*عدنان حسين أحمد
في كل مهرجان سينمائي دولي يحضر عدد محدود من الفنانين الأشقياء أو من مثيري الشغب إن شئتم. وعلى الرغم من أن عدسات المصوّرين، وفضول الصحفيين والمشتغلين في الإعلام السينمائي تحديدا تتجه كلها صوب النجمات الحسناوات، اللواتي يوهمننا بأننا نعيش في جنّة سماوية هبطت على الأرض مؤقتا لمدة أسبوعين في أبعد الأحوال.
على الرغم من غواية الأفلام السينمائية الراقية، وفتنة الحُسن الملائكي الذي يتهادى على السجادات الحُمر، إلاّ أن حضور بعض المشاغبين له نكهته الخاصة، وطعمه الفريد الذي يبقى على أطراف الألسنة لمدة زمنية طويلة.
ومن بين هؤلاء المشاغبين المخرج الدنماركي المشهور لارس فون تراير الذي حصد كبرى الجوائز العالمية من بينها السعفة الذهبية، وجوائز لجنة التحكيم في أكثر من مهرجان.
وعلى الرغم من أهميته الكبيرة في المضمار السينمائي والجوائز الكبرى التي تُسند إليه، إلاّ أن تصريحاته المُستفِزة، تشبه وقع الأحجار الضخمة التي تسقط في بحيرة ساكنة، فتمنح سطحها المائي أشكالا مثيرة ولافتة للانتباه.
لقد حصد تراير كبرى جوائز مهرجان “كان”، وتمّ الاحتفاء به كما يُحتفى بالقادة المنتصرين في حروب مفصلية حاسمة، لكنه طُرد من المهرجان ذاته عام 2011، لأنه صرّح ممازحا أو متهكما “بأنه كان نازيا” أو “أنه كان يتعاطف مع هتلر قليلا”.
تُرى هل تكشف الدُعابات العابرة والممازحات السمجة عن طويّة الإنسان، سواء أكان مبدعا أم كائنا بسيطا لم ينل حظهُ من الدراسة والتعليم؟
لقد وجّه القائمون على مهرجان فينيسيا لهذا العام الدعوة لتراير بوصفه مخرجا كبيرا، وافق على أن يُعرض فيلمه الأخير “شبق” خارج المسابقات الرسمية للمهرجان، وهو فيلم طويل تربو مساحته الزمنية على خمس ساعات ونصف الساعة تقريبا. ويحتاج إلى مشاهدين من طراز خاص لا يتململون أو يتذمرون خلال هذه المدة الزمنية الطويلة التي قُسمت إلى قسمين، الأول مدته 180 دقيقة، والثاني 145 دقيقة.
ثيمة هذا الفيلم تحتاج إلى نصف نهار كامل، كي تُشاهد تفاصيله بالكامل ويُستمتع بها؟ ومعلوم أن الفيلم الأوروبي الذي يُعرض في أوروبا وأميركا وبقية بلدان العالم المتحضرة والمتسامحة، التي تقبل بالحديث عن الموضوعات المحجوبة والمقصية واللامُفكر فيها.
يختلف عن الفيلم الذي يُعرض في العالم الإسلامي وبقية بلدان العالم المتشددة نوعا ما، التي تعترض على أشياء كثيرة من بينها الإجهاض أو البوح بالتجارب الجنسية لكلا الجنسين رجالا ونساء. وهذا الفيلم الذي يعرض في مهرجان فينيسيا المنتهي في السادس من سبتمبر الجاري، يتحدث عن التجارب الجنسية لامرأة منذ صباها وحتى بلوغها سن الخمسين.
يمكن اختصار هذا الفيلم الطويل جدا بقصة امرأة تُدعى جو “شارلوت غينزبورغ” التي وجدت مضروبة ضربا مبرحا، وقد استصحبها سليغمان “سكار شغورد” إلى شقته وبدأ يداوي جراحها، ويسألها عن حياتها فتروي له تجاربها الجنسية منذ طفولتها حتى بلوغها سن الخمسين من العمر. وبما أن سليغمان رجل واسع الاطلاع والمعرفة، فإنه يقوم بربط هذه الحوادث الإيروسية المروية، ويحللها تحليلا دقيقا من خلال كل ما قرأه وتعلّمه خلال حياته العلمية أو الثقافية بالمعنى الأوسع.
لم يصرّح تراير هذه المرة بشيء يخص النازية أو تعاطفه معها، لكن سرّب بعض المعلومات عن مسلسله التلفزيوني الجديد الذي أخرجه تحت عنوان “البيت الذي بناه جاك”، وقد صوّر حلقاته بلندن ومن المؤمل أن يُعرض في عام 2016.
وفي السياق ذاته قالت المنتجة لويز فيسث بمناسبة دعوتها إلى مهرجان فينيسيا هذا العام: “لارس لديه فكرة عظيمة لا أستطيع أن أخبركم بها. ولكن من خلال ما عرفته إنها فكرة لم تروها من قبل أبدا، ومن المؤكد أنكم لن تروها ثانية”، في إشارة واضحة إلى فرادة هذه الفكرة الإبداعية الخلاقة. وقد أكدت للصحفيين والإعلاميين الذين حضروا هذا المؤتمر الصحفي، بأن المخرج تراير قد طلب طاقما كبيرا جدا لتنفيذ هذا المسلسل التلفزيوني.
لم يكن “البيت الذي بناه جاك” هو محاولته الأولى في الدراما التلفزيونية الطويلة، ففي تسعينات القرن الماضي أخرج تراير “المملكة”، وهو مسلسل سوريالي مؤلف من ثماني حلقات صور في مستشفى دنماركي. ومنذ ذلك الوقت اتجه تراير إلى صناعة الأفلام مثل “تكسير الأمواج” و”دوغفيل” و”ضدّ المسيح” إضافة إلى أفلامه المعروفة الأخرى.
خلال سنوات عمله الفني التي امتدت على خمسة وعشرين عاما، تعرّض تراير إلى المدح والتقريع بدرجة متساوية. غير أن سلوكه الاجتماعي كان يسبب له على الدوام مشكلات متلاحقة، على الرغم من أنه مخرج ناجح قوبلت أفلامه باستحسان النقاد ولجان التحكيم من جهة، وإعجاب الجمهور من جهة أخرى.
وصف تراير نفسه من مخبئه بأنه شخص مازوشي، وأصرّ على أن إخراجه لفيلم “الشبق” قد علّمه أشياء كثيرة، لكن ليس ثمة شيء جديد على صعيد الموضوعات المعقدة التي تتعلق بالجنس الأنثوي. «فهو يعرف، على حدّ زعمه، كل شيء عن النساء قبل الآن بكثير».
________
*العرب