أحمد الشّهاوي*
( ثقافات )
هي امرأةٌ قَلِقَةٌ في استقرارها كأنَّ الرِّيحَ تحتها – كما قال المتنبِّي ، والقَلَقُ سِمَةُ الفَنَّان الذي يَخْلُقُ، والحالمُ الذي يبتكرُ، والمبدعُ الذي يُسَافِرُ، والمدهشُ الذي يحبُّ، والوفيُّ وَهُو يَخْطُو في إخلاصِهِ وَوَصْلِهِ لمن اصْطَفَى.
لوتس عبد الكريم، هي سيرةُ القَلَقِ، الذي تَجَسَّدَ في تركيبِ سماواتِ تكوينها الفكريِّ والثقافيِّ، ذلك التكوين الذي اعتمد أَسَاسًا على التربيةِ والنشأةِ الأوليين، ثم دراسةِ الفلسفةِ، ثم عبقريةِ المكانِ (الإسكندرية) وتاريخيتِهِ، وسيرةِ مبدعيهِ وفنَّانيهِ وكتَّابِهِ وشعرائِهِ مصريينَ وأجانبَ، ثم السَّفر في الأَرْضِ، والترحال في الأمكنةِ، والتجواب في نفوسِ البَشَرِ، والتجوال في أرواحِهم وَسِيَرِهِم. والدخول في جَدَلِيَّةٍ دائمةٍ مع الأشياءِ والموجوداتِ، مما جعلها قارئةً للعالمِ، عارفةً بالنفوسِ، مُدْرِكةً لِمَا ولمن حَوْلَهَا.
وكانت حصيلتُها من هذا العالمِ المتعدِّدِ والمتنوعِ كبيرةً، إذْ انعكستْ هذه الحصيلةُ على مرآتها فَصَقَلَتْها، وصارت مرآةً متعدِّدةً يمكنُ للمرءِ أَنْ ينظرَ إليها من زوايا كثيرةٍ، فهي لَيْسَتْ ذات سطحٍ واحدٍ، ولا تُنْبِئُ عن وجهٍ واحدٍ إذا ما نَظَرَتَ فيها وإليها. فَأَنْتَ أمام تعدِّدٍ بالمعنى الإيجابيِّ للتعدُّدِ “وما الوجَهُ إلاَّ واحدٌ غَيْرَ أنَّهُ إِذَا أَنْتَ عدَّدتَ المرايا تَعدَّدا” كما قَالَ محيي الدين بن عربي.
فوجه لوتس عبد الكريم يَقْبَلُ القِسْمَةَ على كثيرٍ، من فَرْطِ كثرتِهِ، وانشغالِهِ، وتكريسِهِ، وخبرتِهِ، وَهَوَاجِسِهِ، وأحلامِهِ، وطموحاتِهِ، وإشراقاتِهِ، وأسرارِهِ، وتجلياتِهِ، ومقاماتِهِ، وأحوالِهِ،
وَقَلَق لوتس عبد الكريم، قَلَقٌ فَنيٌّ خَلاَّقٌ، وليس قَلَقَ التوجُّسِ أو التشَكُّكِ، فمن حَقِّ الإنسانِ – خُصوصًا إذا كان دارسًا للفلسفةِ – أن يَشُكَّ ويتوجَّسَ، لأنَّ تلك طبيعة الباحثِ عمَّا وراء الأشياءِ، والطبيعةِ، والعالمِ، ولكنْ كثيرًا ما ينقلبُ الشَّكُّ إلى حالةٍ قُصْوى، تبتعدُ بصاحبها عن سؤالِ الخَلْقِ، ومساءلةِ النَّفْسِ في مداراتها.
ولوتس، لم تبتعدْ في سؤالها إلى شاطِئِ الشَّطَطِ، أو ساحلِ التوجُّسِ الموتيِّ، إذْ بحكمِ دراستها خَلَقَتْ قَلَقَهَا وَرَعَتْهُ وَكَبُرَ معها، وأثمر على المستوى المعنويِّ والنفسيِّ والأكاديميِّ والبحثيِّ.
فهي كائنٌ يفيضُ، لا يتحفَّظُ، لا يحسبُ الأشياءَ بالسنتيمتر، يدرسُ ويتهورُ أيضًا، يَنْطَلِقُ ويقعُ، لكنْ سرعان ما يقومُ صلبًا سَامِقًا مُرْتَفِعًا، ناسيًا مَا مَضَى، فقط وَعَى الدرسَ، واستفاد منه واعتبرَ واتعظَ، وأيضًا لا يُضِيرُه أن يَقَعَ في الحُفْرَةِ نَفْسها، إذْ صَارَ خبيرًا بالنفوسِ والدروسِ.
لوتس عبد الكريم، بَوَّاحَةٌ، وَضَعَتْهَا الأقدارُ في سَمَاءٍ ذاتَ نجومٍ كثيرةٍ، وَأَرْضٍ مزروعةٍ بالنعناعِ والريحانِ والأزهارِ الخالدةِ كاسمها.
أَرَى لُوتس كنزًا لأسرارٍ، وَكَهْفًا لذكرياتٍ، وبحرًا لِسِيَرٍ، ومُحيطًا لعوالم مدهشةٍ في عجائبيتها وسحرِها وغموضِها الفَاتِنِ.
استطاعت أن تَصِلَ إلى فَكِّ أَلْغَازِ بَعْضِ من عَرَفَتْ، مُدْرِكَةً أَنَّها – نَفْسُهَا – لُغزٌ غَيْرُ عَصِيٍّ إِذْ تكشفُ، وإنْ لم تكشفهُ ألمحتْ وأومأتْ وأشارتْ وَرَمَزَتْ وَدَلَّتْ، وَوَصَلَتْ بين شَمْسَيْن من البَهْجَةِ والحنينِ وَالأَسَى الشفيفِ.
وَأَنَا لا أبتغي أن أَفُكَّ لُغْزًا، بِقَدْرِ ما أريدُ أن أُعَرِّفَ وأرسمَ صُورةً لزهرةٍ مصريَّةٍ لا تعرفُ الذبولَ، لأنَّها تحوي الحياةَ في بتلاتها، والديمومةَ في أوراقِهِا، ورائحةَ البَقَاءِ في ساقها.
