*د. محمد أبو هاشم محجوب
الإبداع بالعربية في مجال العلوم الإنسانية في العالم العربي قليل وشحيح ونادر ——– لن أتحدّث عن الإبداع في مجال العلوم الإنسانية بصفة مجرّدة؛ وذلك لأنّ الإحاطة بمثل هذه الظّاهرة أمر يخرج عن حدود هذا المقال الموجز.
وإنما سأحدُّه من نواح عدّة، أولاها المجالُ الجغرافي، حيث لا يتعلق الأمر إلا بما ينتج أو يترجم في العالم العربي، وثانيتها اللّغة، حيث لا يعنيني من هذا الإبداع إلاّ المكتوب أصلاً باللّغة العربية أو باللّغة الفرنسية.
وثالثتها أنّ الإبداع المقصود لا يعنيني إلا من جهة ما هو مترجم أو قابل للترجمة بين اللغتين المذكورتين.
ورابعتها أنّ هذا الإبداع المترجم أو القابل للتّرجمة لا يعنيني إلاّ من جهة ما هو في علاقة بالنّشر – نُشر أم لم يُنشر.
———- يبدو أنّ ترجمة الإبداع في مجال العلوم الإنسانيّة إلى اللّغات العالمية شحيحة، غير ذات دلالة.
وعلى العكس من ذلك، فإنّ ترجمة الدّراسات في مجال العلوم الإنسانية من الفرنسية إلى العربية تبدو حركة أكثر تدفّقاً وانسياباً.
سيكون علينا إذن أن نعطي أوّلاً حيثيات هذا الوضع، ثم أن نلتمس له تفسيراً، وأخيراً أن نقترح له آفاق حلول ممكنة.
إنّ مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية مجال واسع: يتراوح من نظريات النّقد الأدبي إلى الاجتماع بمختلف تلاوينه وموضوعاته، إلى علم النّفس، إلى الفلسفة، إلى التاريخ، إلى الاقتصاد، والعلوم القانونية، إلى العلوم السياسية، والدراسات الاستراتيجية.
.
.
ولكن ميزته الرئيسية هي أنه، تبعا لطبيعة موضوعاته، مجال سريع التحوّل لا يكاد الأمر يستقرّ فيه على معرفة من المعارف أو على قانون من القوانين حتى تكذبه للتوّ معرفة أخرى مستجدّة ومجدّدة.
ثمة واقعان إذن لا يمكن الخروج عنهما: واقع الإبداع بالعربية في مجال العلوم الإنسانية في العالم العربي من جهة ترجمته إلى الفرنسية من قبل العرب أنفسهم أو من قبل الفرنكوفونيين من جهة، و واقع الإبداع باللّغة الفرنسية في مجال العلوم الإنسانية (داخل العالم العربي وداخل العالم الفرنكوفوني) وترجمة هذا الإبداع إلى العربية من الجهة الأخرى.
وأوّل ما يمكن ملاحظته في هذا الصّدد هو أنّه بقدر ما يمكننا أن نتحدّث عن إبداع حديث ومعاصر في مجال العلوم الإنسانيّة داخل العالم الفرانكفوني، فإنّ الإبداع بالعربية في مجال العلوم الإنسانية في العالم العربي قليل، شحيح، نادر.
ذلك ما يفسّر مثلاً أنّ لجنة «جائزة ابن خلدون سنغور للتّرجمة في العلوم الإنسانية» تجد أقصى الصّعوبات في الحصول في كل دورة على عدد من التّرشيحات يسمح بأن تكون قاعدة الانتقاء واسعة ومريحة وذات مصداقية.
وذلك ما يفسّر من جهة ثانية توفّر عدد أكثر من التّرجمات في الاتجاه العكسي، دون أن يعني توفّرها هذا أنها تتناسب مع ما ينتظره، خاصة مع ما يحتاج إليه من تلك الترجمات القارئ العربي.
ولكنّ حركة التّرجمة، مهما كان المجال الذي نعتبره لتقييمها، هي أولاً وأخيراً حركة تبادل.
وقد يكون من المفيد أن نفهم من الجهتين أهمية التقريب بين كفتي هذا التبادل على نحو يقلل من عدم التوازن؛ لأنّ ذلك هو شرط الحوار الحقيقي والتّثاقف المثمر.
