هدى شعراوي وتحرير المرأة


*مصطفى نصر

مجتمع ما قبل ثورة يوليو 52، كان يبدي اهتماما عاليا بالفوارق بين الطبقات، خاصة في مسألة الزواج. فيهمه أن يتم الزواج بين أفراد الطبقة الواحدة المتجانسة. ويطلقون على المولود الذي يأتي نتيجة التزاوج بين أفراد طبقتين مختلفتين؛ لفظ “بزرميط”، وتحول ذلك الوصف إلى سب ولعنة. فلو قالها فرد لآخر، قامت الدنيا وربما حدث قتيل وأكثر.

تناول المجتمع حكاية الصراع بين الشيخ علي يوسف – من جهة – وأسرة الشيخ السادات ومعه الكثير من الشعب المصري، لأن الشيخ علي يوسف الذي ينحدر من أصول فقيرة، قد تجرّأ وخطب ابنة الشيخ السادات الذي ينتمي لأسرة عريقة ذات جاه قديم.
وفرق القاضي الشيخ أبوخطوة بين الزوجين لأن علي يوسف كان فقيرا، وغناه الحالي لا يمحو عار فقره القديم (هذا ما قاله الشيخ أبوخطوة في أحد أسباب رفض الزواج) وذكر توفيق الحكيم في روايته الرائعة “عودة الروح” البدوي الذي يريد أن يقتل فلاحا، لأنه جرؤ وتجاسر وجاء ليخطب ابنته.
واهتمت أفلام كثيرة جدا بهذه المسألة، منها: ليلى بنت الفقراء، أول فيلم يخرجه أنور وجدي، وليلى بنت الأكابر وهذا جناه أبي وغيرها.
وتطلب أم كلثوم في عام 1947 من مصطفى أمين أن يكتب لها قصة فيلمها الجديد. وحبسته في بيتها لحين الانتهاء من الكتابة، فتذكر حادثة هزت المجتمع المصري عامي 1924 و1925 وكتب عنها في كتابه “مسائل شخصية”. تذكر المطربة فاطمة سري، المرأة الجميلة الشهية التي دعتها صاحبة العصمة – هدى شعراوي – إلى حفل في قصرها، فغنت:
بدال ما تسهر على قهوة
تعالى نشوي أبو فروة
بيتك مع عيلتك أولى
من لعب الطاولة
ما غنته فاطمة سري يتفق مع ما تنادي به هدى شعراوي من الاهتمام بالأسرة المصرية، فقد نادت برفع السن الأدنى للزواج للذكور والإناث، وسعت لوضع قيود للطلاق من طرف واحد والحد من ظاهرة تعدد الزوجات، وأيدت تعليم المرأة وعملها المهني والسياسي، ودعت إلى خلع غطاء الوجه وقامت بخلعه علنا وأمام الناس.
أعجب الكثير بما غنته المطربة فاطمة سري، لكن محمد باشا (ابن هدى شعراوي) أعجب أكثر بجمالها، فاقترب منها وصافحها، وبعد صد طويل منها، تمت العلاقة بينهما وتم الزواج العرفي.
أعطاها ورقة يعترف فيها بأنها زوجته. لكن طليقها أحس، فأخذ ولديه منها، وثار وسب فاطمة سري. فانتشر الخبر، ووصل إلى الصحفيين، فأحس الباشا محمد شعراوي بالخوف، فكيف سيواجه أمه، وهو يعرف أن زواجاً مثل هذا قد يميتها كمدا، فتقابل مع فاطمة سري وطلب منها أن ينهي هذه العلاقة، وكتب لها شيكا بمبلغ كبير جدا، لكنها ثارت ومزقت الشيك وداست عليه بقدميها، وأعلنت بأنها لا تريد من الدنيا سواه. فتراجع الرجل واعتذر لها، وقال إنه أيضا لا يستطيع أن يعيش بدونها.