وإذا كانت لوتس عبد الكريم شخصيةً تُبْهِرُ بحضورِها اللاَّفتِ والجاذبِ، إنسانيًّا وثقافيًّا، خُصُوصًا إذا ما سَرَدَتْ وَحَكَتْ، فإنَّها لم تَنْبَهِرْ بسلطةٍ أو سُلْطَانٍ “لقد التقيتُ – فترةً من العمرِ وأثناء حياتي الدبلوماسيةِ – بملوكٍ وأباطرةٍ ورؤساء وجلستُ إليهم.. وكنتُ أتعجَّبُ أنَّني لم ألمسْ للتَّاجِ سِحْرًا، ولا للعرشِ أَمْرًا، ولم أُحس مرَّةً واحدةً في السُّلطانِ بِهيْبَةٍ أو رهبةٍ ولا جاذبيةٍ أو قُوَّةٍ.. على العكسِ من شُعوري هذا تمامًا ما كان يحدثُ حين لقائي برمزٍ من رموزِ الفكرِ والثقافةِ أو العِلْمِ أو الفَنِّ، فإنِّي أشعرُ بالرهبةِ والإجلالِ الذي قد يَصِلُ إلى حَدِّ التقديس، فالفَنَّان صورةٌ مُصَغَّرةٌ للإلهِ الذي يَخْلُقُ. السلطانُ لا يخلُقُ، ولكنَّ الفَنَّ يخلُقُ.. وهذا هو الفارقُ بين القوتين”.
هذه هي لوتس عبد الكريم، التى تقيمُ وَزْنًا للكلمةِ، واللوحةِ، والنغمةِ، والصوتِ، والإيقاعِ، واللمسةِ، … هي بنتُ مَشَاعِرِهَا، وأحاسيسها، سليلةُ أسلافها من الفلاسفةِ والمتصوفةِ، ومن درست على أيديهم في قِسْمِ الفَلْسَفَةِ بكليةِ الآدابِ جامعةِ الإسكندرية.
إنَّها امرأةٌ من برجٍ ناريِّ، هو برجُ الحَمَل. سَطَعَ نجمُها في سنواتٍ قليلةٍ بفضل جهودها في مجالِ الكتابةِ والفنِّ التشكيليِّ ورعايتها طوال سنواتٍ للإبداعِ والمبدعين،
وهو شأنُ الطبقةِ الأرستقراطيةِ التي كانت سائدةً في الحياةِ الثقافيةِ والسياسيةِ المصريةِ.
بصراحتها واستقامتها ازدادت تألُّقًا ، خصوصًا مع اهتمامها بإعادةِ طباعةِ كُتبها، التي كانت قد انشغلتْ وقررتْ أن تنشرَها متتابعةً بشكلٍ شعبيٍّ، ومنها كتاب “الملكة فريدة وأنا – سيرةٌ ذاتيةٌ لم تكتبها ملكةُ مصر ” الذي صدر في طبعةٍ شعبيةٍ ذات قطعٍ خاص بعشرةِ جنيهاتٍ مصريةٍ في سلسلة “كتاب اليوم” فبراير 2008م، تلك السلسلة الشهرية الشهيرة التي تصدرها مؤسّسة أخبار اليوم.
ود. لوتس عبد الكريم ، شخصيةٌ نارُها مشتعلةٌ دومًا، مُغَامِرَةٌ، حسَّاسةٌ وذات إيقاعٍ روحيٍّ مختلفٍ، نظرها بعيدٌ، ورؤيتها عميقةٌ، وطقسها مغايرٌ، وعيناها مختلفتان، تريان ما وراء الأشياء، لها لغةٌ خاصَّةٌ في التعبيرِ عن بواطنها. تهتمُ بالموسيقى والغناءِ منذ طفولتها
وجاء ذلك عبر أمِّها التي كانت تعزفُ بمهارةٍ لافتةٍ على آلة البيانو ، وكانت لوتس تغنِّي وهي طالبةٌ بقسمِ الفلسفةِ بكليةِ الآدابِ جامعة الاسكندرية، حتى صارت مطربةَ الجامعةِ، ولم تكملْ مسيرةَ الغناءِ بعد أن تزوجت وتركتْ مصر.
وقد تمثَّل عِشْقُها للموسيقى والغناء في شخصِ أحد الروَّاد الكبار، وهو الموسيقار محمد عبد الوهاب، الذي عرفته وهو في سن الثمانين، وظلَّت في صداقةٍ معه على مدى ربع القرن، ولذا فهي عندما تقول فهي تُسِرُّ بأشياء وأحداثٍ ووقائع وتفاصيل ومواقف لا يعرفها أحدٌ إلاَّها.
مع محمد عبد الوهاب عَبْرَ الدكتورة لوتس عبد الكريم نرى شخصًا آخر، ونقرأُ عن جوانب خفيةٍ أو جديدةٍ أو غير مكشوفةٍ أو سريةٍ في حياةِ موسيقارٍ ومغنٍّ ملأ الدنيا وشغل الناس كأنه – أو هو بالفعل – متنبِّي الغناء.
ولوتس عبد الكريم
شخصيةٌ مثابرةٌ وصبورٌ ، صادقةٌ ومتفائلةٌ، تؤمنُ بالغدِ وتنتظرُ المستقبلَ، وفيَّةٌ، ومخلصةٌ لأصدقائها. تسخو بوقتها وجهدها في تكريمِ الذين أَثْروا حياتها وأثَّروا فيها.
إنها امرأةُ برجِ الحَمَلِ بامتيازٍ، بكل ما يحملُ هذا البرجُ من صفاتٍ للأنثى، خُصُوصًا فيما يتعلَّقُ بالاندفاعِ نحو العملِ والإبداعِ والخَلْقِ، مُشْرِقَةٌ باستمرارٍ ، تثقُ في نفسها وقدراتها، متحديةٌ بذكاءٍ وبراعةٍ، طَمُوحٌ، مُسْتَكْشِفةٌ، وساعدها على ذلك أسفارها ودراستها للفلسفةِ، ومعرفتها للغات خُصُوصًا الفرنسية التي هي أساسُ ثقافتها.
ماهرةٌ وشجاعةٌ، وهذا ما يلاحظُه الكثيرون على د. لوتس عبد الكريم عندما تظهر في الفضائياتِ العربيةِ والمصريةِ متحدثةً في أمورِ السياسةِ والملكيةِ المصريَّةِ والكتابةِ والأدبِ.
استطاعت أن تمتازَ بين الكتَّابِ والأدباءِ بسلسلةِ كتبٍ في ميدانِ السيرةِ الذاتيةِ، ولكن عبر شخصها وَذَاتِها، أي أنها تكتبُ تجربتها الأدبيةَ والإنسانيةَ والحياتيةَ عمَّن عرفتْ وعاشتْ.
