “إذا كانت الفتنة المفتعلة بين السنّة والشيعة تُحل بأن نُصبح سلفيين، فنحن جميعاً نحترم السلف الصالح”. كما قال لي واحد من أبناء السنّة، أي أهل السنّة والجماعة “إذا التشيع مقصود به اتباع آل البيت فنحن جميعاً شيعة”. إذ يقول الإمام الشافعي “من لا يصلي على محمد وآل محمد فلا صلاة له”.
وبإلقاء نظرة سريعة على المشهد الإنساني الكوني الماثل أمامنا اليوم يتضح لنا أن الأمور لم تعد طبيعية ولا محتملة؛ فيما يقارب من ثلاثة آلاف إنسان توفي بسبب مرض الإيبولا، ونسمع عن تفشي الأمراض واضطرار ملايين البشر إلى اللجوء. ومن هؤلاء اللاجئين 70 بالمئة هم من المسلمين؛ خرجوا من ديارهم مقهورين، وغادروا بلادهم مغدورين، لم يحملوا معهم من أملاكهم إلا بعض ذكرى.
ففي مكان لبيع التحف بمدينة أثينا، استرعى انتباهي وجود آثار تُشكل مصدر دخل للمهجّرين من أمّة محمد؛ أحدها مخطوطة أنيقة تقول “إن الله على كل شيء قدير”، وأخرى مكتوب عليها بخط جميل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم “لا فتى إلا علي ولا سيف إلا ذو الفقار”. وقد وجدت نفسي مقبلاً على شراء كليهما لإخراجهما من الدكان، الذي يروج لما تبقى من ثروة لأسرة مهجّرة اضطرت لبيع ما توارثته عن السلف الصالح من مقتنيات ثمينة.
أما آثار الحروب الحقيقية، وجلّها بين المؤمنين، مسلمين وغير مسلمين، تجعل من اللقاء الطوعي بين أطراف الصراع الدائر في غربنا الآسيوي شبه مستحيل. فالكل يستجيب لدعوة أعضاء مجلس الأمن، التي لا تكون إلا بالأمر أو النهي، وإن كنا في مطلع 2011، قد حذرنا الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان من مغبة تجاهل أي من أعضاء مجلس الأمن؛ الاتحاد الروسي مثلاً، وأي من أطراف المعادلة في إقليمنا، كالجمهورية الإسلامية الإيرانية، من طرح كنا نعتقد أنه بعد مرور قرن على بداية الحرب الكونية الأولى (1914و2014) سينهي استئناف الحروب الكونية المترابطة.
إن قيام بابا الفاتيكان خلال زيارته إلى تيرانا في ألبانيا بالصلاة في كنيسة شيدها مسلمون في ذلك البلد المسلم يدل على أن التعايش السلمي أبقى من الصراعات الدائرة على هذا الكوكب، التي تُشكل حرباً عالمية ثالثة، ويُعدُ عاملا حاسما لها.
وفي هذا الإطار، تحرص الولايات المتحدة الأميركية على بقاء قيمها كما تصفها حية مستقلة خارج إطار التدخل المستمر، الذي أذنت لنفسها به متذرعة بحجة نصرة الحق ودرء الباطل، وكأن الشر كله هنا.
أليست قضية أوكرانيا صراعاً متعدد الأسباب، ومن بينها المنازلة الأرثوذكسية الكاثوليكية، كما يقال.؟ نحن؛أهل السنّة والجماعة، أو آل البيت، أو أتباع المذهب الإباضي، إنْ أدركنا أننا أمة واحدة، ونلتقي يوم العيد لنُتمم ما أُمرنا به من مناسك وعبادات، نعلم تماماً أن بعض الفظائع، التي ارتكبت باسم الجهاد في أفغانستان، قبل دخول المنظمات المسلحة كطالبان ومن ثم القاعدة، وما تبعهما من مسميات، قامت بأعمال منكرة، من قتل الأبرياء من، مسلمين ومسيحيين بديارنا، كما قتلتهم في أماكن مختلفة من المعمورة. ونحن نعلم ما هو حق وما هو باطل، وتقديراً على هذه المعرفة نقول إننا على مفترق طرق؛ فإما قبائل وشعوب لا فرق بينها إلا بالتقوى، أو فظاظة تجعل العالم ينفض من حولنا. فهل لنا أن نُقرر مصيرنا في ضوء حكمة العيد، الذي نحتفل به، ونبدأ في زراعة الفسيلة، وقد قاربت الساعة، كما يراها الكثيرون، وأن ندعو لتأصيل الحوار الشوريّ الأصيل النابع من قناعاتنا وعقيدتنا، ومن منطقتنا قبل غيرها، ونؤسس للتضامن الأخلاقي، الذي يأمر بموضوعية وضرورة قيام المؤسسات المعطاءة كالزكاة العالمية؟
أما موتى القلوب الذين يمشون على الأرض وهم أموات، فنسألهم بصدق:هل كرم رب البرية الإنسان لينكر قيم الإسلام ويدعي هذا الإنسان بأنه مسلم؟ ولهم أقول، إما التنوع والاحترام المتبادل والوصول إلى أرضية مشتركة تُمكن للتعايش المشترك، وإما طوفان الشر.
إن العالم يستذكر في 9/21 من كل عام يوم السلام العالمي، ولا يزال السلام في ديارنا بعيد المنال. إن فلسطين تُغتصب وتحترق أطرافها أمام مرأى ومسمع الجميع. والمحتل لا تردعه شِرعة ولا قانون، فمن الصعب اقناع المسيحيين من ثقافة عربية، والمسلمين من ثقافة عربية، والفلسطينيين المسيحيين الذين وصفوا بالآراميين، للتمييز بينهم وبين فلسطينيي 48 عندما يدعون للخدمة في صفوف جيش إسرائيل، أن لهم حقاً بيننا، إذ ينتمون لأمتهم.
أقول، في الختام، إن الصدق مع الذات يحتم علينا الدعوة لنظام إنساني جديد نكون في مقدمته ونتعامل بإنسانيتنا في السلم والحرب. حيث يكون الصدق مع الآخر، الذي يقف مع الحق؛ لا يعظم من هول الموقف ولا يساوم بتعليل أسباب الحرمان. وقبل كل شيء وبعده، يكون الصدق مع الخالق، الذي جعلنا مستخلفين في الأرض، لا نعبث بأمانة الرسالة التي كُلفنا بها، وأمرنا شورى بيننا لا نستبد برأي ولا ننفرد بإتخاذ قرار. إذ وضعت الشورى في القرآن الكريم صفًّا واحدًا مع الصلاة والإنفاق: “وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ”. (سورة الشورى:38).