أنوار الدين أم أنوار الحداثة؟



*هاشم صالح

يسعى هذا المقال إلى مقاربة هذه الإشكالية المركزية من خلال القيام بجولة بانورامية في عدة كتب فرنسية.

وأولها كتاب بعنوان: المسيح فيلسوفاً.
وهو للمفكر الفرنسي المرموق فريدريك لونوار.
وعلى عكس ما يوحي به العنوان فهو ليس كتابا لرجل دين تقليدي متعصب لدينه بطبيعة الحال.
وانما هو كتاب لفيلسوف علماني يشرح فيه جوهر الدين أو جوهر رسالة المسيح التي شوهتها الكنيسة الكاثوليكية البابوية أو طمستها طيلة عدة قرون قبل أن يظهر فلاسفة التنوير وينفضوا الغبار عنها من جديد ويبرزوها الى ساحة الضوء.
وهذا يعني أن فلاسفة الأنوار هم الذين جددوا مفهومنا للدين وليس رجال الدين أنفسهم.
كما يعني أنهم ما كانوا ضد الدين في المطلق على عكس ما يزعم خصومهم وانما ضد المفهوم التعصبي التكفيري للدين.
الكتاب يطرح أسئلة من النوع التالي: لماذا ولدت الفلسفة الديمقراطية وحقوق الإنسان في الغرب وليس في أي مكان آخر؟ لماذا ولدت في أوروبا وليس في الهند أو الصين أو الامبراطورية العثمانية؟
والجواب في رأي المؤلف هو: لأن الغرب كان مسيحياً ولأن المسيحية ليست فقط دينا.
صحيح أن الأنجيل ينغرس في عقيدة الايمان بالله كبقية أديان الكتاب الابراهيمية.
ولكن المسيح يعلم بالدرجة الأولى أخلاقا كونية بمتناول الجميع أو مفهومة من قبل الجميع.
وهذه الأخلاقية الكونية تتمثل في القيم التالية: المساواة في الكرامة الشخصية بين جميع البشر، العدالة والتشاطر في النعم والارزاق بين الأغنياء والفقراء،فلسفة اللاعنف، تحرير الفرد بالقياس الى الجماعة، تحرير المرأة بالقياس الى الرجل، حرية الاختيار، الفصل بين الدين والسياسة (ما لقيصر لقيصر وما لله لله)، الإخاء والتحابب بين البشر.
اعتراضات
اعتراض أول على المؤلف.
نود أن نسأله: اذا كانت قيم الحداثة كلها موجودة في المسيحية فما هو الشيء الذي أضافته فلسفة الأنوار اذن؟ هل يعقل ألا تكون الأزمنة الحديثة قد أضافت شيئاً الى الأزمنة القديمة؟
لا ريب في أن فلاسفة الأنوار كشفوا عن جوهر الدين المغطى تحت ركام من الخرافات التقليدية والتعصب الكنسي ومحاكم التفتيش السيئة الذكر.
هذا صحيح.
لقد نظفوا الدين من كل ما لحق به على مدار العصور من انحرافات وأوشاب.
ولكنهم أضافوا الى الدين المسيحي أفكارا جديدة ما كانت معروفة في العصور القديمة.
وأهم هذه الأفكار توسعة مفهوم الإنسان لكي يشمل جميع البشر وليس فقط الانسان المسيحي.
وهذه فكرة جديدة كليا وقد أتت بها الحداثة ولم تكن معروفة في العصور القديمة.
ربما كان المسيح ذاته يؤمن بها ولكن ليس أتباعه ولا كنيسته البابوية الرومانية.
هذا لا يعني بالطبع أن السيد المسيح لم يقم بثورة عظيمة على الفساد والاستبداد الكهنوتي لحاخامات اليهود.
أبدا لا.
.
والا لما قتلوه.
المسيح دفع ثمن أفكاره المثالية باهظا مثل سقراط.
انه شهيد الحق والحقيقة.
