روبنز يعود بشاعريته وتوتره بعد أربعة قرون من الرحيل الأبدي


*عدنان حسين أحمد

لندن – تتهيأ الأكاديمية الملكية للفنون بلندن منذ مدة طويلة لإقامة معرض كبير للفنان الفلمنكي (نسبة إلى مقاطعة فلاندرس ببلجيكا) بيتر بول روبنز (1577 /1640)، الذي يُعدّ الأنموذج الصارخ للمدرسة الباروكية التي تتسم بالخيال الجامح، وتعوّل كثيرا على الحركة الزائدة، وتُعنى بالتوتر، وإظهار التفاصيل ذات الطابع الدرامي.

ليس الهدف من هذا المعرض هو إعادة عرض الأعمال الفنية المعروفة غالبيتها للنقاد والفنانين التشكيليين ومحبي هذا الفنان المتفرد الذي كرس جل حياته للخلق والإبداع الفنيين، وإنما إظهار تأثيره الواضح على عدد كبير من الفنانين الأوروبيين على مدى أربعة قرون. ومن بين هؤلاء الذين تأثروا بتقنياته وموضوعاته الفنية: أنتوني فان دايك، سيزان، تيرنر، كليمت وبيكاسو.
كما ينصب قسم من هذا التركيز على المناظر الطبيعية التي رسمها الفنانان البريطانيان جون كونستابل وتوماس غينزبره. وثمة محفز آخر دفع نيكو فان هاوت إلى الإسراع في إقامة هذا المعرض هو اكتشافه للوحة “اغتصاب بنات ليوسيبوس” لروبنز.
هذا العمل الفني الأصيل الذي حُذف من قائمة المعروضات منذ ستة عقود بحجة أنه زائف، كما ذهب المؤرخ الفني يوليوس هيلد، وهو الخبير بلوحات روبنز وفان دايك ورمبرانت.
لم يدقق هيلد في هذه اللوحة جيدا، فحكم عليها بالانزواء في ركن غرفة مظلمة طوال هذه المدة، ولولا زيارة نيكو فان هاوت إلى المتحف الوطني النرويجي لظلت هذه التحفة الفنية طيّ النسيان لعدة عقود قادمة.
ينقسم هذا المعرض إلى ستة أقسام رئيسية حسب الثيمات التي يعالجها روبنز في أعماله الفنية وهي: “الشعر، الأناقة، القوة، الشهوة، الحنوّ والعنف”.
لا يقتصر المعرض على لوحات روبنز فقط، وإنما يتعداها إلى لوحات أخرى كثيرة لفنانين أوروبيين كبار تأثروا به وهم فان دايك، أنطوان واتو، تيرنر، ديلاكروا، مانيه، سيزان، رينوار وبيكاسو.
لم يعمِّر روبنز طويلا فقد مات في الثانية والستين من عمره، لكنه كان فنانا غزير الإنتاج رسم البورتريهات وتألق فيها حتى كُرّم من قبل الملك الأسباني فيليب الرابع، والملك البريطاني تشارلس الأول. كما رسم المناظر الطبيعية وأضفى عليها من عنده الشيء الكثير فلا غرابة أن يتأثر به كبار الفنانين الأوروبيين، وعلى رأسهم كونستابل وغينزبره وتيرنر، وهؤلاء ثلاثتهم لهم بصماتهم الخاصة على المشهد الفني الــبريطـــاني من جهة والعالمي من جهة أخرى.
فكونستابل اشتهر برسم اللوحات الطبيعية للريف البريطاني مؤسسا للحركة الرومانتيكية الفنية. فكلمة الرسم، بالنسبة إليه، معادلة للمشاعر. أما غينزبره فقد ساهم إلى جانب ريتشارد ويلسون بتأسيس مدرسة خاصة بتصوير المناظر الطبيعية.
وكانت غالبية أعماله تتسم بالألوان الهادئة واللمسات الفنية البسيطة. فيما ذهب ثالثهم الملقب برسام الضوء الذي أعتبرت لوحاته مقدمة رومانسية مهمة أفضت إلى الانطباعية.
على الرغم من أهمية الحركة واللون والجانب الحسيّ الذي قد يتفاقم إلى مرحلة الشهوانية في لوحات روبنز، إلاّ أن القصة كلها لا تكمن في هذه الجوانب الثلاثة، مثلما لا تكمن القصة في البورتريهات والمناظر الطبيعية، وإنما تتعداها إلى الرسوم التاريخية والأسطورية والدينية والرمزية.
وقد صرّح ذات مرة في هذا الإطار بأنّ: “شغفه يأتي من السماء وليس من التأملات الأرضية”، الأمر الذي يضعنا في مواجهة مخيلته المتسامية التي قد تأتينا بصور عجائبية فيها الكثير من عناصر الدهشة والإبهار.
يمكن تتبع الكثير من تأثيرات روبنز على “المستحمات الثلاث” لسيزان أو لوحات غوستاف كليمت أو بقية الفنانين الأوروبيين الذين ذكرناهم توّا.
لا شك في أن روبنز نفسه قد تأثر هو الآخر بفنانين كبار أمثال الفلمنكي توبياس فيرهاخت وآدم فان نورت وأوتو فان فين، المعروفين بانتمائهم للمذهب المانيريزمي أمثال رفائيل ومايكل أنجلو، والذين يستعملون الأسلوب الكلاسيكي، لكنهم لم يتورعوا عن انتهاك قواعده.
لمّا تزل حسيّة روبنز تثير لغطا كبيرا بعد أربعة قرون من وفاته، حيث أتيح له أن يخلّد نساء جميلات يمتلكن أجساما بضّة ممتلئة، دفعت الكثيرين للشك بأن جمالهن يشكّل بعض أسباب نجاح لوحاته، متناسين أن ضربات فرشاته المميزة، هي التي كانت تُمسك بأسرار ذلك الجمال وبانفعالات موديلاته التي تعرف أن ثراءها البدني الباذخ، يكشف عن دواخل هذه الكائنات الأنثوية الصارخة الجمال.
يمكن القول بأن روبنز هو الرسام الشاعر أيضا، وثمة لوحات عديدة استوحاها من قصائد شعرية لعل أبرزها لوحة “حديقة الحب” لوليم بليك التي أنجزها عام 1633، وهي موجودة الآن في متحف “برادو” ومحطّ اهتمام النقاد والفنانين ورواد الفن التشكيلي.
يعتقد القائمون على المعرض الذي سوف يفتتح في 24 من يناير القادم ويستمرّ إلى غاية 10 أبريل 2015 بأن لوحات روبنز، وبالذات الحسية منها، لا تزال تشكل تحديا لكبار الفنانين المعاصرين الذين يرسمون الأجساد الأنثوية الممتلئة.
ويبذلون قصارى جهدهم بغية تقليد الدرجات اللونية لبشراتهن المثيرة التي تنطوي على قدر كبير من التوهّج، الذي لا نعرف إن كان مصدره أجساد النساء الشقراوات، أم وهج الغريزة الذي يتسلل عبر ضربات فرشاته الساحرة التي سوف تظل تبهر الألباب والعقول.
______
*العرب

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *