*جان فرانسوا دورتيي / ترجمة: محمد مروان
«هل اللغة قابلة للتحليل بواسطة الآلة؟ هل أوفت الترجمة الآلية بوعودها بعد خمسين عاماً من انطلاقها؟ في الواقع ، الحصيلة متواضعة، فالمعالجة النحوية شكَّلت موضوعاً لنمذجات عديدة، كل واحدة منها لم تعمل على حلّ سوى جزء يسير من مشكلات النظام التركيبي»
يصطدم الباحثون في المعالجة الآلية (الأوتوماتيكية) للغة بنوعين من العوائق: الأول يتمثَّل في إنشاء نحوٍ كونيّ قادر على إعادة بناء نظام الجملة. والثاني يتعلَّق ببلوغ معنى الكلمات. هذه الصعوبات تسمح لنا- بشكل لا يخلو من مفارقة- بإدراك أبعاد التركيب الغريب للغة، وكذلك ارتباطها بالفكر.
إن الترجمة الآلية، والمعالجة الآلية للغة الطبيعية، بشكل أعمّ، هي برنامج ضخم للبحث، عَبَّأ- منذ خمسة عقود من الآن- المتخصِّصين في العلوم المعرفية: اللسانيين، علماء المعلوميات، علماء النفس، في العالم بأسره.
لقد احتدّت الرهانات الاقتصادية، الاستراتيجية، والعلمية مع تضاعف التبادلات الثقافية، الاقتصادية، والتكنولوجية بين الدول. والترجمة الآلية هي إمكانية خفض التكاليف المرتبطة بالمبادلات التجارية، ومضاعفة بثّ بعض المعلومات (برقيات الوكالات، نصوص علمية، مجلّات، وجرائد)، وإدماج قوالب للترجمة في معالجات النص. هذا الرهان أصبح مركزياً مع الإنترنت، حيث أصبحت المعلومات في المتناول، من أي نقطة في المعمورة، وبجميع اللغات تقريباً.
إننا نتوافر- منذ الآن- على أنظمة معلوماتية للترجمة معروضة في السوق. هذه الأنظمة يستخدمها أصحاب الوكالات والمؤسَّسات التجارية لترجمة توثيقهم التقني، أو بيانات الأرصاد الجوية، وبرقيات الوكالة، أولأهداف العناية والمراقبة التقنية أيضاً. هل يعني هذا أنه، بعد فترة قصيرة، سيتمّ حلّ المشكل بشكل تامّ؟ يجيب المتخصِّصون بالنفي. فبعد خمسين سنة من بداية الأبحاث في الترجمة الآلية، مازلنا بعيدين عن الهدف. ولعل تجربة بسيطة، يمكن أن نقوم بها نحن أنفسنا على الإنترنت، تكشف عن ذلك بوضوح. لقد أدّت المعالجة الآلية للغة إلى مآزق غير متوقَّعة. وخلف الصعوبة التقنية ظاهرياً لمكننة أو (تَألية) اللغة طرحت مجموعة من القضايا والمشاكل النظرية التي تمسّ طبيعة اللغة الإنسانية ذاتها وعلاقاتها بالفكر.
المحاولات الأولى للترجمة الآلية:
ترجع المحاولات الأولى للترجمة الآلية إلى أكثر من نصف قرن. فبعد الدراسات الرائدة التي قام بها الروسي سمير نوف تروجانسكي منذ الثلاثينيات (من القرن العشرين)، كان لابد من انتظار ما بعد الحرب العالمية في الولايات المتحدة حتى نرى استخدام المعلوميات الناشئة في أهداف الترجمة.