هذا شيء لا مجال للشك فيه.
ولكن تبقى ثورته ذات أفق ديني أخروي على عكس الثورات العلمانية الحديثة.
ألم يقل عبارته الشهيرة: مملكتي ليست من هذا العالم؟
أما نقطة الاعتراض الثانية على المؤلف، فهي أن القيم الأخلاقية المثالية ليست محصورة بالمسيحية وانما موجودة في الاسلام أيضا.
فالاسلام يحتوي على قيم تحريرية مشابهة ولكنها مطموسة تحت ركام من الحشو، وحشو الحشو، والانغلاقات التراثية.
ونحن بحاجة الى فلاسفة أنوار مسلمين قادرين على اخراج الجوهر من تحت الركام.
القرآن الكريم بحاجة الى قراءة جديدة وكذلك كل التراث الذي جاء بعده لكي نستطيع التوصل الى جوهر الاسلام الحقيقي.
وهو جوهر مخفي عن الأنظار حاليا بسبب زمجرات الأصوليين وفتاواهم التكفيرية الإرهابية التي ما أنزل الله بها من سلطان.
لونوار.
.
قوة المسيحية
يقول المؤلف في عرضه الشيق والصائب ما معناه:
ولكن هذه الثورة الأخلاقية الكبرى على الدين اليهودي المتكلس والمتحنط، الذي كان سائدا في زمن المسيح، سرعان ما خانتها الكنيسة بعد أن أصبحت المسيحية دين الدولة الرسمي، في القرن الرابع الميلادي على يد الامبراطور الروماني قسطنيطن مؤسس القسطنطينة التي أصبح اسمها لاحقاً اسطنبول، إحدى أجمل مدن العالم.
واستمرت هذه الخيانة طيلة ألف سنة حصلت أثناءها الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش والحروب المذهبية الطاحنة بين الفرق المسيحية وكل الانحرافات الاكليروسية المضادة لفلسفة المسيح ومبادئ الأنجيل الأولى.
ثم عادت هذه الفلسفة الانسانية الى الظهور مجدداً على يد عصر النهضة وعصر التنوير.
فقد اعتمد فلاسفة الأنوار على فلسفة المسيح كما يقول ايراسموس بغية تحرير المجتمعات الاوروبية من طغيان الكنيسة الكاثوليكية التي كانت تحكم باسم المسيح ضد المسيح ومبادئ الأنجيل ذاتها.
لقد انتفض فلاسفة الأنوار ضد هيمنة رجال الدين المسيحيين بغية تحرير الدين والشعب من براثنهم وتأسيس النزعة الانسانية الحديثة والايمان المستنير.
وهذا ما هو مطلوب من مفكري الشعوب العربية الآن.
والا فلا جدوى من انتفاضات (الربيع العربي) الذي لم نعد نتجرأ على ذكر اسمه بعد كل ما حصل على يد داعش وأخواتها.
.
نعم للايمان وألف نعم! ولكن مستضيئا بنور العلم والفلسفة.
ثم ينتقل المؤلف في الفصول الاخيرة الى التحدث عن كيفية انتقال الغرب من النزعة الانسانية المؤمنة الى النزعة الانسانية الملحدة.
وهنا يتوقف عند مفكري الالحاد الكبار من امثال اوغست كونت، وفويرباخ، وماركس، وفرويد، ونيتشه، الخ.
وهؤلاء ذهبوا مسافة أبعد من كانط وروسو وفولتير في نقد الدين.
لقد أطاحوا به كليا.
ولكن هذا لا يعني أن الحداثة كلها كانت الحادية مادية.
فالواقع أن كبار علماء الغرب وفلاسفته منقسمون الى قسمين كبيرين: مؤمنين وملحدين.
وبالتالي فهناك حداثة ايمانية وحداثة الحادية.
مثلا بول ريكور فيلسوف كبير ومؤمن كبير في ذات الوقت.