حال الإبداع سأنطلق من ملاحظات بسيطة تتعلق بإنتاج المعرفة في مجال العلوم الإنسانية في العالم العربي: عندما كتب عبدالله العروي كتابه الذي عرف به وأثر به وتشكل له به جمهور قراء، أعني كتابه: الإيديولوجيا العربية المعاصرة، فإنّه حرره أول أمره بالفرنسية تحت عنوان: (L’idéologie arabe contemporaine ــ الإيديولوجيا العربية المعاصرة) ونشره في 1973 في دار ماسبيرو الفرنسية.
وعندما كتب هشام جعيط في 1974 كتابه، الذي ابتدأت به شهرته، أعني كتاب (الشخصيةُ العربيةُ الإسلامية وصيرورتُهاــ La Personnalité et le devenir arabo-islamique)، وكذلك سلسلة كتبه الأخرى عن الكوفة وعن الفتنة الكبرى وعن حياة محمد أخيراً، فإنه ظل يكتبها بالفرنسية، وإن كان يترجمها أو يكلف من يترجمها لاحقاً إلى العربية.
وهذه الملاحظة نفسها يمكنها أن تمتدّ إلى أنور عبد المالك، وسمير أمين، ونصيف نصّار، وعبد الوهاب بوحديبة، وغيرهم.
وفي الوقت نفسه، فإنّ حركة الإبداع الأدبي في العالم العربي – رغم ظاهرة الأدب المغاربي الناطق بالفرنسية – ظلت وما تزال حركة نشيطة وبالعربية: «فالأدب شديد الارتباط باللّغة وبالانتماء القومي، إذ يساهم في بناء هويته الثقافية، أمّا المعرفة العلمية فلا تتنازل عن طابعها كمعرفة عابرة للقوميات، وتميل إلى تبني لغة مشتركة متفاوتة الصورية»، تلعب ضمنها اللغات ذاتُ الرصيد العلمي الدّور نفسه الذي كانت لعبته اللاتينية في أوروبا الناهضة أو العربية في الإمبراطورية العباسية أو في بعض أزمنة الأندلس (1).
.
فثمة ارتباط وثيق بين إثبات الهوية وتكريس الحامل اللغوي من خلال الأدب والشعر، لا من خلال العلوم، لا سيما العلوم الإنسانية، نظراً لكون هذه الأخيرة مضطرةً كمعرفة إلى تجاوز منطق اللغة/ الهوية.
إن الإبداع الحقيقي هو خلق لفرادة: ولكن تلك الفرادة لا تتأتى من الخصوصية وإنما من لقاء الخصوصية بالكونية أو بالكلّي.
لذلك فالإبداع الأدبي الحقيقي هو الإبداع من لغتنا، ومن خصوصيتنا الثقافية ضمن الإنساني بما هو كلّي كلّ ثقافة أو بما هو مفهومُها المرجعي والتّعديلي.
وليست ترجمة الأدب من اللّغة التي كتب بها إلى لغات العالم إلا تعبيرا عن كونيته الحاصلة بعدُ من مخاطبته الإنسانيَّ في عين لغته الخصوصية.
الإبداع الأدبي كونيّ منذ لغته لأنه التقى في لغته تلك بالإنساني وحدّد تبعا لذلك الالتقاء هويته التي هي فرادته.
ولكنّ الإبداع في العلوم الإنسانية الذي يخضع – إذا سمح لنا بهذه العبارة – للتركيبة الكيميائية نفسها، أعني لتزاوج الخصوصي والكوني، ليس عنصرُه الخصوصي هو لغتَه، بل إنّ عنصر الخصوصية فيه هو عنصر الظاهرة التي يدرسها من جهة كونها مثلا ظاهرة هذا المجتمع المخصوص الذي تؤدّي دراسته إلى صياغته ضمن قوانين علم الاجتماع، أو ظاهرة هذا التاريخ المخصوص بأحداثه وانعطافاته وزمانيته، الذي تؤدّي دراسته إلى صياغته ضمن الفلسفة العامّة للتاريخ، أو ظاهرة هذا السلوك الذي تؤدّي دراسته المنهجية إلى صياغته ضمن البارديغما العامّ كأحد نماذج السلوك القابلة للتّوصيف والتفسير.
ليست مسألة اللّغة ضمن العلوم الإنسانية محددة لعلمية تلك العلوم ولا لطابع الإبداع فيها مثلما كانت اللّغة المخصوصة في الإبداع الأدبي معطية لكونيته من خلال لقائها بالإنساني مخاطَباً لها.
وإنما اللّغة في مجال العلوم الإنسانية حامل تواصلي فقط.
ولذلك فإنّ الكتابة باللغة المحلية ليست في حد ذاتها عائقا أمام تواصليتها؛ لأنها يمكن أن تترجم، وليست الكتابة باللغات غير المحلية وحتى بلغات «العلوم»، كما يقال اليوم (مثلاً الفرنسية أو الإنجليزية وربما غيرهما مستقبلاً) ضامناً لتواصلية تلك الكتابة، أي لتناقلها ولترجمتها إلى اللّغات المحلية المختلفة.
الإبداع العلمي، في مجال العلوم الإنسانية، حاصل من رفع الظاهرة الخصوصية التي يدرسها إلى كلية المعيار المنهجي للبحث، بما يتحقق به كمعرفة علمية عامة.
فالإبداع الأدبي يترجَم إذن لأنّه عبارة هوية ذات فرادة صيغت في اللغة حاملا جوهريا لها، والإبداع في العلوم الإنسانية يترجم؛ لأنه معرفةٌ ذات فرادة صيغت من عنصر خصوصية الظّاهرة الإنسانية التي رفعها المنهج والبحث إلى معيار المعرفة الكلية، مهما كانت اللغة الحاملة لها.
في الحالة الأولى يترجم الإبداع؛ لأنّه هويّة فريدة، وفي الحالة الثّانية يترجم الإبداع العلمي في مجال العلوم الإنسانية، لأنّه معرفة كلّية.
فمتى توافر شرط علمية المعرفة، بدت كتابة العلوم الإنسانية باللّغات المحلّية معيقة لتواصليتها المباشرة.
ولذلك هي تحتاج إلى الترجمة بحثاً عن الاعتراف وعن المدخل إلى الجماعة العلمية التي تتداولها.
ومتى توافر الشرط نفسه، بدت كتابة العلوم الإنسانية باللغات العلمية المستقرّة مطلوبة الترجمة إلى اللغات المحلية بحثاً عن الاستفادة والاعتبار والتعلم.
هذه هي الحال التي نصف بين العربية والفرنسية في مجال العلوم الإنسانية إبداعاً وترجمة.
ولئن لم تكن الفرنسية مرجع لغات الإبداع في العلوم الإنسانية، إذ هي مسبوقة باللغة الإنجليزية في بعض العلوم، وبالألمانية في بعضها الآخر، فإنّ الفرنسية مع ذلك مرجع من مراجع العربية في مجال الترجمة عنها.
ولكنّ التّبادل بينهما كما سبّقنا غير متكافئ.
عناصر المشهد
أولاً: إبداع ذو بال في مجال العلوم الإنسانية بالفرنسية وترجمة محدودة جدّا إلى العربية: يمكن الرجوع في هذا المجال إلى مصادر متنوعة ليس أقلّها تقرير المركز الوطني للكتاب في فرنسا في نسخته الصّادرة سنة 2012 بعناية السيدة ماريان ليفي روزنفالد (Marianne Lévy-Rosenwald)، أو فهرس الترجمات ذائعُ الصيت (Index translationum)، وكذلك مقالات السيدة جيزال سابيرو ضمن كتابها: (Translatio, le marché de la traduction en France à l’heure de la mondialisation )، الصادر في باريس سنة 2008: وتفيد المعطيات الواردة وهي معطيات مبثوثة في ثنايا المراجع التي ذكرنا وفي غيرها مما لم نذكر، بأن مجمل الإنتاج الفرنسي في مجال العلوم الإنسانية يتوزع كما يلي: ارتفع العدد الإجمالي للعناوين التي تم نشرها في مجال العلوم الإنسانية من (8883) عنواناً سنة 2005 إلى (11099) عنوانا سنة 2010، وذلك ضمن مجموع عامّ من المنشورات يقدّر بـ (50.
000 ) كتاب سنوياً.