كان الهدف عاديّاً، فالأجهزة السرّيّة الأميركية كانت تحلم، آنذاك، بنظام قادر على الترجمة السريعة، وبأقلّ تكلفة للاتِّصالات المرصودة لدى السوفيات. وفقاً لهذا المنظور في التجسُّس، ساد الاعتقاد بأن الترجمة تصدر عن المنطق المتعلق بفكّ الشيفرات السرّية نفسه. وكانت فكرة المهندسين المفتقرين لأي تكوين في اللسانيات تستند إلى مبدأ بسيط: يكفي تزويد الحاسوب بقاموس مزدوج جيِّد وبنحوَيْن: نحو اللغة المصدر (اللغة موضوع الترجمة)، ونحو اللغة الهدف (اللغة المتلقِّية)، حتى نصل بسهولة إلى إنجاز ترجمة جيدة. إن ترجمة جملة من قبيل «الرئيس منشغل الآن، إنه يستقبل متدربة» لا تطرح حالياً صعوبة كبيرة بالنسبة لآلة ما. يكفي استبدال كلمة بأخرى، ثم، عند اقتضاء الحاجة، إعادة ترتيب الكلمات داخل الجملة. هذه هي الطريقة المُطَبَّقة، طبعاً، على بنيات جمل بسيطة جداً. كشفت- مع ذلك، وبسرعة- عن نواقص بما نسبته ٪98 من الجمل المتداولة: تلك التي نقرؤها في الجرائد أو المقالات الصحافية، أو التي نسمعها في المذياع أو الهاتف، وبالفعل، ستظهر، سريعاً، مشكلتان خطيرتان حقيقيتان: الأولى ذات طابع نحوي، والأخرى تتعلَّق بالدلالة.
إن المثال التالي يكفي لتوضيح طبيعة الصعوبات التي تعترضنا في أثناء ترجمة جملة بسيطة من الفرنسية إلى الإنجليزية:
هذه قصة حب = C’EST UNE HISTOIRE
D’AMOUR=THAT’ S A LOVE STORY
سيصطدم مترجم آلي بكلمة «HISTOIRE» التي لها مرادفان في الإنجليزية: «STORY» (قصة) أو «HISTORY» (تاريخ). هنا، فإن كلمة STORY (قصة) هي المناسبة. إلا أن الاختيار السليم والأنسب يفرض بلوغ معنى الجملة. وهذا هو التحدّي الأول المطروح على المتخصِّصين في اللغة: كيف نُعَلِّم الآلة أن تتعرَّف معنى الكلمات، وأن تختار الكلمة المناسبة في الحالات التي فيها خلاف أو التباس؟ مشكلة كبيرة أخرى تنضاف إلى ذلك، وتتعلَّق بالترتيب النحوي السليم لجملة من قبيل: «?POUR QUI TU VOTERAS» أي «لصالح من ستــصـوِّت؟». بالإنجـلــيزية: «?WHO WILL YOU VOTE FOR» فهي تفرض قلباً شاملاً لترتيب الكلمات، ومعلوم أن عملية كهذه لا تكون ممكنة إلا بعد تحليل مختلف مكوِّنات الجملة ووظائفها. هذا العائق الثاني يرتبط بالتركيب (LA SYNTAX). سيتمّ التوجُّه- إذاً- نحو اللسانيين، اعتقاداً بأنهم سيتجاوزون بسهولة، صعوبات من هذا النوع. ألن يكفي أن نكشف عن المبادئ التي تحكم تركيب دلالة الجملة حتى نحلّ هذه المشكلة؟ كانت اللسانيات آنذاك قد دخلت مرحلة جديدة: إنها مرحلة النحويات الصورية التي ستحدث ثورة في المجال.
في منتصف الخمسينيات (من القرن العشرين) انكبَّ عدد من اللسانيين مثل ييهوشوا بار-هيلل، وزيليغ هاريس، وأحد ألمع تلامذته نعوم تشومسكي الشاب، على إنشاء نحويات بهدف اقتراح تحليل منطقي مطابق وصحيح للجملة.
هذه اللسانيات الجديدة تقوم على فكرة وجود بنية عميقة تحكم إنشاء الجمل، وتسمح بفهم نظامها. وهذه البنية العميقة لا تتناسب مع تلك التي تصفها النحويات المتداولة والمسمّاة «نحويات السطح». إن الجمل- تبعاً لهذه النحويات التحويلية- تُبنى على بضعة مكوِّنات أساسية (مركَّب فعلي، مركَّب اسمي…) تتسلسل، تنتظم وتتغيَّر بحسب نظام تراتبي من أجل تركيب جميع الجمل الممكنة. هدف النحويات الجديدة- إذاً- يمكن أن يقارن بالتحليل الكيميائي: نحلِّل الجملة تماماً كما نحلِّل جسماً كيميائياً إلى جزئيات وذرّات مترابطة ببضعة قوانين فيزيائية.
هذه الفرضية تقوم على مجموعة من المُسَلَّمات: الأولى، إن العديد من الجمل مبنيّة على أساليب مشتركة في البناء. وهكذا فجمل مثل «يقرأ بيير كتاباً في التاريخ» و«يقرأ أخ بيير بعناية كتاباً في التاريخ أعاره إياه صديقه جان» تنتظمان وفق البناء المنطقي نفسه. المُسَلَّمة الثانية تتمثِّل في أنه يمكن، عن طريق القلب والاستبدال أو التحويل لمكونات جملة معينة، الحصول على قضية أو عبارة أخرى، مثال ذلك الجملة «يغني بول أغنية» نحصل من خلالها على الجملة «غُنِّيت الجملة من طرف بول» والتي ليست إلا بديلاً عن الأولى.
لقد أضاف نعوم تشومسكي إلى هذه النظرية النحوية فرضيات أخرى. ففي كتابه الأول «البنى التركيبية» (1957) أكَّد- مبدئياً- استقلال النحو إزاء علم الدلالة، أو، بعبارة أخرى، أكَّد أن إنشاء أو تركيب الجمل لا يرتبط بمضمون الكلمات، دليل ذلك أن جملة مثل «ينضج الطين جيداً على حقيبتك» هي جملة صحيحة نحوياً رغم أنها خِلوٌ من المعنى. وعكس ذلك صحيح أيضاً، حيث هناك جمل خاطئة نحوياً، لكننا مع ذلك نفهم معناها. مثال ذلك الجملة «الشرس الكلب نبح».
كان تشومسكي يفترض- أيضاً – ضرورة وجود نحو كوني في الأصل يقوم على عدد مُحَدَّد من القواعد الأساسية، ويقدر على توليد جميع المنطوقات في جميع لغات العالم. هذا النحو الكوني سيكون نتيجة قدرة فطرية خاصّة بالدماغ البشري.
إننا نقدر أهمّيّة هذه النظرية من حيث ما يمكن أن تقدِّمه للترجمة الآلية. ذلك أنه، إذا تَمَّ الكشف عن هذه «البنية العميقة» سيكون من اليسير جداً صياغة برامج معلوماتية قادرة على فكّ ونسخ وترجمة جميع عبارات اللغة «الطبيعية».
ومنذ الستينات(من القرن العشرين) انخرط عدد كبير من الباحثين في هذا المسار، حيث سنشهد ازدهار عدد كبير من النحويات الجديدة.
مقاومات غير مُتَوَقّعة:
سيظهر المشكل- بالفعل- أعقد مما تَمَّ توقُّعه. كانت النماذج المستوحاة من النحويات التوليدية والتحويلية قادرة،طبعاً، على الأخذ بعين الاعتبار بعض مظاهر «البنية العميقة» لكن، كانت هناك دوماً جمل متمرِّدة وأمثلة مضادّة لا تندرج ضمن إطار الأنموذج المقترح (1). ولعل هذا ما أدى بنعوم تشومسكي إلى تعديل نظريته مرات عديدة: فبعد أن صاغ نظريته المعيار خلال الستينيات (من القرن العشرين)، اقترح نظرية معيار موسَّعة بعد عقود من ذلك، ثم نظرية المبادئ والمعلمات، وحديثاً، حَدَّد برنامجاً جديداً يسمح- في حدوده الدنيا- بتقليص الطموحات وتبسيط أنموذجه الأصلي.
بالتوازي مع برنامج تشومسكي، انخرط باحثون آخرون في نماذج بديلة مثل النحويات التوحيدية. إلا أن هذه الأخيرة، اصطدمت هي الأخرى بمشاكل مماثلة: صعوبة إيجاد نحوٍ موحَّد بالنسبة إلى مختلف اللغات.
واليوم، وبعد أربعين سنة من الأبحاث الحثيثة والعنيدة، لا زال المشكل قائماً. لا يوجد نحوٌ كونيّ (صالح لجميع أنواع اللغة والمنطوقات). هل يعني ذلك، أن برنامج البحث هذا هو مأزق لا مخرج له ؟ ليس تماماً. كل ما هنالك أن جميع النماذج المتوافرة تبقى جزئية: إنها لا تحلّ إلا جزءاً محدوداً من المشاكل المطروحة. «رغم التطوُّرات التي حصلت خلال السنوات الأخيرة، فإنه لا وجود، بعد، لآلة مُحَلِّلة للغة عامة، أي آلة تكون تغطيتها واسعة بما يكفي. بحيث نكون متأكِّدين من أن جميع الأساليب والصيغ اللغوية تكون قابلة للمعالجة بواسطة الوسائل المتوافرة» تقول كاثرين فوش المتخصِّصة في المجال : النتيجة: إننا نتوافر على ترسانة من النماذج والقواعد ذات قيمة غير كونية.
في البحث عن معنى
من بين الفرضيّات المربكة التي صاغها تشومسكي، والتي شكَّلت عائقاً في وجه النحويات الصورية، أن هذه الأخيرة كان يجب أن تكون مستقلّة عن علم الدلالة. ومعلوم أنه، منذ الستينيات(من القرن العشرين) ظهرت اعتراضات قوية لدى تلامذة تشومسكي على هذه الفرضية.
إن البحث الدلالي، بالنسبة للمتخصّصين في الترجمة الآلية، مَثَّلَ مشكلة نوعية يجب حلّها في سائر الأحوال. فسواءأ تمكَّنّا من التعرُّف إلى قوانين التركيب النحوي للجملة والمستقل عن المعنى أم لم نتمكَّن، فإنه من الواجب- أيضاً- ترجمة الكلمات بشكل سليم. وهذا يفترض إدراك معانيها. كيف يمكن- مثلاً – ترجمة الكلمة الإنجليزية «LANGUAGE» واللغة الفرنسية تتوافر على مرادفين: LANGUE (لسان) وLANGAGE (لغة)، دون معرفة المعنى الحقيقي؟ الجواب هو أنه كان يجب تزويد الآلة بمحلِّل للمعاني، قادر على إفهام الآلة دلالة الكلمات.
هكذا ستتَّجه الأبحاث في هذا المسار ابتداء من السبعينيات (من القرن العشرين)، فكان أوّل من اقترح حلّاً أمام هذا التحدّي هو روس كيليان، باحث شاب في جامعة كارنجي- ميلون. هذا الطالب من شعبة السوسيولوجيا كان- بالفعل- شغوفاً في اهتمامه بالحواسيب. ما حلمه؟ استخدام الآلة على شكل شبكة شاسعة جداً، من أجل برمجة ملايين التداعيات التي تربط المفاهيم في ذاكرتنا. وفي أطروحته المنجزة تحت إشراف هربرت سيمون، والمخصَّصة للترجمة الآلية، سيظهر الحل للمرة الأولى: يتعلَّق الأمر بالشبكة الدلالية. إن الهدف من شبكة دلالية ما هو أن نزوِّد الحاسوب بمعارف مرتبطة بالنصوص التي عليه أن يعالجها. تكمن هذه التقنية في أن نقرن مفهوماً ما (إنسان، شجرة، مفتاح…) بعدد من الخصائص المرتبطة به (مفتاح، قطعة معدنية، ترتبط بالباب…) والتي تمنحه معنى محدَّداً. هكذا نتمكَّن من أن ننسج حول كل مفهوم_ مفتاح مجموعة من السمات التي تمثِّل إحدى خصائصه. هذه السمات(مثلاً: عصفور هي سمة مقترنة بالببغاء) ترتبط بدورها بمجموعة من المعلومات. ومجموع هذه الشبكة من المعلومات- كما تَمَّ إنشاؤها- يعكس تمثُّلاً معيَّناً للعالم: نتحدَّث في اللغة التقنية عن تمثُّل المعارف.
تسمح هذه الطرق برفع بعض الالتباسات وازدواجية المعنى بالنسبة للترجمة، وببلوغ المعنى بالنسبة للحاسوب. هكذا، فإن تقنية الشبكة الدلالية تمكِّن من حلّ مشكل الازدواجية أمام جملة من قبيل: JE MANGE UNE SALADE D’AVOCATS» (أتناول سَلَطة ثمرة المحامي)، حيث كلمة AVOCAT تُتَرْجَم هنا في الإنجليزية إلى AVOCADO (الثمرة) ولا LAWYER (المحامي). يكفي أن نزوِّد الحاسوب بمعلومة أن AVOCADO فاكهة تؤكل، وليست المحامي (رجل القانون).
لقد نظر إلى الشبكات الدلالية، منذ أواسط السبعينيات، على أنها حلّ ممكن لمعالجة مسائل الدلالة أو المعنى، لكن هنا- أيضاً- ستظهر سريعاً مجموعة من الصعوبات. وبالفعل، تبيّن توّاً أن الشبكات لا تستطيع صياغة جميع الترجمات الممكنة لأنه كان لا بدّ من خلق عدد من العلاقات اللانهائية بين كلمات اللسان.(2)
ما العصفور؟
إن الفرضية الضمنية التي تقوم عليها الشبكات الدلالية في الواقع، هي أنه يمكننا تجزيء العالم إلى مقولات محكمة، حيث يمتلك كل مفهوم شيء مجموعة من الخصائص المحدَّدة التي يمكن تمييزها ببعض السمات. إلا أن الأمر لم يكن دائماً كذلك.
من السهل أن نعلِّمَ آلةً أن «العصفور» حيوان، له أجنحة، يطير، له منقار، يبيض…إلخ. لكن هذا لا ينطبق على تعريف الكتكوت الذي ليست له أجنحة بعد ولا يطير. كما أن الكيوي لا أجنحة له، والنعامة لا تطير.
من أجل ترجمة عبارة بسيطة ظاهرياً مثل «IL PREND LA BALLE ET LA LANCE» (يأخذ الكرة ويرميها)، نواجه مشاكل صعبة على مستوى الازدواجية الدلالية، والتي لا تستطيع منهجية الشبكات الدلالية حلّها. والواقع أن الترجمة الإنجليزية البديهية «HE TAKES THE BALL AND THROWS IT» تفترض ترجمة «LA LANCE» بـ «THROWS IT» وليس بـ «THE SPEAR» (رمح المحارب)، وهي ترجمة أخرى ممكنة، والحال أن الفهم الجيد لهذه الجملة يفترض إحالة إلى سياق معطى أو محدَّد: فنحن نوجد في مجتمع غربي، حيث الرماح (JAVELOTS- الرماية) ليست أشياء مألوفة ومتداوَلة. في سياق آخر (رواية مغامرة مثلاً)، يمكن أن تأخذ الكلمة معنى آخر. إن هذا السياق الاجتماعي والثقافي هو- بالضبط- ما يمنح معنى معيَّناً لبعض الكلمات، والذي يصعب استنباطه عن طريق الشبكة الدلالية.
من أجل مواجهة هذا النوع من الحالات المرتبطة بالحياة العادية، تَمَّ الاهتداء إلى تقنيات أخرى: تقنية الأطر (المرجعية)، الخطاطات النموذجية الأصلية، البيانات، المخطوطات المفاهيمية. إن النماذج الأصلية التي ابتكرها إليونور روش- أواسط السبعينيات- هي أنماط لتمثّل المعارف من خلال ربط كلمة (عصفور، مثلاً) بأنموذج نوعي(الطير الجاثم أو الصقر) له خصائص معروفة. أما البيانات التي أنشأها، في المرحلة نفسها، اللساني روجي شانك فهي مجموعة من المعلومات التي تختزل الخصائص المرتبطة بوضعية جارية معروفة: هكذا، فـ LES GARÇONS الذين نجدهم في المقاهي هم نوادل (WAITRES)= (SERVEURS)، وليسوا LES BOYS (الأطفال) الذين نجدهم في الحضانة. والأُطُر، في المؤسِّسات أو المقاولات، هم مسؤولون عن مصلحة وليسوا أُطُر لوحات…إلخ. نظرية البيانات هذه، تفترض- إذاً- تبعية مفاهيمية لمعنى كلمة ما بالنسبة للسياق، والنحو بالنسبة للدلالة. كما ظهرت حديثاً نماذج أخرى، مثل المخطوطات المفاهيمية مع ج. صوا J.SOWA، وكذلك عدد كبير من التغييرات في أنساق تمثُّل المعارف.