د. لوتس عبد الكريم، وهي في برجها الحَمَل مبدعةٌ خلاَّقةٌ، حيث هو برجُ المبدعين الخلاَّقين، ونستطيع أن نحصرَ مئات المشاهير في العالم من مواليد هذا البرج خُصُوصًا في الفنِّ التشكيليِّ والأدبِ والموسيقى والسينما .
شَافَتْ، ورأتْ، وَارْتَحَلَتْ. ولكنْ ظلَّت الكَلِمةُ والنغمةُ واللوحةُ – بشكلٍ خاصٍّ – تُحَدِّدُ اتجاهَ بَوْصَلَتِهَا في الحياةِ.
فهي كونها زهرةً مصريةً، فإنَّها – من صفاتها – عبَّاد شَمْسٍ إذْ دائمًا ينحو في استقامته وشموخِهِ نحو شَمْسٍ لا تُطَال، وربَّما تكونُ قد وَرَثَتْ ذلك عن أمِّها وأبيها وخالها أمين عثمان (باشا) ,.وزير المالية الأسبق (1898 – 1946م)، وكذا استفادت بعفويةٍ ممن التقت بهم، وعرفتهم في طريقِ الإبداعِ والكتابةِ والموسيقى، والذين خَطَّتْ سِيَرَهُم بعد ذلك من وجهةِ نظرِ روحِها ومرآتِها، خُصُوصًا يوسف السباعي، محمد عبد الوهاب ، إحسان عبد القدوس ، وفي مقدمتهم ملكة مصر فريدة.
وفي رأيي أَنَّ الذي جَعَلَ الملكةَ فريدة ترى نَفْسَهَا في مرآةِ لوتس عبد الكريم، أَنَّهما يذوبان فَنًّا، وينأيان عن السُّلطانِ في سلوكهما.
تقول فريدة للوتس: “المُلْكُ والتاجُ يزولان، لكنَّ الفَنَّ خالدٌ باقٍ دائمٌ ما دامت الحياةُ”.
تِلْكَ هي قناعةُ لوتس عبد الكريم، ووجهةُ نَظَرِهَا في الحياةِ، ولذا كانت حريصةً طُوال الوقتِ أن تَسْمَعَ وتَرَى وتحملَ القَلَمَ، وَتَقْرَأَ، وتجوبَ الآَفَاقَ “بنعالٍ من ريحٍ” حسب تعبير آرثر رامبو .
“أنا أُحِبُّ الحزنَ، وأحبُّ الثَّرَاءَ”. هي إذن، بِنْتُ رُوحِ أحزانها.
ومن يقرأ لها، يَلْحَظ ويدرك طبقاتِ الحُزنِ المتراكمةِ، حَتَّى شَفَّ حُزْنها، ولم يمنعها أن تواصلَ تجربتَهَا، وتُحوِّلَ مجرى سيلِ دموع الزمنِ إلى عيونٍ تفيضُ في بحيرةٍ تتسعُ لترويَ ولا تجفّ من فَرْطِ الفَيْضِ.
فالحُزنُ قيمةٌ إنسانيةٌ نَادِرَةٌ، بل إنَّه مُفْرَدَةٌ مُقَدَّدسةٌ، تُلازمُ العارفينَ والقديسينَ والأنبياءَ والرسلَ.
والمبدعُ لا يَخْلُقُ إلاَّ تحت أَقْصَى درجةٍ من “حَرَارةِ” الحُزنِ. إذْ عندها تَغْلِي النَّفْسُ وتفورُ بما حَمَلَتْ وَحَوَتْ.
وكتابة الدكتورة لوتس عبد الكريم أَتَتْ من لحمٍ ودمٍ، ليست كتابةً مجرَّدةً، أو مجرَّد تسويدِ صفحاتٍ، أو نقلٍ من مراجع وكتبٍ دون تمحيصٍ أو بحثٍ.
كما أنها كتابةٌ مُحِبَّةٌ وجارفةٌ في شعورها وشعريتها ، وكذا دقيقة في رصدها للتفاصيلِ والأحداثِ. وَهِيَ تُحِبُّ الثَّرَاء. ثراء النَّفْسِ، والسُّلوك، ثراء الرُّوح والعقل، ثراء القَلْب وليس ثراء الجَيْب، لأِنَّ الجَيْبَ خُلِقَ – أو بالأدقِّ – صُنِعَ لِيَبْلَى ويتمزَّقَ ويتخَزَّقَ، فلا ديمومةَ لِجَيْبٍ، هكذا عَلَّمنا التاريخُ.
وخبرات لوتس عبد الكريم “تفيضُ بالثراء” على حدِّ تعبيرها، عندما كانت تَصِفُ صديقتَها الأثيرةَ الفريدةَ الملكة فريدة في كتابها “الملكة فريدة وأنا – سيرةٌ ذاتيةٌ لم تكتبها ملكة مصر”.
وَلاَشَكَّ أَنَّ الإنسانَ مُحصَّلةُ مَا عَرفَ، وَقَرَأَ، وَشَافَ وسمع، وَصَادَقَ، وَكُلّ شئٍ عَبَرَ في عبيرِ لوتس أَفَاضَ في عِطْرِ زهرتها، وكان للملكةِ فريدة نصيبٌ وَافِرٌ مِنْ هذا التأثير: “تركتْ في حياتي أثرًا بل آثارًا لا يمكنُ أبدًا أن تزولَ.. كانت مَدْرَسَةً، وكانت فَلْسَفَةً، وكانت حياةً زاخرةً صاخبةً، وعالمًا يموجُ بمختلفِ الأحاسيسِ، وسيمفونية مختلطة الأنغامِ والألوانِ، وكانت لونًا من النساءِ لا يتكرَّرُ”.
لوتس عبد الكريم في وَصْفِهَا هَذَا للملكةِ فريدة، تحيلُ بِلُغَتِها إلى ما تعرفُ عن الموسيقى والغناءِ – وهي التى ابتدأتْ حياتها مطربةً حتَّى المرحلةِ الجامعيةِ – والنفسِ ومكنوناتها.
رَأَتْ أنَّها في حَضْرَةِ من تَتَشَابَهُ مَعَهَا في أشياء يَكْثُرُ إحصاؤها.
فلوتس “تحبُّ النظامَ والدقَّةَ والانضباطَ إلى حدِّ الوسوسةِ، تحبُّ الموسيقى الكلاسيك والألوانَ الهادئةَ والأدبَ والاحتشامَ” كالملكة فريدة تمامًا.
ما يؤرِّقُ لوتس عبد الكريم كإنسانةٍ وكاتبةٍ هو ذكرياتُها التي تفيضُ وتهبُّ، خُصُوصًا إذَا مَا حَضَر الَّليلُ، وَطَالَ مكوثُهُ في غُرْفَةِ النَّفْسِ: “الذكريات تتوالى بقوةٍ وتلوحُ بقسوةٍ وأعودُ معها وبها.. وأستعيدُ الَّلياليَ والأيَّامَ”.
فَمُشْكِلة لوتس الوجودية، أنَّها تَعْرِفُ أَكْثَرَ مما يَجِبُ، وتحفظُ ذاكرتها أَكْثَرَ مما ينبغي، ويحملُ قلبها الكثيرَ من الأسرارِ والذكرياتِ لها أولاً، ولرموزٍ وشخصياتٍ مؤثِّرةٍ في التاريخِ الأدبيِّ والفَنِّي الحديثِ، والوجدانِ.
فَهِيَ قارئةٌ نَادِرَةٌ للوجوهِ، تُدْرِكُ، وَتَحْدِسُ، وتُحسُّ، وتستعرُ، وَتَرَى ما وراء الواقعِ والمعيشِ، وهذه القراءة ساعدتها على معرفةِ النَّاسِ، والنظرِ إلى دواخلهم، واستبصارِ بواطنهم، وإدراكِ الخفيِّ المستترِ، وتقديرها دَوْمًا يؤكدُ حَدْسَهَا اللحظيَّ أو التراكميَّ، وهذا تَأَتَّى من خلالِ طاقتها الروحيةِ المشحونةِ الرَّائيةِ والعارفةِ، والفَارِزَةِ.
فالملكة فريدة اختارت لوتس صديقةً لها لأنَّها على حدِّ تعبيرِ الملكةِ “فَنَّانة ومرهفة المشاعر مثلي، ولأنَّكِ خبرتِ التعاملَ مع الطبقةِ المثقَّفَةِ”.
وَلاَشَكَّ كما قالت لوتس أن وجودَ فريدة كان “جزءًا لا يتجزَّأُ من أيامي ومن حياتي”.
لقد استطاعت لوتس أن تقرأَ الملكةَ فريدة منذ أن التقتْهَا، واستمرتْ علاقتهما حتَّى رحيلِ الملكةِ، وفي سنوات الصداقةِ بينهما، والتى استمرتْ حوالي خمس سنوات، كانت لوتس أنموذجًا نادرًا للوفاءِ والإخلاصِ والبذلِ والعطاءِ في علاقتها بالملكةِ، في وقتٍ كَانَ الداني والقاصي يهرُبُ منها، خوفًا من بَطْشِ السُّلطةِ، أو طيش الحِقْدِ وَالحَسَد.
وتبعتْ لوتس قَلْبَهَا، الذي قادها إلى أن تكونَ المرأةُ الوحيدةُ التى تحملُ أسرارَ وسيرةَ ملكةِ مصر. وظنِّي أَنَّ ما قالته وكتبتُه لوتس عبر مئاتِ الحواراتِ والصفحاتِ هو جُزْءٌ يسيرٌ مما تَعْرِفُ، كأنَّها تتبنَّى “القاعدةَ الذهبيةَ”: ليس كُلُّ ما يُقَال يُنْشرُ أو يُذَاعُ على النَّاسِ.
وَكُنْتُ قَدْ فَكَّرتُ مَرّةً أن أجري حوارًا مع فريدة ذو الفقار ملكة مصر.
فقيل لي إنَّ الطريقَ إليها يمرُّ عبر الكاتبةِ والأديبةِ الدكتورة لوتس عبد الكريم مؤسِّسة مجلة الشُّموع ورئيس تحريرها وصاحبة امتيازها.
وظلَّت الفكرةُ مختمرةً في ذهني، خُصُوصًا أنَّ الملكة فريدة كانت لا تتحدَّثُ إلى الصحافةِ إلا نادرًا، كما أن شخصيتها – خُصُوصًا بعد ذلك – كفنانةٍ تشكيليةٍ كانت تروقُ لي، وكنتُ أعرفُ أنَّها تحملُ الكثيرَ من التجاربِ والخبراتِ.
ولم أكن أعرفُ الدكتورة لوتس عبد الكريم وقتذاك، ولم أكن من كُتَّاب مجلتها “الشُّموع”، ولا من الذين يرتادون صالونها، أو من الحاضرين إلى القاعةِ التي خصَّصتها لإقامة معارض للفنونِ التشكيليةِ. وتأجَّل مشروعُ الحوارِ سنينًا، وَرَحَلَتْ الملكةُ، وسافرت الدكتورة لوتس عبد الكريم طويلاً
ثم عادتْ وسافرتْ مرَّاتٍ، إلى أنَّ فوجئتُ بها ترسلُ إليَّ كتابَهَا عن إحسان عبد القدوس، فاتصلتُ بها شاكرًا، والتقينا،
واستضفتُها في برنامجي التليفزيوني “كشف المحجوب” لمدة ساعة، حيث تحدَّثت عبره عن إحسان عبد القدوس، ومحمد عبد الوهاب، ويوسف السباعي، وَأَفْرَدَتْ مساحةً مهمةً للملكة فريدة، التي تابعتُ سيرتها بعد ذلك من خلال الدكتورة لوتس عبد الكريم، وحاورتها حول الملكةِ في أكثرِ من مكانٍ، وعرضتُ لكتابها عن الملكةِ، والذي أصدرته عقب وفاةِ فريدة بعامٍ واحدٍ، وكان كتابًا مهمًا ولافتًا وخاصًّا ومازال، إذ يقدِّمُ سيرةً ذاتيةً لم تكتبها الملكة، وإنما عاشت تفاصيلَها الدقيقةَ كاتبتها الدكتورة لوتس عبد الكريم، التى منحت الكثيرَ من وقتها وعقلها وقلبها ووفائها للملكة، وصارت “الحارسَ الأمينَ” على أسرارها، والمُدَافعَ عنها في كل محفلٍ، والعارفةَ بأحوالها وشئونها، والمؤتمنةَ على أوراقِ حياتها الشفهيةِ أو التحريريةِ.
إنَّني أمام أنموذجٍ حقيقيٍّ من الوفاءِ يتمثَّل في الدكتورة لوتس عبد الكريم، يتلخصُ في علاقاتها برموزِ الأدبِ والفنِّ والفكرِ في مصر.
لقد استطاعت الدكتورة لوتس أن تعيدَ إلى الملكة فريدة اعتبارها، وأن تجعلها حاضرةً في كل مناسبةٍ وَمَحْفَلٍ، تحتفي بذكراها وتجمعُ أيَّةَ ورقةٍ تخصُّها أو أية صورة لها، تقتني كلَّ ما يتعلَّقُ بالملكة، تتصلُ بمن بقي من عائلتها خُصُوصًا ابنتها الأميرة الراحلة فريال .
ما عند الدكتورة لوتس عبد الكريم ليس عند أحدٍ حتى بناتها، إذ أنَّهن عِشْنَ بعيدًا عن أمهن ولا تربطهن بها حياةٌ مشتركةٌ وذكرياتٌ وخصوصياتٌ وشؤونٌ صغيرة لا تُنْسَى.
والدكتورة لوتس عبد الكريم، على الرغم من أَنَّها تحملُ الكثيرَ في صدرها وروحها وقلبها عن الملكة فريدة، فإنَّها لم تقل كُلَّ شىءٍ يخصُّ الملكةَ، وكثيرًا ما فاجأتني بالجديدِ والمثيرِ والخاص، الذي لم يدونه التاريخُ الحديثُ – للأسف – كما أنَّها تزيلُ العديدَ من الالتباساتِ حول كثيرٍ من القضايا والمسائلِ المتعلقةِ بفاروق وفريدة، خُصُوصًا أن الملكةَ قد أسرَّت إليها بالكثيرِ، بحكم أن الملكةَ كانت شبه مقيمةٍ لديها، في فيلتها بالمعادي، ترسمُ وتعرضُ لوحاتها، إِذْ خَصَّصَتْ د. لوتس طابقين للملكة.
وإذا كانت لوتس عبد الكريم، قد نظرتْ إلى النهارِ، واقتبست نُورَهُ، فهي في الوقتِ نَفْسِهِ نظرتْ إلى الظلامِ وظلِّهِ، لتستخرجَ النُّورَ منهما، لتبدأَ رحلتها نحو مجهولٍ ما، رغبتْ في مواجهتِهِ وَمُراودته واستقرائِهِ، ومعرفةِ أسرارهِ.
وَهُنَا دَخَلَتْ الطَّريق مُزَاوِجَةً بَيْن ما هو معلومٌ لديها، وبين ما هو مُسْتَغَلَقٌ وَمَخْفِيٌّ، وَهَذَا ما جعلها تمتازُ في رحلتها مع الكتابةِ والموسيقى والفَنِّ التشكيليِّ بِجِهَادٍ روحيٍّ، لا يَرَى إلى المكسبِ والخُسَارةِ سبيلاً، بِقَدْرِ ما يرغبُ في الامتلاءِ والعُلُوِّ، والصعودِ نحو الذاتِ؛ لتحقيقِ ما فكَّرت فيه وما تمنَّتْ.
وإِذَا كانت لوتس قد غَامَرَتْ في كتابةِ السيرةِ – التي تَخَصَّصَتْ فيها – فإنَّ تلكَ السِّيَرَ هي أيضًا بَعْضٌ من سيرتها مع مَنْ كَتَبَتْ عنهم، إذْ لم تكتبْ إلاَّ عن شخصياتٍ اقتربتْ منها لسنين طويلةٍ، ولذا جاءت كُتبها انعكاسًا شخصيًّا لمرآتها التي رأت الصُّورَ وحفظت التفاصيلَ، ووعت الشؤونَ الصغيرةَ.
ولوتس مجيدةٌ في تذكُّرِ الدقائقِ، وسردِ الأحداثِ بلغةٍ شعريَّةٍ مقتصدةٍ ودالَّةٍ، تخرجُ من ذاتها بشكلٍ أساسيٍّ.
ولعلَّ الدبلوماسيَّةَ التي عاشتها لوتس عبد الكريم منذ سنينها المبكِّرةِ في الحياةِ، جعلتها لا تُغَامِرَ بعيدًا، وتقول كُلَّ شيءٍ.
فلديَّ يقينٌ أنَّها تمتلكُ الكثيرَ من الأوراقِ والأسرارِ عن شخصياتِ كُتبها، ولكنَّها أرادتْ أن تُعْطِيَ بقدرٍ، رُبَّما لمحبَّتها وصداقتِها وتقديرها لهذه الشخصيات التي أثَّرتْ في حياتها، وكانت تكبرها – عُمرًا – بكثيرٍ.
وهناك مدرسةٌ – ليس لها رَافِدٌ عندنا في الشَّرق – ترى أنَّه ينبغي لكاتبِ السيرةِ (سيرته أو سيرة الآخر) أَنْ “يقولَ” كُلَّ ما يعرفُ، وهو ما لم تفعله الكاتبةُ لوتس عبد الكريم، والتي احتفظت بالكثيرِ في صدرها وأدراجِ مكاتبها.
لكنَّها نجحت – بالرمزِ – أن تُشِيرَ دُونَ إِفْصاحٍ ومباشرةٍ وتقريريَّةٍ إلى ما هو مُسْتَتِرٌ وعصِيٌّ على البوحِ به حِبْرًا على الوَرَقِ.
وإذا كانت الدكتورة لوتس عبد الكريم، لم تكتب سيرتَها إلا متأخرةً (الحياة، الدبلوماسية، السَّفر، الكتابة، الموسيقى،….)، وفضَّلت أن تكتبَ سِيَرَ روَّادٍ في مجالاتهم (محمد عبد الوهاب، يوسف السباعي، إحسان عبد القدوس، الملكة فريدة، يوسف وهبي، مصطفى محمود “1921”)، فإنَّها قد أَوْدَعَتْ هذه الكتبَ – إضافةً إلى روايتيْها- أجزاءً من سيرتها في مراحل مختلفةٍ من حياتها، وقد جاءت كتابتُها عن نَفْسِهَا متباينةً بين الوضوحِ المقصودِ، والإشارةِ الرامزةِ، خُصُوصًا في نصَّيْها الروائيين، الَّلذين أصدرتهما قبل أن تَضْطِلعَ بكتابةِ كُتُبِ السيرةِ، إِذْ كانت تَنْشُرُ في مجلاَّتٍ مصريِّةٍ وعربيِّةٍ، قبل أَنْ تؤسِّسَ مجلتها “الشُّموع” عام 1986م، التي رَأَسَ تحريرَهَا – في البداية – الكاتب أحمد بهاء الدين.
وَكُتُبُ لوتس عبد الكريم في السيرةِ هي في ظنِّي “مُتْحَفٌ للوفاءِ”، مَجْمَعٌ للإخلاصِ والعَهْدِ غير المنقُوضِ، ولعلَّ كتابَها الرَّائِدَ عن الملكة فريدة – الذي صَدَرَ في صُورٍ متعدِّدةٍ (طبعة فنية خاصة، كتاب أخبار اليوم، الدار المصرية اللبنانية)، هو أبرزُ ما في مُتْحَفِهَا الوفائيِّ، فهي الشَّاهدةُ الأبرزُ، والحاملةُ الأولى لأسرارها، ولا شَكَّ أَنَّ كتابَها يَظَلُّ مرجعًا رئيسيًّا عن “صافيناز ذو الفقار” ملكة مصر، التي عاشت السنوات الخمسَ الأخيرةَ من حياتها بصحبةِ لوتس، وفي بيتها بالمعادي، الذي أَخَذتْ منه طابقين أحدهما كان مَرْسَمًا وجاليري لأعمالِ الملكةِ التشكيليةِ.
وأتصوَّرُ أَنَّ لوتس عبد الكريم حَسَنَةُ الرأي في التراجمِ، ويبدو أنَّها قد خُلِقَتْ لها، فهي عادةً ما ترسمُ صُورًا جَاذبةً عندما تَقُصُّ وتحكي شفاهةً عن أناسٍ اقتربتْ منهم وعرفتهم.
فهي معتدلةٌ في الرأي والسيرةِ معًا، ومن الصَّعبِ أن يَصِمَهَا المرءُ بالغُلُوِ في التعاملِ مع شخصياتها، وإن كانت بعضُ الأصواتِ قد عَلَتْ يومًا “مستنكرةً” مَا خَطَّته يمينُ لوتس عبد الكريم فمرُّد ذلك هو الغيرةُ والحسدُ ليس إلاَّ، وعدم التصديقِ أَنَّ فلانًا فَعَلَ ذلك، أو يمكن أن يفعلَ هذا في حياته، لكنَّها كانت تسردُ وقائعَ وأحداثًا شاهدتها وعرفتها وحكاها أصحابها لها، وهي سَجَّلتها بقلمها (المعارك التي دارت بسبب مقالها الشهيرِ عن مُصْطَفى محمود حول علاقته بالجان… راجع مجلة الشُّموع. العددان 69 و70).
وكُتب لوتس عبد الكريم في التراجمِ والسِّيَرِ، تتسمُ بالتفصيلِ والإجمالِ عَبْرَ لُغَةٍ أدبيَّةٍ جاء سَرْدُهَا شعريًّا، إذْ هي فيما كَتَبَتْ كان لها تقديرٌ خاصٌّ للتاريخِ الأدبيِّ والسياسيِّ وَالفَنيِّ لمن تناولتْ حياتهم وَإِبْدَاعَهمُ، إذْ هي تحتفلُ بالقيمةِ والفنِّ؛ لأنَّها تمتلكُ خِبْرَةً عميقةً وحياةً زاخرةً، جعلتها قَادِرةً على إِدراكِ ما تحيطُ بهم، وما تترجمُ لهم، تاركةً لمشاعرها ورؤاها نهرًا من الفَيْضِ والدَّفْقِ.
وإذا كانت لوتس عبد الكريم قد احتاطت فيما كَتَبَتْ – كما احتاط أبو العلاء المعري فيما كَتَبَ من شِعْرٍ ونثرٍ – لأسبابٍ شخصيَّةٍ وحياتية (ربما تتعلَّق بسنواتها مع العملِ الدبلوماسيِّ)، فإنَّ التُقْيَةَ التي التزمتها في بعضِ الأحيانِ، ودورانها حول المعاني والمواقفِ، لم تكُنْ كاملةً، إذْ سَرَّب قَلَمُها الروحيُّ كثيرًا من الأسرارِ رغم استخدامها للاستعاراتِ والمجازاتِ، فعرف القُرَّاءُ ما أرادتْ له أَنْ يكونَ مُسْتغْلَقًا، واطَّلَعُوا على بعضٍ من الأسرارِ التى أرادتْ لها أن تكونَ مكتومةً، لا تبوحُ بها، ولا تُذِيعُها، لكنَّها هتكتْ وأظهرتْ، وتلك تضحيةٌ تَكَلَّفَتْهَا الكاتبةُ “في سبيلِ الوصولِ إلى الحقِّ” والحقيقةِ.
فقد مَحَّصتْ وحلَّلتْ بدقَّةٍ ودرستْ وتذكِّرتْ وَسَرَدَتْ واستعادتْ ما صار ماضيًا، ومما ينبغي إثباتُهُ هُنَا أنَّها وَضَعَتْ كُلَّ ما كَتَبَتْ من تراجم وَسِيَرٍ بَعْدَ رحيلِ أصحابها، باستثناء مصطفى محمود الذي كتبتْ كتابًا عنه “مصطفى محمود.. سؤال الوجود.. بين الدين والعلم والفلسفة”، وهو ما زالَ على قَيْدِ الحياةِ، وَرُبَّما يكونُ ذلك الاستثناءُ بسببِ أَنَّ مَقَاَلَهَا الشهيرَ عَنْه، قد جعلها تُفَكِّر جيِّدًا في إنجازِ كتابٍ عن رَجُلٍ لَهُ شَأْنُهُ في الحياةِ الثقافيةِ، وكان مَثَارَ جَدَلٍ لِعِدَّةِ عُقُودٍ، ثم رَأَتْ أنَّه بعد مَرَضِهِ لم يَعُدْ يَذْكُرُهُ أَحَدٌ.
وأذكرُ أَنَّ الدكتورة لوتس عبد الكريم كانت حزينةً، عندما تَكَلَّم البعضُ عن مقالها – غير مصدِّقين ما جاء فيه – بعدما اشْتُهِرَ وَذَاعَ في الصحفِ والمجلاتِ المصريَّةِ والعربيَّةِ وشبكةِ المعلوماتِ الدوليةِ “الإنترنت”، حتَّى وَصَلَ إلى آلاف الصفحات.
وَهُنَا أَذْكُرُ قَوْلَ طه حُسَيْن “الوصول إلى الصَّوابِ قَلَّما يتأتَّى إلاَّ بعد التورُّطِ في الخطأ”، ومع ذلك لوتس لم تَتَورَّط في خطأ ما، هي فقط ذَكَرَتِ الحقيقةَ، وما قاله مصطفى محمود ذات يومٍ لها. ولعلَّ الصوابَ هُنَا أَنَّ هذا المقالَ قَادَهَا إلى إنجازِ كتابٍ، لم يَكُنْ موجودًا في برامجها أو خططها، إذْ كانت وَقْتَهَا (2007 – 2008م) تُنْهي كتابها عن يوسف وهبي .
وعمومًا إِذَا عُدْنا إلى كتب لوتس عبد الكريم في السيرةِ والتراجمِ – خُصُوصًا مع الذين رحلوا – سنجد أنَّها لم تَظْلمْ أحدًا منهم، لأنَّ كتابتها كانت صَادِرَةً بالأساسِ عن محبَّةٍ وتقديرٍ وإجلالٍ، كأنها تقتدي ببيتِ أبي العلاء المعرِّي الشهير:
لا تَظْلِمُوا الموتى وإنْ طَالَ المَدَى إنِّـي أَخَـافُ عليكـمُ أَنْ تَلْتَقُـوا
إنَّ لوتس عبد الكريم تُسجِّل رؤاها وصُورها عندما تَعْرِضُ لها المعاني نَفْسَهَا.
فهي تَعِي وَتَفْقَهُ برويَّةٍ وتفكيرٍ قَبْلَ أَنْ تَشْرَعَ في الكِتَابَةِ.
ففى كتاباتها عن شخصياتها، لم تتعمَّد “ظلمًا ولا تجَنِّيًا”، ولم تَقُلْ “إلاَّ ما اعتقدتْ” مُصِيبَةً أو مخطئةً “أنه الحقُّ”. وتشتغلُ لوتس عادةً بالعقلِ والخيالِ مَعًا.
وَهَمَا “أداتا” الشُّعراءِ والفلاسفةِ، وهي أخذتْ من الشُّعراءِ حِسَّهم وعذوبتَهُم وجموحَهم ومغامراتِهم وَرِقَّتَهُم و…، ومن الفلاسفةِ تحليلَهُم وتأويلَهُم وتفسيرَهُم وشكَّهم وَعُمْقَهُم.
وقد نجحتْ في المزجِ بين هَاجِسَيْ العَقْلِ والخيالِ، وهي الدَّارِسَةُ للفلسفةِ، في زَمَانٍ كانت فيه الطالبةَ الوحيدةَ التي درستْ هذا العلمَ في كليةِ الآدابِ جامعة الإسكندرية. حيث كانت دراسةُ الفلسفةِ بالنسبةِ للفتياتِ وقتذاكَ من الأمورِ الغريبةِ وغيرِ المعتادةِ، بل إنَّ بَعْضَ أساتذتها من الذين دَرَسُوا في أوروبا، تَعَجَّبُوا من أنَّ مصريةً سَكندريةً تدرسُ الفَلْسَفَةَ، التي هي من وجهةِ نظرِهِم “حِكْرٌ” على الطلاَّبِ وحدهم.
ولم يقتنع هذا الأستاذ إلاَّ بعد حصولِهَا على تقديرِ امتيازٍ في إحدى المواد التي لا يمكنُ لطالبِ فَلْسفةٍ أَنْ يَحْصُلَ على مِثْلِ هذا التقدير العالي.
وَأَظُنُّ أن الحريَّةَ – اجتماعيًّا وثقافيّا وعقليًّا – التي عاشت في كنفها لوتس عبد الكريم، في مدينةٍ تتسمُ بالتعدُّدِ والتنوُّعِ الخلاَّقِ والغِنَى والثراءِ، إذْ كانت الإسكندريةُ وقتذاك ما تزالُ بوتقةً وَمَصْهَرًا للفِكْرِ والفلسفةِ والشِّعرِ والأدبِ والمعرفةِ والفنونِ بِشَتَّى أشكالها وأنواعها.
هذه الحريُّة جَعَلَتْ لوتس عبد الكريم تفتحُ أبوابَ أُفقِهَا مُبَكِّرًا، غير قانعةٍ بالقليلِ، أو راضيةٍ بما تَرْضَى به فتياتٌ كثيراتٌ من عائلاتِ الطبقاتِ العُلْيَا في المجتمعِ المصريِّ.
إذْ ذَهَبَتْ مَذْهَبًا آَخَرَ، وراحتْ تسعى نحو تحقيقِ طموحاتها وأحلامِها في التحصيلِ والدراسةِ والسَّفَرِ والمعرفةِ والعِلْمِ.
وهذه الحرية – أيضًا – ردَّت لوتس عبد الكريم إلى أن تكونَ أَكْثَرَ إصرارًا واتزانًا وتواضعًا واعتدالاً، رغم أنَّها مَخْلُوقَةٌ بـ “داءِ توتُّرِ الفَنَّان”، فهي قويَّةُ الخَيَالِ عميقةُ العَقْلِ، عنيفةُ الإرادةِ والعَزْمِ. غَيْرُ مُطْمَئِنةٍ، لاَتَرْتَكِنُ إلى استقرارٍ مَا، لأنَّها عُرِفَتْ بالخَوْضِ والتجريبِ والتجديدِ والدخولِ – عميقًا – فيما وَرَاءَ الوَرَاءِ.
لاَتَخْلدُ إلى حقيقةٍ باعتبارها النهايةَ، لكنَّها تُعيدُ البَحْثَ إذَا أصبحتْ، وَتَمْنَحُ نَفْسَهَا وعقْلَهَا فُرَصًا للاختبارِ والسَّبْرِ إِذَا أَمْسَتْ، وَتُواجِهُ ذاتها أَثْنَاءَ الَّليلِ إنْ اسْتَعْصَى عليها النَّومُ، وهو غالبًا ما يَسْتَعْصِي عِنْدَ أُولِي الحَيْرةِ والشَّكِّ والقَلَقِ.
إنَّ لوتس عبد الكريم – وهي التي سَافَرَتْ في حَضَاراتِ الشَّرقِ الأَقْصَى – لاَتَطْمئنُّ إلى أَجْوِبَةٍ، بِقَدْرِ اطمئنانها إلى الأسئلةِ، فالسُّؤال يُريحُ صَاحِبةَ العَقْلِ والمُخَيِّلَةِ.
وهي في حَيْرَةٍ مُتصِلَةٍ من أَمْرِهَا، لا تستقرُّ نَفْسُهَا و”لا تعرف لها مدى” تَنْتَهِي إليهِ من أيِّ ناحيةٍ من نواحيها؟”. فَقَدْ أَسْرَفَتْ في السُّؤالِ والشَّكِّ، وكذا في طَاقَتِهَا الروحيةِ، كيْ تَصِلَ إلى الثُّريَّا بِسُلَّمِ الحكمةِ العُلْيَا. مُسْتَكْشِفَةً إِيَّاهَا، وَاصِلَةً إلى كُنْهِ أَسْرَارِهَا.
إنَّ لوتس عبد الكريم تَمْضِي إلى أبعد من الورقةِ التي تكتبُ عليها.
كما تمضي إلى أبعد من اسمها، الذى حَمَّلها إياه جَدُّها لأُمَّها، الذي كان مُثَقَّفًا وشاعرًا ورئيسًا لبلديةِ الإسكندريةِ، ومدركًا لما ستحملُهُ الأيامُ لحفيدته، وَمُتَنَبِّئًا لها بتطابقِ الرسمِ مع الاسمِ. وَصَدَقَتِ الأيامُ بنبوءتِهِ، وَصَارَتِ الزَّهْرَةُ المصريَّةُ المقدَّسةُ “لوتس” عنوانًا أصيلاً وهُويَّةً نَاصِعَةً لـ “لوتس” الاسم.
وظلَّ هذا الاسم له وَجْهٌ بَعِيدٌ في رؤيتهِ ونظرتِهِ، وَوَجْهٌ قريبٌ في دفئِهِ الإنسانيِّ، وحضانتِهِ للفَنِّ والكتابةِ والإبداعِ بشتَّى صُورِهِ، ولم يكُنْ ذلك غريبًا على التي أتتْ من عائلةٍ أحبَّت الفَنَّ وقدَّستْهُ وآمنتْ بِهِ.
“الَفنُّ كان في عائلةِ أُمِّي وليس في عائلةِ أبي”؛ ولذا أَخَذَتْ لوتس عبد الكريم الحياةَ بعمقٍ، فهي أكثرُ من شَخْصٍ في اسمٍ وَاحِدٍ. أَظُنُّها عاشت أعمارًا لا عمرًا
واحدًا “عشتُ طوالَ الوَقْتِ أكبر من سِنِّي”، “لمَّا بلغتُ الثلاثينَ كنتُ قد عِشْتُ الحياةَ بكاملِهَا، من أَلِفِهَا إلى يائِها، شُفْتُ العالمَ دَفْقَةً واحدةً أو في دَفْقَاتٍ”. كأنَّها تتواصل مع بابلو نيرودا الذي شهد أَنَّهُ قد عَاشَ، أليس هُو صاحبُ كتاب السيرة الأَشْهر “أعترف أنَّني قد عِشْتُ”.
إنَّ نارًا مُشْتَعِلةً تُخَايلُ لوتس عبد الكريم، نارًا بأكثرِ من جَنَاحٍ، تُلْمَسُ وَلاَ تُلْمَسُ، لكنَّها تُحَسُّ عِنْدَ القِراءَةِ، أو التواصلِ الإنسانيِّ.
فهي امرأةٌ تُسَيِّرُهَا طبيعتًها التي فُطِرتْ عليها، لا تُعَاكِسُ نَفْسَهَا، لكنَّها تسيرُ في دَرْبِ الأَحْلاَمِ والرُّؤى وعالمِ الخيالاتِ، “لا أصطنعُ، لم أدفعْ ثمنَ حياتي، لم أَدْفَعْ شيئًا لأَِدْفَعَ نَفْسي إلى الأمام”.
وهذا ليس غريبًا على كاتبةٍ ظلَّتْ لسنواتٍ طويلةٍ تكتبُ لنفسِهَا فقط، و”تُخَزِّنُ” ما تكتبُهُ، ولولا أنَّ إحسان عبد القدوس قال لها يومًا إنَّ “مهنتك الكتابة والفن” لظلَّت هكذا “امرأة في الظلّ”، وهو اسم روايتها الأولى، التي وقَّعَتْهَا باسمٍ مُسْتَعَارٍ، هو “سوسن عبد الكريم”، وهو في الحقيقة ليس مستعارًا بشكلٍ كُلِّيٍّ لأِنَّ الترجمةَ العربيةَ لاسمِ لوتس (الاسم المصري القديم) هو سوسن.
وأعتقد أَنَّ الذي كان يؤرِّقُ لوتس عبد الكريم على المستوى الإنسانيِّ والعاطفيِّ والفكريِّ هو الوصولُ إلى الحقيقةِ، تلك الحقيقة التي ظلَّت هاجسًا مصاحبًا لها دومًا، في إقامتها في الوطن، وغربتها عنه، وربَّما كانت هذه الغربةُ في الأرضِ لسنواتٍ طالت، بمثابةِ النَّصْلِ الحاد المشحوذِ الذي ينكأُ سماءَ الحقيقةِ التي لا تغيبُ شَمْسُهَا أبدًا عن عينيْ روح لوتس.
فهي اكتشفت – أو على الأقلِّ حاولتْ – النَّهارَ في ضبابِ لندن.
وَمَضَتْ عاصفتُها في كُلِّ اتجاهٍ، تضربُ بشدِّةٍ، وهي تقاومُ، إلى أَنْ حَمَلَتْ أَزْهَارَ اليابانِ في روحِهَا الصغيرةِ، في أوائلِ العشرينيات من عمرها.
كان جِدَارُ الشَّرق الأقصى قاسيًا، لكنَّها اخترقتْهُ، كيْ ترى ما وراءَهُ، وماذا يُخَبِّئُ من معارف ومعانٍ. ولم تجعله شرخًا في نَفْسِهَا، وإن كَانَ يَضْغَطُ، لكنَّ رُوحَهَا كانت أكثرَ قدرةً وتحمُّلاً على الإمساكِ بالغُيومِ التى حَوَّلَتْهَا إلى كائناتٍ تُضئُ طريقهَا نَحْو الورقةِ، والوصول إلى الذاتِ المتحرِّقةِ إلى التحقُّقِ والفَيْضِ.
في غربتها لم تَكُنْ شجرةً بردانةً، خَائِفَةً من لُغةِ الدبلوماسيةِ الفِضفَاضةِ، التي لا تعني في كثيرٍ من الأحيانِ شيئًا، سوى سلسلةٍ من الهروبِ والمجاملاتِ والابتساماتِ العطلانةِ عن الاختراقِ إلى قلوبِ وأرواحِ ونفوسِ من كانت تقابلهم وهي بَعْدُ مازالت حديثةَ التخرُّجِ في قسمِ الفلسفةِ، وساقتها حَيَاتُها إلى “أتونِ” الدبلوماسيةِ .
* شاعر وإعلامي من مصر