حال الترجمة تبدو الترجمة العربية شحيحة جداً للأعمال الفرنسية في مجال العلوم الإنسانية، وتشير الإحصائيّات المتوافرة لدينا إلى أن عدد الكتب المترجمة من الفرنسية إلى العربية على مدى 12 سنة امتدت من سنة 1996 إلى سنة 2008، بلغ 771 كتابا في مختلف الاختصاصات وليس فقط في مجال العلوم الإنسانية.
وفي مقابل ذلك، يشير فهرس «الأندكس ترانسلاسيونوم» إلى أنّ جملة التّرجمات من العربية إلى الفرنسية في مجالات العلوم الإنسانية المختلفة قد بلغ بين سنتي 2000 و2012 ما يناهز 154 كتاباً، أي بمعدّل 13 كتاباً سنوياً.
ومع أنّنا لم نتمكّن من رصد العدد الإجمالي للكتب المنتجة في العلوم الإنسانية لغياب قواعد البيانات التي تهتم بجمع هذه المعطيات، فإن جملة من الملاحظات التّعديلية تبدو ضرورية في هذا المجال، منها: إن النّشر العربي يحشُر ضمن مجال العلوم الإنسانية كتبا لا يفرق ضمنها بين البحوث الجديدة المبتكرة وبين الكتب التّراثية أو القديمة.
هكذا رشحت اللّجنة – في باب الترجمة إلى الفرنسية – كتبا من تراث العلوم الإنسانية وحتى من ما قبل تاريخها: «التّعريف برحلة ابن خلدون» – «جواهر المعاني».
.
إلخ.
وباستثناء كتاب الراحل محمد عابد الجابري عن العقل السياسي في الإسلام، وهو كتاب معاصر، فإنّ جميع الدورات السابقة قد أجازت كتبا تنتمي إلى التراث.
ولا شكّ في أنّ الإحصائيات المتاحة ليست دائما بالدّقة المطلوبة.
فـ (الأندكس ترنسلاسيونوم)، مثلاً، لا يدرج معطيات كلّ البلدان العربية وهو على كل حال لا يدرج من المعطيات إلا ما وقع إمداده بها، مما يبقينا تحت رحمة شُحّ مصادر المعلومات.
إلاّ أن الدّراسة الكيفية تؤكّد أنّ ترجمة العلوم الإنسانية إلى العربية تضع الدراسات الفلسفية واللسانية والحضارية في مقدمة ما يترجم.
ولكن نسق هذه الترجمات قد أخذ في التسارع في الآونة الأخيرة، وهو ما لاحظه مثلاً ريشارد جاكمون في مقال له صدر في مجلّة العربية والترجمة سنة 2010، حيث عدّد مؤسّسات التّرجمة المستحدثة أخيراً، التي رفّعت بالضّرورة في عدد الكتب المترجمة لا سيما من اللغات الأجنبية بما في ذلك الفرنسية.
وكلّ ملاحظ يرى اليوم أن نسق نشر الترجمات العربية لمؤلفات العلوم الإنسانية يتزايد مع تزايد مؤسسات الترجمة ودور النّشر.
ولكنّ نسق التّرجمة في الاتجاه العكسي يظلّ دون المأمول: ويرجع ذلك إلى سببين رئيسيين في تقديري: الأول أن نسق إنتاج المعرفة المتفرّدة، والجديرة، في مجال العلوم الإنسانية هو نسق بطيء جدّا ونادر.
فإمّا أنّ الإنتاج الجدّي والجدير بالترجمة هو إنتاج يكتب مباشرة باللغة الفرنسية أو بغيرها من اللّغات، مما يجعل ترجمته العربية التي غالبا ما يحرص عليها المؤلّفون العرب أنفسهم، يندرج في باب ترجمة المعرفة الواردة لا في باب ترجمة المعرفة الصّادرة.
ومن أجود النّصوص التي قرأتها في السنة الأخيرة كتاب عبدالله العروي «الإصلاح والسنة».
ولكنّ صاحبه قد كتبه بالفرنسية أولا ثم عربه – هو نفسه – في حين أن مادّته وموضوعه وروحه هي إعادة قراءة إصلاحية للرّسالة المحمدية، ستجد صدى لها في ما أقدم عليه العروي نفسه منذ سنة تقريباً من ترجمة نص روسو: (Profession de foi du vicaire savoyard) تحت عنوان: «دين الفطرة».
وإما أن الإنتاج الذي يكتب بالعربية لا يبلغ إلى تلك «الفرادة» التي تحدثنا عنها في بداية هذه الورقة، مما يجعل ترجمته إلى الفرنسية أو إلى غيرها من اللغات، عملاً غير مطلوب.
والثاني أنّ ترجمة الندرة المعرفية أو لنقل الموجود المعرفي في مجال العلوم الإنسانية هو من شأن القارئ الفرنسي ودار النشر الفرنسية والمترجم الفرنسي.
ولم تُبين تجربة التّرجمة الذاتية للكتب الذاتية إلى اللّغات الأجنبية لا سيما الفرنسية نجاعة كبرى.
فمعيار ترشيح الكتاب الذي يُترجَم من قبل من يكتب، يتغير تماماً إذا كان قرار التّرجمة بيد المتلقّي والقارئ الأجنبي الفرنسي.
حال النشر ثمة وضع متحيّر للنشر من الجانبين، وتشير المعطيات التي يقدّمها المركز الوطني الفرنسي للكتاب (Centre National du Livre) إلى قلّة شجاعة قطاع النّشر العمومي والخاصّ في ما يتعلّق بنشر التّرجمات، وهو لذلك يؤكّد أهمّية مجهودات الدّعم المالي للنّشر: فأولا أصبحت الحاجة إلى الترجمة متأكدة نظراً لتناقص عدد قراء الفرنسية خارج فرنسا: لذلك جاء في التّقرير أنّه: «يبدو من المحتمل أن يؤدّي هذا التطور مستقبلاً إلى فقدان حقيقي للتأثير الفرنسي في النّقاشات الفكرية، إذا لم يتمّ التعويض عنه بزيادة في الترجمات».
ولذلك تعمد الدولة الفرنسية إلى تخصيص اعتمادات لا يستهان بها إلى ملحقياتها الثقافية لا سيما في البلدان العربية المعنية بالترجمة من الفرنسية للتشجيع على التّرجمة إلى العربية وكذلك على النّشر (P.
A.
P.
).
وهذه الوضعيةُ دالّةٌ طبعاً على تحير وضع النشر في البلدان العربية.
ولكن ذلك لا يمكن أن لا يبعث على التساؤل عما إذا لم تكن الترجمة من الفرنسية إلى العربية في هذه الحال تابعة لتقلبات الدعم المالي الفرنسي وهو دعم يشهد منذ سنوات تناقصا مفهوما يرتبط بالأزمة الاقتصادية.
إلا أنّ الوضع ليس أحسن في فرنسا نفسها: ثمة نوع من التوجس من المغامرة، ولعل ذلك هو الذي يفسر التردد في وضع برامجَ للترجمة من العربية في مجال العلوم الإنسانية : ومن الأكيد أن أيّ ناشر عادي سيفضّل برمجة عنوان من تراث العلوم الإنسانية (الفلسفة العربية الوسيطة مثلاً) على مقاربة فلسفية حديثة.
سيكون حساب الجدوى المضمونة هو الفيصل الذي يحمل الناشرين على تفضيل كتاب مضمون الرواج على كتاب قد يكون جيداً، ولكنه غير مؤكد الرّواج.
وفي الوقت نفسه، فإنّ إقدام بعض الدّول العربية على بعث مؤسّسات تجمع بين التّرجمة والنشر سيساهم – وهو بعدُ يساهمُ – في تقوية الترجمة ولكن إلى العربية.
هذه هي ملامح وضع العلوم الإنسانية إبداعاً وترجمة ونشرا في العالم العربي بين العربية والفرنسية، والتي يمكن حوصلة أهم خصائصه إجمالاً، في: إبداع معرفي بالعربية مدعوٌّ إلى التّطوّر في مجال العلوم الإنسانية، ولكنّه مدعوٌّ كذلك إلى التّعريف بنفسه عبر وساطة التّرجمةِ – الفرنسيةِ هاهنا – مقابل إبداع معرفي وفير في فرنسا وباللّغة الفرنسية، تتزايد حاجته إلى البلوغ إلى القراء عبر وساطة الترجمة في المقابل، ترجمةٌ من الفرنسية إلى العربية بدأت في التيقّظ: لم نشر إلى صعوباتها الذاتية الطّارئة التي ليس أقلَّها بدايةُ تلاشي الكفاءة اللغوية الفرنسية وانعدام تامٌّ لإطار التنسيق بين المترجمين ولاسيما من حيث المصطلح وفوضى المصطلح وحتى من حيث اقتصاد المجهود بعدم المجازفة بترجمة ما قد تُرجم من قبل ما لم يكن ثمة مبرِّر لذلك، وأخيراً نشر تعوقُه الإمكاناتُ الماليةُ وتنقصه مسالك التوزيع ولا تفي بحاجياته برامج الدّعم والتّمويل التي تظلّ محدودة رغم كلّ شيء.
آفاق ومقترحات
لا شك في أنه من الوجيه تشخيص إشكاليات الترجمة في العالم العربي والعالم الفرنكوفوني في علاقتها بالإبداع المعرفي وبالنشر والانتشار، ضمن براديغم السّوق.
فالترجمة تخضع كأيّ تبادل إلى أنموذج التبادل التّجاري القائم على الإنتاج الذاتي.
ويطرح ذلك على الترجمة مهام أساسية منها: خلق الحاجة: ولا سبيل لخلق الحاجة إلا بالتعريف بموضوع الحاجة.
لا يوجد حتى اليوم كتاب أو مجلة على غرار London Review of Books، أو La Revue Internationale des livres et des Idées تعرف بالإبداع العربي في مجال العلوم الإنسانية.
فالمقترح هو بعث مجلة دولية سنوية انتقائية تتولى التعريف بالعربية وبالفرنسية – وبالإنجليزية – بأهمّ إبداعات العلوم الإنسانية في العالم العربي من خلال مقالات أو مقتطفات ممثلة لهذه الإبداعات.
والمقترح هو كذلك متابعة الدّوريات المماثلة بالفرنسية – وفي مجال آخر سنقول كذلك بالإنجليزية – وترجمتها أو ترجمة مقتطفات منها إلى العربية، وذلك لقيادة الناشرين في رسم استراتيجيات ترجماتهم بصفة علمية.
فواجب الحقيقة – التي هي كما قال أرسطو أحبُّ إلينا من الأصحاب- يقتضي أن نقرّ بأن الغالبية العظمى من ناشرينا يعملون من دون لجنة نشر ومن دون هيئة علمية استشارية.
وهذه هي الطامّة الكبرى.
والمقترح هو كذلك متابعةُ الإبداع المعرفي الجادّ والمتفرّد في مجال العلوم الإنسانية والمكتوب بالعربية من أجل التّشجيع على ترجمته إلى الفرنسية في فرنسا وفي البلدان الفرنكوفونية بوسائل مختلفة ومن بينها الدّعم المالي للتّرجمة.
فمن دور المنظّمة في ما نقدّر أن تقوم هي أيضاً برصد اعتمادات تشجيعية على الترجمة في مجال العلوم الإنسانية إلى الفرنسية ولو كان ذلك بوسائل محدودة في البداية.
والمقترح هو كذلك تشجيع دور النّشر على عقد اتّفاقيات تبادل حقوق الترجمة في هذا الاتجاه وذاك.
وأخيراً، فإنه لا بد من الاعتراف بأنّ قدر العلوم الإنسانية – وهي في الحقيقة المجال الحقيقي للتفكير في أيّة أمّة من الأمم – إن قدر هذه العلوم هو قدر متفاوت في البلدان العربية: ذلك أنّ بعضها مازال متردّداً في إدراج هذه العلوم ضمن برامج التّعليم العالي فضلاً عن التّعليم الثّانوي.
وطبعاً فإنّه لا مجال للحديث عن الإبداع في أي مجال من المجالات إذا كانت منابع هذا المجال مجفّفة.
وفوق كلّ ذلك لا بدّ من بعث آلية تجميع للإحصائيات وتحيينها على مستوى العالم العربي، فالإحصائيات هي دائماً مرجعيّة المعطيات التي توجه كلّ عمل وكل سياسة استشرافية مستقبلية.
______
*الاتحاد