رغم هذه النماذج الجديدة، ظل المشكل قائماً، فتعلُّم معاني الكلمات لم يكن ليتمّ إلا في إطار محدود لعالم مصغَّر، أي مجال خاص. أصبح من الممكن أن نترجم نصاً بشكل سليم، لكن شرط التقيُّد بالعالم الدلالي الشحيح لمجال خاص، مثل بيان الأرصاد الجوية، توثيق تقني، أو أيضاً عقد قانوني مكتوب بلغة إدارية.
يمكن القول أخيراً، إن البحث الدلالي قد عرف- إذاً- تطوُّراً موازياً لتطوُّر النحو: هناك تناسل للنماذج، حيث كان كل واحد منها ينتج عن مشاكل جديدة، لكنها كانت جميعها محدودة.
لقد أصبح المتخصِّصون، شيئاً فشيئاً، مرتابين إزاء القدرة على إيجاد محلِّل عام للمعنى. خاصة وأن اللغة ملفوفة بالتعبيرات المجازية، والكلمات المحرَّفة عن معناها أو التي يتطوَّر معناها، ويتغيَّر تبعاً للسياق.
هل اللغة قابلة للتحليل بواسطة الآلة؟ هل أوفت الترجمة الآلية بوعودها بعد خمسين عاماً من انطلاقها؟ في الواقع، الحصيلة متواضعة. فالمعالجة النحوية شكَّلت موضوعاً لنمذجات عديدة، كل واحدة منها لم تعمل على حَلّ سوى جزء يسير من مشكلات النظام التركيبي.
أما في مجال علم الدلالة، وبفضل أنساق تمثّل المعارف (الشبكات الدلالية، البيانات، النماذج الأصلية…الخ)، فقد تَمَّ اكتشاف طريقة لبلوغ نوع من العمق الدلالي. لكن، مع ذلك، لا تكون الترجمة سليمة إلا في مجالات خاصة للتطبيق (نصوص تجارية، قانونية، تقنية)، وانطلاقاً من صيغ نحوية ابتدائية وبسيطة. إن اختلاف المعنى ومرونته في اللغة العادية، وبالأحرى في النصوص الأدبية، سرعان ما يكشفان عن نقص الآلات.
يمكن أن نتساءل حول ما إذا كان الجمع بين مختلف النماذج النحوية والدلالية محدودة التطبيق، هو الطريق الذي يجب اتِّباعه للدفع قُدُماً بالترجمة. بعبارة أخرى، ألا يجب البحث عن تمفصل لمختلف المناهج (تقنيات تمثُّلات المعارف والقواعد النحوية)، بدل السعي وراء خلق محلِّل شرطي عام للدلالة أو النحو الكوني؟ إنها فرضية مقبولة ظاهرياً، إلا أنها تفترض أن نكون على علم بالقاعدة التي سنستدعيها بكل دراية وتبصُّر، وهذا ما نعجز عن القيام به. إن صعوبات الترجمة الآلية تطرح قضايا أساسية حول طبيعة اللغة ذاتها. هل مَكْننة أو (تألية) الخطاب مُمْكنة؟ الجواب ليس حاسماً. فقد كتب موريس غروس، أحد المتخصِّصين الفرنسيين المتميِّزين في الترجمة الآلية، يقول «بعض الأنشطة العقلية العليا تحتوي على مظاهر آلية» وهي التي نستطيع- فعلاً، وبسهولة- إنجازها بواسطة آلة ما. لكن، هل سنتمكَّن من مَكننة أو (تألية) جميع الأنشطة اللغوية؟ بعد نصف قرن من الأبحاث «لا يوجد أي دليل نظري يسمح بالتفكير في ذلك، اليوم» ،يستنتج الكاتب نفسه. إذا كانت الترجمة الآلية قد عجزت عن بلوغ أهدافها، فإن أول مكسب حقَّقته، مع ذلك، هو أنها أخضعت النظريات اللسانية لاختبارات تجريبية محرجة. لقد مكَّنتنا خمسون سنة من الأبحاث والتجارب من أن نعرف الكثير عن الطابع المعقَّد لنظام اللغة، وارتباطاتها التي لا تقبل الفصل مع الفكر، وسياقات استعمالها، وعلى الخصوص، مناطق الظل الكثيرة التي يجب الكشف عنها وتوضيحها.
الثورة اللسانية مستمرّة:
سنة 1957، عمل تشومسكي، على تثوير اللسانيات ببرنامجه في النحو التوليدي، وهو نوع من (علم) جبر كوني للغة الإنسانية. إلى أين وصلنا بعد ذلك؟ لقد شاءت الأقدار أن يكون نعوم تشومسكي، وهو في سنّ الخامسة والعشرين، على متن باخرة حين خطر له الحدس الأساسي الذي سيقوده إلى صياغة نظريته في النحو التوليدي.
تصرِّح نظرية تشومسكي، التي صاغها أول مرّة في «البنى التركيبية» (1957)، بأن هناك نحواً عميقاً للغة، صالحاً لجميع اللغات، وقابلاً للاختزال في عدد صغير من قواعد الإنتاج. إن الطفل لا يتعلم قواعد النحو. فهو ، بفعل تشكٌّله بواسطة الثقافة، لا يعمل إلا على تجسيد قدرة خاصة بالنوع البشري في إطار لغة معينة: تتمثَّل هذه القدرة في إنتاج منطوقات صحيحة نحوياً.
وأخذاً بعين الاعتبار لبعض الانتقادات ومآزق هذا الأنموذج، وأيضاً ما استفاده من خلال تطبيقه على عدد من اللغات، اقترح تشومسكي، خلال الثمانينات، نظرية جديدة هي «نظرية المبادئ والمعلمات» المتمركزة حول «النحو الكوني».
في مطلع التسعينيات سيطرأ تحوُّل جديد في فكر تشومسكي، وذلك مع «البرنامج الاختزالي» الذي يهدف إلى تبسيط أنموذج أصبح معقَّداً نوعاً ما، لأنه يفرض عدداً من الفرضيات التكميلية وقوالب خاصّة على درجة كبرى من الأهمّيّة. إن الطابع التقني المفرط للتطوُّرات، وصعوبة إنشاء نماذج صالحة للعديد من اللغات، وتوالي التعديلات في الصيغ، كل هذا أدّى بعدد من الباحثين المتخصِّصين في الترجمة الآلية إلى التخلّي عن النحو التوليدي لصالح النماذج المعلوماتية أو قواعد النحو المُسَمّاة (توحيدية). هكذا، أصبحت اليوم الأعمال التي دشَّنها تشومسكي حبيسة مجال البحث النظري. لكن تشومسكي، من حيث هو كاتب غزير الإنتاج ومثقَّف ملتزم، وفي الوقت نفسه الذي كان فيه ينقِّح ويطوِّر أنموذجه اللساني، لم يكفّ عن مناظرة وسائط الاتّصال، والإمبريالية الأميركية، وأضرار الاقتصاد الليبرالي. ومؤلِّفاته، تجاوزت اليوم خمسين كتاباً.
هوامش:
*العنوان الأصلي للمقال والمصدر:
LES LIMITES DE LA TRADUCTION AUTOMATIQUE. JEAN-FRANÇOIS DORTIER. ARTICLE DE LA RUBRIQUE «ENJEUX PENSÉE ET LANGAGE». L’IMAGINAIRE CONTEMPORAIN. MENSUEL N° 90 – JANVIER 1999
SCIENCESHUMAINES.COM
-1 هكذا توجد جمل عنيدة ومستعصية مثل الجمل التي لافعل لها «ATTENTION PETIT» (حذار أيّها الفتى)، أو الجمل ذات الفعلين «المعلومياتي يأكل ويذهب إلى بيته» = «LINFORMATICIEN MANGE ET PART CHEZ LUI». حيث إن تنضيد الفعلين لا يسمح بإعادة بناء نظام تراتبي على أساس قواعد النحو التحويلي.
-2 لا يزال هذا المشكل قائماً رغم النتائج المتقدِّمة التي تقترحها برامج الترجمة الآلية المتوافرة حالياً، سواء البرمجيات المستقلّة أو خدمات الترجمة المدمجة في قوائم محرِّكات البحث الشهيرة. (المترجم).
________
*الدوحة