وهذا يعني أن أنوار الدين وأنوار الحداثة متكاملتان لا متضادتان.
.
فيري.
.

الدين والحداثة
أنتقل الآن الى كتاب ثان يكمل السابق ويعمقه أكثر فأكثر.
والواقع أن كليهما ضروري لفهم علاقة الدين بالحداثة الأولى والحداثة الثانية أو ما بعد الحداثة.
وهو بعنوان: أنوار الدين.

تأليف الفيلسوف جان مارك فيري.
أنه يطرح أسئلة من النوع التالي:
ما هي المكانة التي ينبغي أن نوليها اليوم للأديان في المجتمعات الديمقراطية الحديثة؟ هل لها مكان أم لا؟ ماالذي يمكن أن نأمله من الحوار بين المؤمنين/ وغير المؤمنين، أو المتدينين/ وغير المتدينين في مجتمع أصبح تعددي العقائد وعلمانيا؟ ما هو الدور الذي يمكن أن يلعبه الدين في حداثة القرن الحادي والعشرين؟
نلاحظ أن المؤلف يرفض العلمانوية المتطرفة الاستئصالية كما يرفض طغيان الاصوليات الدينية في آن معا.
انه يستعرض على مدار الكتاب شتى محطات التراث الفلسفي الذي كان دائما يأخذ المسألة الدينية على محمل الجد حتى وهو يتصدى للأديان.
وهو يرى أن الاديان ليست مضادة للحداثة بشرط أن تتخلى عن انغلاقاتها التعصبية ونزعاتها الطائفية والمذهبية الضيقة.
ثم بشرط أن تقبل قوانين اللعبة الديمقراطية فلا تفرض عقائدها المتحجرة على الجميع بالقوة كما كان يحصل في الماضي قبل انتصار الحداثة التنويرية.
اذا ما فعلت ذلك فإنها يمكن أن تقدم مساهمة ثمينة للحياة الاجتماعية وذلك لمصلحة الجميع.
ففي الدين روحانيات وقيم أخلاقية تضامنية عظيمة.
وهذا ما ينقص المجتمعات الرأسمالية الالحادية المتغطرسة التي لا تعبأ بالفقراء والمرميين على قارعة الطريق.
.
والكتاب يستعرض أيضا تلك العلاقة الصراعية بين الدين والحداثة منذ القرون الوسطى وحتى اليوم.
ونفهم من كلامه أن أنوار الحداثة لا تتعارض مع أنوار الدين بشرط أن نفهم الدين بشكل عقلاني حديث لا أصولي، طائفي، قديم.
وهذا الشرط غير متوافر حالياً الا في بلدان أوروبا المتقدمة.
ومشكلة العالم الإسلامي تكمن هنا بالضبط.
فما دام التفسير التنويري لرسالة القرآن الكريم والاسلام الحنيف غائبا فان الساحة ستظل مرتعاً لشيوخ التكفير والظلام.
والتحدي المطروح على كل المثقفين العرب هو التالي: كيف يمكن انتزاع التراث الاسلامي العظيم من أيدي الجهلة والمتطرفين؟ لا يمكن تحقيق ذلك الا اذا حصلت نقلة نوعية أو طفرة ثقافية لم يشهد لها العالم العربي مثيلا في تاريخه.
كل برامج التعليم التقليدي أو التكفيري للدين ينبغي أن تتغير وتحل محلها برامج جديدة منفتحة على قيم التسامح وعلى النظريات العلمية والفلسفية الحديثة.
ينبغي أن نخرج من انغلاقاتنا التراثية المزمنة التي تحتقر كل الأديان والعقائد الأخرى بشكل مسبق وحتى دون أي اطلاع.
ولكن ذلك لن يحصل الا بعد أن ينتصر التنويريون على الأصوليين في معركة فكرية طاحنة.
وهي معركة ستدور رحاها حتما في السنوات القادمة.
وبالتالي فالمعركة فكرية قبل أن تكون سياسية أو عسكرية.
