الرواية تطيح بالقصة القصيرة حتى في أميركا اللاتينية


*مصطفى الولي

استقبل عالم الأدب والثقافة والإبداع الروائي في أميركا اللاتينية، باحتفاء بالغ، فرضته بامتياز ما أطلق عليها النقاد الأدبيون والروائيون “رواية الواقعية السحرية”. وبرزت أسماء من الكتاب، أخذت موقعها المميز في سماء الأدب الروائي العالمي، مثل ماركيز وإيزابيل الليندي وباولو كويليو وسواهم الكثير. تلك الأسماء الكبيرة في الإبداع الروائي، قدمت نتاجا قصصيا هاما، غير أن سلطة الرواية كجنس أدبي على المستوى العالمي، أجحفت بحق جنس آخر من الأدب، هو القصة القصيرة. هذا الإجحاف لم يتوقف عند قصة أميركا اللاتينية، فهو عام وشامل في عالم الأدب والنقد الكونيين.

فمن المجموعة القصصية “وسادة الريش” نطالع مختارات لعدد من القصص القصيرة، أنتجها كتاب أميركيون لاتينيون، من الأورغواي والتشيلي والأرجنتين والبرازيل والبيرو وكولومبيا وفنزويلا، ومن بينهم أهم الروائيين وأبرزهم على الصعيد العالمي.
وإن كانت “الواقعية السحرية” هي التوصيف الأثير لنقاد الرواية ومنظريها، فالقصة القصيرة، التي نستعرضها هنا، تبدو فيها مروحة واسعة من السمات الأدبية، كالسخرية المرة، والمفارقة في تطور الحدث القصصي، والقصة ذات البعد الرمزي، إلى جانب الخيال الأسطوري، ولا تخلو بعض القصص، حتى، مما اتسمت به رواية أميركا اللاتينية من واقعية سحرية، تشف عنها بعض خطوط السرد.
“في القصور تنعدم الألفة”، هذه المقولة لغاستون باشلار، عالم الجماليات المعروف، هي ما تشي به قصة “وسادة الريش” للكاتب الأورغواني أوراسبو كيروغا، قصة عروسين عاشا ثلاثة أشهر لا غير قبل رحيل الزوجة.
البيت الذي كانا يسكنان فيه، يخلق انطباعا خريفيا لقصر فنان، وفناؤه الصامت مكوّن من أفاريز وأعمدة وتماثيل رخامية، وفي الداخل بريق ثلجي لمعجون المرمر، مما يعزز الإحساس بالبرد القارس، وأما صدى الخطوات في شتى أرجاء البيت فتشعر كما لو أن هجرانا طويلا جعل دويها أكثر حساسية.
وفي هذا الفضاء، الخالي من الحميمية، تتحول وسادة “أليسيا” زوجة “خوردان” إلى وحش قاتل ومميت. حين نتعرف على أمر غريب وعجيب، ففي الريش يولد مخلوق داخل الوسادة، يمتص دم أليسيا دون ملاحظة من أحد، لا الزوج ولا الخادمة، إلا في اللحظة الأخيرة من حياة الزوجة، حين تكتشف الخادمة أن وزن الوسادة كبير وثقيل، هناك كان الحيوان العجيب يعيش وينمو على دم الزوجة، دون أن تشعر أليسيا به لأنها طريحة الفراش جراء إصابتها بالأنفلونزا.
التباس الحلم والواقع
طفل وكلبة وحلم، ووهم رجل هبط من الفضاء، وحذاء رياضة مفقود، تلك عناصر قصة “إيزابيل الليندي” الروائية التشيلية ذات المكانة الكبيرة في الأدب الروائي العالمي. “الرجل الفضي “، هي أيضا قصة من النوع الغريب، تتمادى صورها في مرتع خيال الطفل “خوانتشو”.
أطلق خوانتشو على كلبته اسم فراشة، فهي تملك أذنين كبيرتين، يخيل للناظر إليها عكس الضوء بأنها “فراشة ضخمة، ومولعة باستنشاق عبق الزهور”. وتؤنسن القصة كلبة خوانتشو، من خلال سرد حوار بين الطفل والكلبة فراشة “إنَ الطقس يسوء يا فراشة، يجب أن نعجل وإلا أدركنا المساء وأظلمت علينا”. لكن الكلبة التي يتغير مزاجها، على غير عادتها، تفتح للقصة عالم الوهم، الخيال- الحلم، فيتغير الكون والطبيعة، ويتراءى للطفل رجل فضي، لا يشبه سكان العالم الأرضي. ويجري بين الطفل والرجل الهابط من الفضاء حوار سريع، يطمئن فيه الطفل ويهدأ روعه. وتفيد خاتمة القصة بأن الطفل كان يحلم وهو نائم ومعه كلبته “فراشة” داخل معطفه.
وتدمج إيزابيل في قصتها “الرجل الفضي” بين تحولات الطبيعة وتأثر الوعي الطفولي بظواهرها، مع سرد يتخلله الخيال في وعي الطفل، وفي استنطاق فني للكلبة “فراشة” تصبح شريكة في حوار ممتع، ينتهي بذهاب الطفل للبحث عن حذائه الرياضي في وحل الغابة.
يوم لقصة ماركيز
يبني ماركيز شخصيتي القصة “يوم من هذه الأيام”، بسخرية فيها رمزية للفساد في نظام الإدارة والصحة العامة. فطبيب الأسنان لا يحمل لقبا جامعيا، ويمارس مهنته في إحدى بلدات أورغواي. وعمدة البلدة، الشخصية الثانية في القصة، مجرد متسلط ونصاب.
في حبكة القصة يرسم ماركيز لوحة بشعة للعيادة التي يستخدمها الطبيب غير المؤهل. وتكون فيها أعشاش عناكب، ومعدات ليست صالحة للعمل. وهو يقلع ضرس العمدة دون تخدير، بحجة أن هناك خراجا في اللثة.
والعمدة بدوره، أراد خلع ضرسه بالقوة، دون رغبة من الطبيب لأنه يعرفه كنصاب لا يسدّد أجرا لأي عمل. فحين يدخل العيادة يظهر مسدسه بيده علامة تهديد، وبعد خلع الضرس يسأل الطبيب مريضه:
هل ترسل لي الحساب؟ فيأتي ردّ العمدة خبيثا حين يقول له: إليك أم للبلدية، إشارة من العمدة إلى افتقاد الطبيب لشهادة تؤهله للعمل كطبيب أسنان.
أنسنة الطبيعة
في قصة “الغيمة وكثيب الرمل” يغازل باولو كويلو، الكاتب البرازيلي المعروف، غيمة صغيرة في رحلتها من سماء البحر المتوسط، إلى أفريقيا. “وما يحدث مع البشر حديثي السن يحدث مع الغيم أيضا. فقد قررت الغيمة الانفصال عن أهلها وأصدقائها لكي تتعرف على العالم”.
في أفريقيا تتعرف الغيمة على كثيب رملي صغير وجاف وعطشان للماء. وفي حوار “عاقل” ومفكر، ينشأ حب حميم بين الغيمة والكثيب الصغير المتشوق للماء. وتضحي الغيمة بحياتها ليرتوي الكثيب الرملي الصغير في الصحراء الأفريقية، وهو ما يخلق عالما جديدا مزدهرا في الصحراء، فالكثيب الصغير تنمو عليه الأزهار، وتعتقد الغيمات الأخريات أنهن وصلن الغابات اللاتي كن يبحثن عنها، فأطلقن المزيد من المطر، وبعد عشرين عاما تحول كثيب الرمل إلى واحة خضراء “كل ذلك حدث لأن غيمة عاشقة لم تبخل بحياتها في سبيل الحب”.
هي قصة من السهل الممتنع، تماما كما أعمال باولو الروائية، حيث يبدو فيها ولع الكاتب بالروحانيات، وبأنسنة الوجود وبشفافية اللغة وبساطة الحوار في حدث قصصي مدهش، مبني على خيال طفولي فطري وساحر.
في المجموعة القصصية “وسادة الريش”، مختارات أخرى لكتاب كثر، وفي مجموعها تعطي فكرة عن فن القصة القصيرة بأميركا اللاتينية، ولعله بقي مجهولا، لأن الرواية هناك احتلت عرش الإبداع الأدبي، وفي فناء هذا العرش توجد القصة القصيرة متواضعة خجولة، لكنها بمساحتها الصغيرة تضيء عالم السرد الأدبي في تلك القارة.
______
*العرب

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *