عبد الرحيم التوراني *
( ثقافات )
عندما دخلت بيتها، بعد عودتها من السهرة، اتجهت مباشرة إلى غرفة النوم، كانت متعبة، ضغطت على زر النور، لتجد نفسها أمام جسد يتدلى من السقف، اشتعلت عيناها بالخوف، صرخت بأعلى صوتها، ثم تراجعت مذعورة. الوقت تجاوز منتصف اللليل والطقس بارد.
حاولت استرجاع أنفاسها.
– لعل الأمر مجرد توهم، لقد شربت الليلة كثيرا من الكؤوس في الحفلة.
لا أحد يعيش معها في البيت المعزول. منذ طلاقها قبل أعوام، اختارت الحسناء الخمسينية الحياة وحيدة، ولا أحد يزورها.
عادت من جديد، استجمعت قواها محاولة ضبط مشاعرها والسيطرة على الخوف الذي ينهشها، مشت بساقين متباطئين، حتى وصلت باب الغرفة، كانت الجثة الضخمة ما زالت تتدلى من السقف، صدرت منها نفس الصرخة، كأنها ترى المشهد لأول مرة. لكنها لم تهرب. اقتربت ترتجف من الجثة لتتأملها.
الحذاء أول ما سقط عليه نظرها.. حذاؤه أسود لامع من ماركة غالية.
المعطف أنيق وطويل، رمادي اللون بحزام. السروال أزرق داكن. القميص أبيض ربطة العنق اختلط لونها بلون الحبل. الصدرية من نفس لون وثوب السروال. يدان يكسو ظاهرهما شعر أبيض وأسود. في اليسرى ساعة يد ثمينة. طربوشه الأسود على الأرض.
الجثة كانت لرجل في كامل أناقته، قد يكون ذاهبا إلى حفل أو عرس.
توقفت عن تفحص المشنوق لحظة. حكت شعر رأسها. رفعت رأسها بتباطؤ ملحوظ، والرجفة لا تفارق قلبها. رأت الوجه الشاحب والعينين الجاحظتين، والدم النازف من الأنف وعلى الفم. صدرت منها شهقة مكتومة، ثم تكومت على نفسها، تشنجت أكثر، ارتعدت، أنكرت أن يكون ما يحدث حقيقة.. وسقطت أرضا مغشيا عليها.
لما استفاقت كان النهار قد انتصف. ظنت نفسها في كابوس، فركت عينيها ونهضت. تدور في وسط الدار. في رأسها تتناسل الأسئلة:
– من هذا اللعين الذي اختار نهايته المأساوية في شقتها. ولماذا، وكيف دخل… و..و…
وأخذتها نوبة بكاء حادة، من زمان لم تبك. علا بكاؤها، وخارت قواها. أحست بنفسها حطام امرأة منتهية.
لملمت أشلاءها راغبة في إعادة توازنها، واقتربت. تحاول عبثا تذكر ملامح وجه المشنوق. لم يسبق لها أن رأته أو صادفت شخصا يشبهه. جلست وسط الصالون، أشعلت سيجارة، حاولت أن تستعيد رباطة جأشها. فكرت في الاتصال بالبوليس، لكنها تراجعت، رأت أن عليها أولا أن تعرف ماذا ستقول للمحققين. يا للفضيحة الكبرى…
فجأة رن الهاتف، ظل يرن. أين وضعت هاتفها المحمول.. يا رب. بحثت عن مصدر الرنين. لكنه انقطع. تابعت البحث عن هاتفها، وجدته في حقيبة اليد. راجعت لائحة الأرقام المتصلة من دون رد. كانت آخر مكالمة مسجلة بالهاتف لم يتم الرد عليها تعود ليومين. ظلت ممسكة بالهاتف. تذكرت أن الرنة التي سمعتها قبل لحظة ليست رنتها الخاصة. عاد الرنين من جديد، لم يكن صادرا من هاتفها. تتبعت المصدر حتى وصلت إلى الجثة. أدخلت يدها بحذر وخوف شديدين في جيب المعطف الطويل، وأخرجت هاتفا جديدا من صنف الهواتف الذكية. سقط الهاتف من يدها المرتعشة، زاد صوت رنينه ارتفاعا، كأن السقطة أوعكته. رفعته من على البساط.
بصوت مخنوق ردت:
– ألو.. ألو …
لم يرد عليها غير الصدى. انقطع الاتصال قبل أن يتكرر الرنين.مرة أخرى، قرأت اسم المتصل. قرأت كلمة “سونيا”. صعقت. تشجعت. غيرت نبرة صوتها:
– ألو.. من معي؟
بعد ثوان طالت رد المتصل:
– ألو.. من أنت؟
ترددت قبل أن تجيب:
– لكن أنتم من تتصلون.. من أنتم أولا؟
– أنا زوجة صاحب الهاتف، اتصلت به لأفاجأ بصوت امرأة.
وبغضب آمر:
– من فضلك مرري الهاتف لصاحبه أريد الكلام معه.
– لكن.. لكن.. صاحب الهاتف غير موجود الآن.
زاد غضب الزوجة:
– ألم تلاحظي أني حتى الآن لطيفة معك، من عادتي لا أعير اهتماما للساقطات، قولي لذلك النذل المستهتر الخائن إن أم أولاده تريد أن تكلمه، أين نام ليلة البارحة؟ أنا أعرف أن الملعون بجانبك يلقنك ما تردين به علي…
ثم سمع صوتها الصارخ كأنها ستخرج من الهاتف:
– يا (…) تكلم يا كلب.. يا خائن.. يا حقير.. لا تريد الكف عن خياناتك.. تكلم…
– لكن يا سيدتي أرجوك.. لا تخطئي في حقي أكثر، أنا لست من إياهن، ولا أعرف زوجك.
قاطعتها الزوجة بعنف واضح:
– وماذا تريدين من معرفته، يكفيك فلوسه يا عاهرة، لست إلا كلبة ذليلة..
هنا طفح الكيل بصاحبة البيت. كيف حافظت كل هذه العمر على شرفها وعرضها، لتجد نفسها تمرغ في الوحل، متهمة من طرف نكرة لا تعرفها وتصفها بأقبح وأرذل النعوت..
لم تتحمل أكثر. أغلقت الهاتف. ثم سرعان ما أدركت خطأها. عادت للاتصال من نفس هاتف الجثة برقم المدام الغاضبة. لم تحصل على رد، كررت المحاولة مرات، ظل المجيب الآلي يتصدى لاتصالاتها.
فتحت أجندة الهاتف، طالعت أسماء وأرقام أصدقائها ومعارفها ومن لها بهم صلة، كهاتف الوكالة البنكية وهاتف النادي الذي تنخرط فيه واسم الطبيب الذي تترد عليه، وصالون الحلاقة.. بل إنها ستفاجأ باسمها الكامل مع رقمها وصورها في هاتف الجثة.
صرخت بكل قواها منهارة على الأرض.
– هذا ما كان ينقصني.. يا رب.. ما هذا اللغز؟ من أين لي بهذه المصيبة؟
قامت وأشعلت سيجارة جديدة، عبت من زجاجة ويسكي مباشرة جرعة كبيرة. مسحت وجهها.
حاولت استرداد أنفاسها من جديد.
سمعت دقات الجرس. مشت حافية صوب الباب. وضعت عينها في العين السحرية، رأت الجثة وراء الباب. الرجل المشنوق ذاته، بنفس ملابسه وتسريحة الشعر. جرت إلى الغرفة. كانت الجثة في مكانها تتدلى من السقف. لعله أخوه التوأم. فتحت الباب، لم يكن هنالك أحد.
زاد انهيارها. لم يكن أمامها بديل غير أن تستسلم للنوم.
صحت من نومها على صوت أواني تقرع. كانت دهشتها صادمة حينما اكتشفت أن الجثة واقفة في المطبخ تعد بيدها القهوة.
من دون أن تلتفت الجثة إليها تكلمت:
– هدئي من روعك يا مدام سوسو …
– ويعرف اسم الدلع أيضا الذي يناديها به الحميميون فقط.
التفتت الجثة، كانت بنفس العينين الجاحظتين. لكن هذه المرة خلف نظارة طبية سميكة.
– عفوا سأناديك باسمك الآخر سونيا، إلا إذا كنت لا تعتبرينني من أصدقائك الحميميين.
– لكن من أنت؟ أنا لا أعرفك حتى، اخرج من بيتي فورا…
– وقبل أن تعرفي من أنا؟
– لا أريد أن أرى خلقتك ثانية غادر فورا..أخرج…
– وقبل أن أخلصك من المشنوق؟
حدقت فيه جيدا، وهرعت صوب غرفة النوم لتجده ما زال يتأرجح من السقف.
– لكن من هو شبيهك هذا في سقف غرفتي ميتا؟
ضحك حتى ردت الجدران صدى قهقهته. تضاعف الخوف الذي يسكنها …
رد بهدوء:
– هو أنا. ألا أشبهني؟ المسكين وحيدا في السقف، ربما يريد شرب قهوة. وتعالت ضحكته.
– لست معك في موضع الضحك. كيف يمكن أن تكون منك نسختين، ربما ثلاثة، من هو هذا الذي دق جرس بيتي قبل قليل واختفى؟
ظل الرجل ساكتا، طلب منها سيجارة. ترددت في إعطائها له.
طلب كأس ويسكي، نفت أن يكون لديها. دخل المطبخ وعاد بزجاجة الويسكي وكأس في يده.
ظلت فاغرة فمها، تنظر بحياد إلى ما يجري في بيتها.
أخذ نفسا طويلا، ثم تكلم من دون أن يرفع عينيه عن السقف:
– في الحقيقة يا مدام سوسو، أو مدام سونيا، نحن هم كل هؤلاء الثلاثة ولست أي واحد منهم في نفس الآن.
– لكن ما كل هذا الهذيان المرعب؟
قاطعها بحدة:
– رجاء.. لا يا سونيا. لا تقاطعيني، أعرف كل ما يدور في رأسك من أسئلة، لكن لا أملك أجوبة لها، أنا نفسي لا أعرف ما الذي أتى بي إلى هنا، لكن ربما لو تعاوننا نحن الاثنين لتوصلنا إلى فك اللغز.
ظلت صامتة تنتظر، صب كأسا ثانية. ركز عينيه على مفرق صدرها العاري وفخذيها. بادرت إلى تغطية صدرها بيديها.
قالت له إن زوجته اتصلت به في الهاتف.
نفى أن تكون له زوجة، أو سبق له أن ارتبط بزواج.
قدمت له هاتفه. نفى أيضا أن يكون ملكه، بل أضاف إنه لا يستعمل الهاتف النقال مطلقا.
سألته:
– ومن هي سونيا التي اتصلت؟
لا أعرف امرأة فاتنة بهذا الاسم سواك؟
رأت في عينيه شبقا ورغبة حيوانية. نظراته تأكل جسدها. قامت مسرعة لتجلب قميصا ساترا. لما عادت وجدت نفسها أمام شخص آخر تعرفه، طليقها.
سألته:
– ماذا تفعل هنا؟
لم يرد عليها.
كانت بمصحة نفسية..
سألت:
– ماذا وقع.. أين أنا.. أين المشنوق؟
التفت الطليق إلى الممرضة، قبل أن يجيب:
– لقد وجدوك في بيتك منهارة ومغميا عليك. يظهر أن الحالة عادت إليك…
– عن أي حالة أو خالة تتكلم؟
دخل الطبيب حدقت في شكله جيدا، ونطقت بكلام لم يفهمه أحد. كانت بمعصمه ساعة من نفس ساعة المشنوق، وبقدميه حذاء الطبيب أسود لامعا من ماركة حذاء الجثة. سارع الطبيب إلى حقنها بمنوم.
لما تم الإذن لها بمغادرة المصحة إلى بيتها، كانت قطعة صغيرة من الحبل بعتبة غرفة النوم. وهاتف الجثة على الطاولة الصغيرة.
فتشت عن نمرة زوجة المشنوق.، رد عليها صوت نسائي. سألت إن كانت المدام…
لم تكمل سؤالها، ردت عليها امرأة:
– بل أنا الأرملة، الموت أخذته. أوقفت خياناته.
– ومتى مات وكيف؟
– وجد مشنوقا في بيت إحدى نسائه السابقات بحي معزول في الضواحي..
ثم أقفل الخط.
نهضت المرأة من المقعد الوثير أنيرت الأضواء وتساقط وابل من فلاشات الكاميرات على وجهها. كان زوجها يمسك بذراعها متباهيا.
في البيت قالت له:
– إن النقاد وجدوا دور المشنوق أحسن دور قام به زميلي الممثل في مسيرته على الإطلاق.
رد عليها أنا أشهد أنك أتقنت دور المجنونة.
– لكن المرأة لم تكن مجنونة.
مرت لحظة صممت، تساءلت بعدها:
– ألا تتفق معي أن النهاية مبتورة.
رد عليها:
كل نهاية هي بالضرورة مبتورة.
– نعم لكن البتر بآلة حادة ليس كالبتر بآلة صدئة.
– من دون شك.. لكن كيف تتصورين أنت النهاية؟
– أن تكون الجثة لعشيق سابق لها، انتقمت منه لتخليه عنها، هي من سممته وعلقت جثته، وسكنتها الأوهام، فلم يدق جرسها أحد ولم يشرب قهوتها مع الويسكي أحد.
– ممكن.. لكن في هذه الحالة كان يجب قلب الأدوار، رجل يجد امرأة مشنوقة في بيته.؟
وسألته بدورها:
– وأنت ما هي نهايتك؟
– أن تكون الجثة مجرد دمية مجهولة. تدمن المرأة شنقها كل ليلة. للانتقام من رجل تركها..
غظتت النجمة رأسها. أطفأ رجل الأعمال، زوجها النور، ظل يرى كل ليلة جسدها الممدد جنبه يتدلى من السقف.