*مهند يعقوب
لقد توفي قاسم الشعبان بالنسبة لي مرات عديدة، وفي كل مرة كان يموت فيها يرجع مليئاً بالحياة أكثر. تنقل النسوة في القرية أن أم قاسم لما ولدته خرج ومعه ورقة صبار صغيرة، لذا نبت له أنف كبير يشبه ثمرة الصبار الشوكي.
لقاسم الشعبان صبية جميلة وابن أخرس يعمل حارساً للغابة في الجهة المقابلة للقرية. ويعود سبب خرس ابن قاسم الشعبان أنه التهم الكثير من الحجارة في طفولته لذا خرج وصوته يشبه صوت الخبز اليابس، بينما أخته كانت فارعة وطرية لانها ولدت في البستان.
أخرس قاسم الشعبان لا يجيد غير لفظة “آس” و”مور”، وهذه الكلمات تعني لا تقترب. وهي رسائل تحذير لمن يحاول الدخول الى تلك الغابة التي تحوي أشجار الكالبتوز وبعض الاشاعات عن وجود حيوانات كالأسد والقرد والغزال.
القرى في الجنوب العراقي مصانع كبيرة للخيال والأساطير، حتى أنك تستطيع أن تميز مداخنها بسهولة. وفي الحقيقة لا توجد مثل هكذا حيوانات في الغابة، والقرد الوحيد الموجود فيها هو أخرس قاسم الشعبان فقط.
أتذكر المرة الأولى التي مات فيها العجوز قاسم الشعبان عندما أفلتنا أنا وأخي من بين أصابعه مثل صابونة، أثناء محاولته إمساكنا ونحن نتسلق بعض نخلاته في القرية. لقد اختارني كطريدة صغيرة او ربما لاني كنت قريباً من ابنته وهي تضحك. كان يجري خلفي بسرعة تصل الى سرعة الزرافة، بينما كنتُ أسرع منه لدرجة كدت أصدق أنني أحد فهود تلك الغابة.
المغامرة في بعض المواقف تجعلك تقفز الى المستحيل، وتحولك الى حيوان سريع وهلامي دون أن تشعر بذلك. لقد كنتُ أتلوى بين مشارب البساتين لدرجة اني دوخته من الانعطافات والصعود والنزول، وما كان من تلك الحركات إلا وقادته لأن يرتطم باحدى النخلات ارتطاماً عنيفاً ومدوياً.
لم يترك هذا الحادث منه غير كومة من الملابس وصيحات خافتة بالوعيد وبعض الشتائم. كنتُ وقتها قد وصلت الى حافة القرية، منتصراً وسعيداً بضحكات الصبية التي ملأت نفسي، بينما قاسم الشعبان أخذ يزيل رماد ميتته الأولى وينهض.
______
*العالم الجديد