وبعد أيام قلائل أحست بأشياء في جسدها توحي بأنها حامل، وأكد لها الطبيب هذا. كان الباشا محمد شعراوي حائرا بين حبه لفاطمة سري وضعفه أمامها، وبين تقديره لأمه وخوفه عليها من أن تؤثر فعلته هذه على صحتها. فكان متقلبا، إذا ابتعد عن فاطمة سري، يخطط للانتهاء من هذه العلاقة، وإذا تقابلا يبدي رغبته في أن يعيشا معا إلى الأبد.
وفي محاولة من محاولاتها الكثيرة في إجهاض نفسها، كادت أن تموت؛ فأسرع محمد شعراوي إليها وجلس تحت قدميها ولكي يثبت لها حسن نيته كتب لها الإقرار التالي:
أقرُّ أنا الموقع على هذا محمد على شعراوي نجل المرحوم على باشا شعراوي، من ذوي الأملاك، ويقيم بالمنزل رقم 2 بشارع قصر النيل قسم عابدين، إنني تزوجت الست فاطمة كريمة المرحوم “سيد بيك المرواني” المشهورة باسم “فاطمة سري” من تاريخ أول سبتمبر سنة 1924 ألف وتسعمائة وأربعة وعشرين أفرنكية، وعاشرتها معاشرة الأزواج، وما زلت معاشراً لها إلى الآن، وقد حملتْ مني مستكناً في بطنها الآن، فإذا انفصل فهذا ابني، وهذا إقرار مني بذلك. وأنا متصف بكافة الأوصاف المعتبرة بصحة الإقرار شرعاً وقانوناً، وهذا الإقرار حجة عليَّ تطبيقاً للمادة 135 من لائحة المحاكم الشرعية، وإن كان عقد زواجي بها لم يعتبر، إلا أنَّه صحيح شرعي مستوف لجميع شرائط عقد الزواج المعتبرة شرعاً.
محمد علي شعراوي القاهرة في 15 يونيو1925
وأنجبت فاطمة سري من محمد باشا شعراوي ابنتهما ليلى، وعلمت الأم بالكارثة التي حلت بالأسرة العريقة، فحاولت رشوة الزوجة التي تمسكت بزوجها. فهددتها هدي شعراوي بأنها ستسلط عليها بوليس الآداب.
ذلك ما تذكره مصطفى أمين فكتب قصة فيلم “فاطمة” وكان يجب أن يضيف إليه كلمة سري، ليعلم الجميع إنه يقصد علاقتها بالباشا ابن الباشا.
فاطمة في الفيلم ليست مطربة، وإنما ممرضة ذهبت إلى قصر باشا كبير لتعطيه الحقن وتشرف على علاجه. ذلك الباشا هو المقابل للسيدة هدى شعراوي. فرآها شقيقه الأصغر (فتحي) فأحبها وزارها في بيتها المتواضع في أحد أحياء القاهرة الشعبية. وأنجب منها طفلا، لكن أخاه الكبير أجبره على التخلص منها وعدم الاعتراف بابنه.
كانت أم كلثوم تغني في الفيلم، وتعبر عما يجيش في صدرها غناء. وكانت فاطمة سري تغني أيضا تأثرا بالأحداث التي تمر بها، فعندما يتنكر الباشا لها تغني له:
أنا بس ساكتالك
حايجيلك يوم طول بالك
لما يروق عقلي وبالي
حايجيلك يوم تترجاني
وأشوف أنا إزاي تنساني
وأتقل عليك طول بالك
بكره فؤادك يتلوع وأجيلك أنا واتدلع
وتطلب الوصل، أتمنع واتقل عليك
طول بالك.
تصاعد الصراع بين المرأتين هدي شعراوي التي كانت في ذلك الوقت في الخامسة والأربعين وفاطمة سري كانت في العشرين تقريبا. لم تمر السنوات الثلاث على خلع هدى شعراوي لغطاء وجهها، ومطالبتها بحقوق المرأة، حتى وضعتها الأقدار في امتحان عصيب، فهاهي تظلم امرأة تزوجت وأنجبت من ابنها.