مورنيه: استعادة الأصول
أما الكتاب الثالث والأخير الذي سأتوقف عنده فيحمل العنوان التالي: الأصول الفكرية للثورة الفرنسية.
وهو من تأليف البروفيسور دانييل مورنيه أستاذ الآداب الفرنسية في وقته.
وسأقول فورا ما يلي: يحق للفكر الفرنسي أن يحتفل بمرور ثمانين عاما على صدور هذا الكتاب الضخم الذي أصبح كلاسيكيا الآن.
فقد ظهر لأول مرة عام 1933 وطبع مؤخرا عام 2010 في طبعة أنيقة وحديثة.
وما بين هاتين الطبعتين طبع مرات عديدة على مدار ثمانين سنة من عمره الطويل.
وهذا دليل على أهميته وأنه لم يفقد قيمته على الرغم من تقادم الأيام والسنوات.
والا لما طبعوه مؤخرا في باريس وأخرجوه كل هذا الاخراج الفخم والجميل.
ما هي الأطروحة الأساسية للكتاب؟ عم يتحدث بالضبط؟ انه يشرح لنا الدور الذي لعبه فلاسفة الأنوار في اشعال الثورة الفرنسية.
فقبل اندلاع هذه الثورة السياسية الكبرى التي غيرت وجه العالم كانت هناك ثورة فكرية كبرى سبقتها ومهدت لها الطريق.
وهذا ما ينقص في رأيي ثورات الربيع العربي حاليا.
ولهذا السبب فشلت أو أجهضت.
لا ربيع سياسي بدون ربيع فكري.
وبالتالي فلكي نفهم العلاقة الحميمة بين الثورة الفكرية/ والثورة السياسية ينبغي أن نترجم هذا الكتاب الذي أصبح مباحا للجميع بسبب تقادم الزمن وسقوط حقوق المؤلف.
وأعتقد أنه عن طريق المقارنة الضدية يمكن لترجمته أن تشرح لنا بوضوح سبب الفرق الساطع بين نجاح الثورة الفرنسية من جهة/ والفشل الذريع لانتفاضات الربيع العربي من جهة أخرى.
هذا لا يعني أن انتفاضات الربيع العربي ليست مبررة أو مشروعة ضد أنظمة الطغيان البوليسي وكبت الحريات والفساد.
وانما يعني أن الثورات الجديدة بحاجة الى فكر جديد لا فكر قديم يكبلها ويجهضها ويعود بنا سنوات الى الوراء.
باختصار شديد نقول: ثورة سياسية بدون ثورة فكرية حبلها قصير.
هذا ما يقوله لنا الكتاب في نهاية المطاف.
وأكبر دليل على ذلك الثورة الايرانية.
فقد كانت عملاقة سياسيا وقزمة فكريا.
لماذا؟ لأنه لم يسبقها ولم يمهد لها أي تجديد حقيقي داخل الإسلام الشيعي على عكس الثورة الفرنسية التي سبقها تجديد راديكالي للمسيحية الكاثوليكية على يد فلاسفة الأنوار من فولتير الى جان جاك روسو الى ديدرو والموسوعيين.
.
.
وهذا ما يثبته كتاب دانييل مورنيه بكل تمكن واقتدار.
بالطبع ما قلناه عن ايران ينطبق أيضا على انتفاضات الربيع العربي.
فلم يسبقها أي تجديد يذكر داخل الفقه الاسلامي السني.
بل نلاحظ عودة الى الوراء، الى الانغلاقات اللاهوتية القروسطية التي تكفر ليس فقط الأديان الأخرى كاليهودية والمسيحية وانما المذاهب الاسلامية الأخرى أيضاً.
وهذا يعني أننا عدنا الى المربع الأول من جديد وربما الى نقطة الصفر.
فما دام التنوير الإسلامي مؤجلا أو ممنوعاً فلا حل ولاخلاص.
_______
*الاتحاد

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *