* محمد زكريا توفيق
يقول أرسطو، كما جاء في كتابه “الأخلاق النيقوماخية”، إن الهدف الذي يبغيه كل منا ويعيش من أجله، هو تحقيق السعادة في هذه الدنيا، والسعادة في الحياة الأخرى، إن كان يؤمن بالبعث. اختلاف كل منا في أسلوب وطريقة طلب السعادة، يرجع لاختلافنا في فهم معنى السعادة.
الأخلاق تتطلب منا شيئا أكثر من مجرد العلم بما هو صواب وبما هو خطأ. شيء أكثر من المعرفة. كل المعارف في هذا العالم وحدها لا تكفي، ولن يكون لها تأثير يذكر، إذا لم تكن لدينا حرية الإرادة والقدرة على الاختيار. الأخلاق تتطلب معرفة وإرادة، لا معرفة فقط.
الإنسان مخير، لا مسير، في نظر أرسطو، على الأقل في بداية حياة الإنسان. لكنها العادة التي تجعله مكبلا بالأغلال، وتحوله من إنسان حر إلى عبد للعادة. التمسك بالأخلاق أو عدم الأخلاق، يرجع إلى الإنسان نفسه. يرجع إلى إرادتنا وحدنا.
عندما يجب القول بكلمة “لا”، لا يجب أن ننطق بكلمة “نعم”. إذا مارس إنسان، وهو عامدا متعمدا، الظلم، سوف يكون إنسانا ظالما باختياره.
الإنسان غير قادر على تغيير سلوكه من الظلم إلى العدل. مثل المريض الذي يعلم بمرضه، لكنه لا يقدر على شفاء نفسه.
عندما تقذف حجرا بعيدا، من الصعب أن تلغي هذا الفعل، وترجع الزمن إلى الوراء. بداية قذف الحجر في يدك أنت. كذلك الرجل الظالم. لقد كان حرا لكي يختار العدل، قبل ممارسته للظلم، لكنه لم يستطع ذلك.
من الممكن أن نربي أطفالنا تربية سليمة، حتى قبل أن يفهموا سبب ذلك. لأن التربية على أساس العادات القويمة تصبح عادة. البناؤون يصبحون بنائين بالبناء. الموسيقيون يصبحون موسيقيين بالعزف. نحن أيضا نصبح قوما عادلين بممارسة العدل، شجعان بممارسة الشجاعة، متحضرين بممارسة التحضر.. إلخ. خير أمة أخرجت للناس، بالفعل لا بالقول.
إذن الأخلاق، معرفة وإرادة وممارسة. تستقر، مع الوقت، في أعماق الضمير الإنساني. تصبح مدفونه في اللاوعي، تدفعنا لا شعوريا لعمل الخير.
فضيلة العلم، هي قدرتنا على طلب الحقيقة عن طريق المعرفة والفهم. الحقيقة والصدق، يمكن طلبهما عن طريق: الحكمة (الفلسفة والتساؤل)، العلوم، الفن الراقي، فعل الخير والصواب، الإلهام والوحي.
لكن الفهم واستخدام العقل، لا النقل عن السلف، هو أفضل طرق العلم. لأنه روح الإله في أجسادنا. الفلسفة، وهي تشمل العلوم، أفضل وأرقى من الفن.
لكن فهم السعادة يختلف من شخص لآخر. العامة ترى السعادة في اللذة البهيمية. يرى آخرون السعادة في المجد والحصول على الثروة والسلطة. حياة الحكمة والتأمل، هي السعادة الحقة عند أرسطو.
الفضيلة، بالنسبة لأرسطو، هي سيطرة الإنسان على جسده وعقله. سيطرة الإنسان على شهواته، والتزامه بحياة الفكر والتأمل. فضيلة حياة الفكر أسمى بكثير من فضيلة التحكم في الشهوات.
الفضيلة العقلية تأتي من التعليم الجيد، أما باقي الفضائل، فتأتي من عادات المجتمع والتربية. الفضيلة تأتي من التربية والتعليم، يا وزارة التربية والتعليم. الفضيلة تأتي بالممارسة، مثل باقي الحرف والفنون.
الفضيلة الخلقية تتحدد عن طريق الأخذ بمفهوم الوسط. الإفراط في الطعام، يسبب التخمة والسمنة ويفسد الصحة. كذلك الحرمان من الطعام. الشجاعة، هي الوسط بين التهور والجبن. الكرم، هو الوسط بين التبذير والإسراف. إلخ. أي أن الفضيلة الخلقية، هي وسط بين رذيلتين. الفضيلة الخلقية، والفضيلة العقلية، هما غايتان لبلوغ السعادة.
لم يجد أرسطو صعوبة في إثبات أننا نكون سعداء، عندما نعيش حياة تعتمد على ركيزتين: فضيلة الأخلاق، وفضيلة المعرفة. الأخلاق، تجعل الإنسان يعيش حياة جيدة في مجتمعه، وتسهل له أداء عمله.
الأخلاق، تجعل الإنسان يختار من بين الأمور، الوسط. الوسط بين طرفين نقيضين. الوسط بين الزيادة وبين النقصان. بين الكثرة وبين القلة. اختيار أحد الأطراف لا الوسط، يؤدي إلى الخطأ والشقاء.
التطرف في الزيادة أو النقصان، هو الشر بعينه نقع فيه، عندما نختاره، بإرادتنا أو بدون إرادتنا، كوسيلة لبلوغ السعادة.
يكفي الإنسان القليل من الطعام والراحة البدنية. لا نحتاج إلى أن نملك الأرض والجبال والبحار، لكي نقوم بأعمال نبيلة، ولكي نحيا حياة سعيدة.
أجد هنا في مدينة نيويورك، أثناء فصل الشتاء القارس، بعض كبار السن، يخرجون إلى الشارع، وهم يلبسون الملابس الثقيلة التي تشبه حلل الفضاء والأبخرة تتصاعد مع الزفير من أنوفهم، لكي يطعموا الطيور البرية التي لا تهاجر في فصل الشتاء. يلقون لها قطع الخبز والحبوب. أثناء فصل الشتاء القارس البرد، وأثناء العواصف الثلجية. هذه الطيور، يموت منها أعداد هائلة بسبب البرد، ما يقرب من 80 أو 90%.
أذكر أنني كنت يوما عند طبيب أسنان كبير السن هنا في مدينة نيويورك، أجلس على كرسيه استعدادا لحشو ضرس أصابه السوس. تركني الطبيب في غرفته مدة قصيرة. عندما نظرت من النافذة، وجدته يمشي منحنيا بحذر على الثلج، يحمل دلوا مملوءا بالماء ويسكبه في الشارع.
عندما عاد، سألته عن سبب ذلك، أخبرني أنه قد رأى حفرة كبيرة، أراد أن يملؤها بالماء حتى يتجمد فيها الثلج، فلا تغرس فيها عجلة سيارة مارة بالطريق.
هذا ما يقصده أرسطو، بأننا لا نحتاج أن نملك العالم والجبال والبحار لكي نقوم بأفعال نبيلة، نشعر بسببها أننا سعداء. بل نشعر معها أننا أحياء.
العزة بالنفس والفخار، فضائل تثلج الصدر. لكن السعادة الدائمة، لا ينالها إلا الشجاع، العادل، الصالح، والمحب للحقيقة. يجب أن نسمو بأنفسنا، ونتبع في حياتنا الأحسن، ولا نستخدم من قدراتنا إلا الأفضل.
الصداقة المخلصة، تضيف الكثير من البهجة لحياتنا. يقول أرسطو إن المشرّع الجيد، هو من يعلي الصداقة فوق العدل.
يقول الفيلسوف الفرنسي مونتين: “من ينتظر فائدة أو مكسبا أو نفوذا، أو أي شيء آخر، من الصداقة غير الصداقة نفسها، لن يشعر بكرم وجمال ونبل هذه العلاقة الرائعة بين اثنين من البشر. لا شئء آخر يستطيع أن يعوضنا عن الصداقة الحقة”.
علاقة الأخ بأخيه، أو الأب بابنه، كما يقول مونتين، هي علاقة مختلفة عن الصداقة. قد يكون ابني أو أخي عطوفا أو شرسا أو أحمقا. هذه العلاقة يفرضها القانون والقرابة، مجبرون عليها، لا اختيار لنا فيها.
علاقة الأب وابنه، عمادها الاحترام. في الغالب، لا تتوافر بينهما المشاركة والفهم، بسبب الفروق الكبيرة في السن وتجارب الحياة. بعكس العلاقة بين الأصدقاء. قد أبوح لصديقي بسر، لا أقدر أن أبوح به لأبي أو أخي. لقد أخبرنا التاريخ، أنه كثير من الحكام، قاموا بقتل أو نفي آباءهم أو أولادهم أو أخواتهم طمعا في السلطة.
عندما سئل أريستيبوس عن أولاده، قال: “لقد أنجبت ديدان وقمل”. بلوتارخ، رفض أن يتوافق مع أخيه قائلا إنه لن يعيره أدنى اهتمام، “لمجرد أنه قد خرج من نفس الفتحة”.
يستمر مونتين في الحديث عن الصداقة فيقول: الصداقة، تجعل النفوس ممتزجة، لا يفصلهما خط تماس. علاقة زواج الرجل من المرأة، علاقة مختلفة، بالرغم مما بها من اختيار. قد تكون علاقة الرجل بالمرأة أكثر حرارة وحرص وحدة، لكنها علاقة متمردة غير ثابتة.
لكن دفء الصداقة، دفء عام متعادل وثابت. الحب يمثل رغبة محمومة تهرب منا في بعض الأحيان. مثل الصائد، كما يقول أرسطو، يتبع فريسته عبر الجبال والغابات والسواحل. لكنه يفقد اهتمامه بها بمجرد حصوله عليها. وقت المتعة هو وقت الصيد. الحصول على الثمرة يفسد حب الجسد.
لكن الصداقة، تزداد وتزدهر بالممارسة، لأنها علاقة روحية. وكما يقول عبدالوهاب: “عشق الروح مالوش آخر، لكن عشق الجسد فاني”.
الزواج عقد، حر فقط في بدايته. استمراره، قد يكون عن طريق القوة والإجبار وأشياء أخرى مثل الإنجاب، وليس بسبب الإرادة الحرة لكلا الطرفين. الزواج به تعقيدات كثيرة يصعب حلها. كفيلة بفرط عقد الزواج.
لكن الصداقة، ليس بها سوى الصداقة نفسها. فضلا عن كونها مشاركة ذهنية عمادها الصدق والأمانة والشرف. من الصعب وجودها بين الزوج والزوجة.
يقول سيسرو: “الحب عقد ينشأ من جمال وشباب المتعاقدين”. لكن الصداقة تنشأ بسبب التعارف والتشابه. تحدث بالصدفة أو لغرض معين. إذا سألني أحد عن صديق لي، لماذا أبقي صداقته، أقول: لأنه أنا، وأنا هو.
كتب سيسرو: عندما سئل بلوسيوس، صديق الامبراطور الروماني تيبيريوس، عن مقدار ما يمكن أن يقدمه لصديقه، أجاب “كل شيء”. ماذا تعني بكل شيء؟ إذا طلب منك أن تشعل النار في معابدنا، فهل تطيعة؟ أجاب بلوسيوس: “إنه لن يطلب مني ذلك أبدا، لكنه لو فعل، سأطيعه بدون تردد”.
من يتعجب من إجابة بلوسيوس، لا يعرف أنه كان يسيطر على إرادة الامبراطور سيطرة كاملة عن طريق شيئين: معرفته التامة بشخصية الامبراطور، وصداقته المخلصة له. صداقة كل منهما للآخر، كانت أكثر من أي شيء ممكن.
هذا باختصار مذهب الأخلاق عند أرسطو، ومفهوم الصداقة عند مونتين. لم يستخدما في ذلك، إغراء الجنة والنار، أو التخويف من عذاب النار. لنا أن نقبل هذه الأفكار أو نرفضها، دون انتظار لثواب، أو خوف من عقاب.
________
*ميدل إيست أونلاين