في الفيلم يستخدم الباشا – شقيق الزوج – ماله وجاهه وسلطانه للنيل من فتاة فقيرة، لم تخطئ. فيسرق العقد العرفي الذي وقعه أخوه، ويتهم الفتاة الشريفة في عرضها، نفس الذي فعله محمد شعراوي. فقد طلب من زوجته ورقة الزواج العرفي، فأعطته ورقة مصطنعة بالزنكوغراف.
وفي الفيلم يطالب الزوج (فتحي) بالورقة لإثبات حسن نية زوجته، فيأخذ صبي المحامي – ابن الحي الفقير؛ الورقة ويذهب بها للزنكوغراف لكي يصنع ورقة مثلها، لتقدمها فاطمة لزوجها، لكن الزنكوفراجي، يأخذ الورقة الأصلية ويسلمها للباشا مقابل الثمن، ويسلم لفاطمة الورقة المصطنعة، وعندما تقدم للمحكمة يكتشف القاضي التزوير.
لا شك أن مصطفى أمين كان يعرف الحقيقة. يعرف أن فاطمة سري قد أرسلت خطابا تستعطف فيه هدى شعراوي المدافعة عن حق وحرية المرأة:
“إنَّ اعتقادي بك وبعدلك ودفاعك عن حق المرأة؛ يدفعني إلى التقدم إليكِ طالبة الإنصاف، وبذلك تقدمين للعالم برهاناً على صدق دفاعك عن حق المرأة، ويمكنك حقيقة أن تسيري على رأس النساء مطالبة بحقوقهن، ولو كان الأمر قاصراً عليَّ لما أحرجت مركزك، فأنت أم تخافين على ولدك العزيز أن تلعب به أيدي النساء وتخافين على مستقبله من عشرتهن، وعلى سمعته من أن يقال إنَّه تزوَّج امرأة كانت فيما مضى من الزمان تغني على المسارح، ولك حق إن عجزتِ عن تقديم ذلك البرهان الصارم على نفسك؛ لأنَّه يصيب من عظمتك وجاهك وشرف عائلتك، كما تظنون يا معشر الأغنياء، ولكن هناك طفلة مسكينة هي ابنتي وحفيدتك، إنَّ نجلك العزيز، والله يعلم، وهو يعلم، ومن يلقي عليها نظرة واحدة يعلم ويتحقق من أنَّها لم تدنس ولادتها بدم آخر، والله شهيد، طالبت بحق هذه الطفلة المعترف بها ابنك كتابياً، قبل أن يتحوَّل عني وينكرها وينكرني، فلم أجد من يسمع لندائي، وما مطالبتي بحقها وحقي كزوجة طامعة فيما لكم، كلا! “
وتمهلها الزوجة المكلومة أسبوعا لا أكثر لكي تعود المياه لمجاريها، وإلا اتجهت إلى طريق آخر أكثر وعورة.
في الفيلم تخسر فاطمة القضية بسبب خيانة الزنكوغرافجي، لكن فتحي (الزوج) يكتشف أن فاطمة لا تستحق منه هذا، فهي أشرف من الفتاة التي يريد له أخوه أن يتزوجها، فيعود إلى فاطمة وإلى ابنه منها، ويعود إلى الحي الشعبي في زفة وتغني أم كلثوم “نصرة قوية”.
لكن هدى شعراوي يستفزها تهديد فاطمة سري. فتنسى كل ما أدعته عن تحرير المرأة، فتعاديها في كل مكان تذهب إليه. لكن المحكمة الشرعية تحكم بنسب ليلى إلى والدها محمد باشا شعراوي. فتهدأ هدى شعراوي وترضى بالهزيمة. ولكي تكيد فاطمة سري؛ أصرت على أن يتزوج ابنها من امرأة من أسرة عريقة، فينجب منها ثم يختلف معها ويطلقها، ويتزوج من راقصة اسمها أحلام ولكن بعد موت أمه محررة المرأة.
________
*ميدل إيست أونلاين

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *