نللي حنا تحكي قصة القاهرة في 1300 عام



* أيمن رفعت

في مزج رائع بين النص والفوتوغرافيا، بين عبق التاريخ وسحر الجغرافيا، بين دقة التخطيط وروعة التشييد، يجول بنا الكتاب في سياحة ممتعة لشوارع القاهرة، ترسم لنا ما تبقى من العواصم القديمة التي سبقت قاهرة اليوم، من الفسطاط، والعسكر، والقطائع إلى القاهرة المغرية، لنجد أنفسنا نتجول في الشوارع والحارات القديمة والمباني الأثرية التي يرجع تاريخها عصور مضت، لنكمل السير منها إلى الأحياء التي شيدت حديثًا.

في مقدمة كتابها “مصر أم الدنيا .. قصة القاهرة في 1300 عام” تقول د. نللي حنا، أستاذة الدراسات العربية بالجامعة الأميركية بالقاهرة، ومتخصصة في تاريخ الدراسات العربية في العصر العثماني: ليست مدينة القاهرة التي نعرفها اليوم مدينة واحدة، بل هي في الأصل أربع مدن، أُنشئت الواحدة بعد الأخرى عاصمة لمصر، ثم اندمجت هذه المدن الأربع حتى صارت مدينة واحدة، وهي ليست مدينة الملايين التي يسكنونها اليوم فقط، ولكنها أيضًا مدينة الملايين الذين سكنوها من قرون ماضية، جيل بعد جيل، وبنوا وشيدوا.
يرجع تسمية التجمع السكاني الذي أنشأه عمرو بن العاص بـ (الفسطاط) إلى أنه لما أراد أن يتوجه إلى الإسكندرية لمحاربة الروم أمر بنزع فسطاطه، أي خيمته، فوُجدت بها يمامة قد فرخت، فأمر بإبقائها في مكانها، فلما عاد مع جيشه من الإسكندرية وسأل الجنود: أين ننزل: قال لهم: عند (الفسطاط) فظل الاسم مرتبطًا بهذا المكان الذي تركت فيه الخيمة، وبعد عودة عمرو من الإسكندرية بنى جامعه المعروف بجامع عمرو بن العاص وهو ليس – فقط – أول جامع بُني في مصر، بل أول جامع في أفريقيا كلها، وقد بنى بجوار الدار المخصصة لسكنه”.
وتتابع قائلة: أمر المعز لدين الله الفاطمي، ببناء القاهرة المعزية لتكون عاصمة ليس فقط لمصر ولكن لتكون عاصمة الخلافة الفاطمية. واختار جوهر الصقلي لهذه المهمة، وبدأ جوهر فعلًا في بناء المدينة فورًا، بعد سيطرة الجيش على البلاد، واختار جوهر الصقلي موقع المدينة الجديدة على بعد نحو كيلو مترين شمال شرق المدينة القديمة، وقام ببناء سور، ثم أنشأ أول جامع في القاهرة، وهو الجامع الأزهر ولم تتجاوز مساحة المدينة – حينذاك – الكيلو متر المربع، ثم أخذت القاهرة تتحول – على عدة مراحل – من مدينة مغلقة تأوي الحكام إلى مدينة يسكن فيها العامة من الناس.
ثم حدثت أولى مراحل هذا التغيير في عهد الخليفة المستنصر، وهو الذي بُني في عهده السور والبوابات، وجاءت المرحلة الثانية من التغيير بعد أقل من مائة عام (564 هـ – 1168) إذ حدث أن أحرق الفسطاط أهلها، ليحموها من هجوم الفرنج عليها ويمثل سقوط الدولة العثمانية ثالث وآخر مرحلة من مراحل تحول مكان مصر إلى القاهرة، وجعل العاصمة سكنًا للعامة من الشعب، فعندما أخذ صلاح الدين الأيوبي زمام الحكم سنة (567 هـ – 1171) قرر عددًا من التغييرات أثرت كثيرًا على تطور المدينة على المدى الطويل.
وتتطرق المؤلفة لتخطيط المدينة فتذكر: كان للمدن الأولى (الفسطاط، والعسكر، والقطائع، والقاهرة) عند إنشائها نموذج متميز من التخطيط، فكان قلب المدينة يشتمل على الجامع، وسكن الحاكم، ودار الإمارة، ثم تنشأ الأسواق إلى جوار أو حول الجامع، ثم تقام بعد ذلك الأحياء السكنية.
وتضيف المؤلفة: وكان لكل مجموعة من الحارات مرافق عامة مشتركة كالمسجد، والأسواق التي تباع فيها الخضراوات والفاكهة وغيرها، كما يوجد – أيضًا – حمامات عامة، ولم يكن الهدف من الذهاب إلى الحمام للنظافة فقط وإن كان هدفا أساسيا، ولكن – أيضًا – اللقاء بالأصدقاء والأقارب والترفيه.
وتتحدث المؤلفة عن القاهرة أثناء عصر السلطان الناصر محمد قائلة: عمر أثناء هذه الفترة العديد من الأحياء الجديدة خارج أسوار المدينة الفاطمية، وبلغت مساحة المدينة اتساعًا كبيرًا، وتزامن هذا الاتساع مع فترة حكم السلطان الناصر محمد بن قلاوون الذي لعب أيضًا دورًا مهمًا في تطوير المدينة بسبب سياساته في هذا المجال، وحبه للمباني وفن العمارة، فهو أول من أنشأ ديوانًا خاصًا بالمباني، سماه “ديوان العمائر” لتنظيم عمليات البناء وشيدت – فعلًا – العديد من المباني العامة في هذه الفترة من جوامع، ومدارس، وحمامات، وغير ذلك.
وتصل بنا المؤلفة إلى الحديث عن القاهرة في العصر الحديث، فتذكر أن الأمور المهمة التي شهدتها القاهرة – في القرن التاسع عشر – انتقال مركز السلطة من القلعة إلى أنحاء أخرى في المدينة وخارجها، بما في ذلك سكن الحاكم، والدواوين، والعسكر، فكان لكل هذه العوامل أثر مهم في حدوث اتساع عمراني بالقاهرة في عدة اتجاهات.
وأخيرًا، تقول المؤلفة: شيدت الأحياء الجديدة على نمط يخالف تمامًا النمط القديم المتبع في القاهرة حتى عصر محمد علي باشا، أي النمط المعتمد على الشارع العام الذي يذكر فيه العديد من الأنشطة الاقتصادية والمنافع العامة وتميز – أيضًا – شكل المباني في الأحياء الحديثة، واتبع النمط الغربي في البناء والمعروف أن محمد علي باشا قد أصدر أوامره بمنع إقامة المشربيات، وأن يستعمل الناس ألواح الزجاج على الشبابيك كما هو متبع في بلاد الغرب.
وبعد ذلك انتقلت الطبقة الحاكمة إلى الأحياء الحديثة الإنشاء: مثل “جاردن سيتي”، و”الزمالك” .. وهكذا، أصبح لا يوجد بالمدينة القديمة إلا الحرفيون ومحدودو الدخل، وقد أهملت هذه المناطق ومبانيها.
ويذكر أن كتاب “مصر أم الدنيا .. قصة القاهرة في 1300 عام” للكاتبة د. نللي حنا تصوير راندا شعث، صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.
_______
*ميدل إيست أونلاين

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *