كتّاب عرب يتنافسون على «فايسبوك» لاختيار أفضل الكتب


*مايا الحاج

ظاهرة جديدة يشهدها عالم الفايسبوك عربياً عنوانها «تحدي الكتب»، لكنّ روادها، وهم كتاب وروائيون ونقاد، لا يرمون بدلو ماء أو ركام على رؤوسهم كما في مبادرة «تحدي الثلج» او «الركام»، بل يتنافسون على تسمية عشرة كتب كان لها أثر كبير في حياتهم. هنا تحقيق.

نجحت مواقع التواصل الاجتماعي منذ أن دخلت إلى صميم الحياة العربية، في أن تفتح نوافذ كثيرة أمام تدفق معلومات، بل أفكار غربية عمقت مفهوم الاستلاب الثقافي الذي يعيشه الإنسان العربي.
ومن أحدث – وأقوى – مشاهد الاستلاب «الثقافي» في مجتمعاتنا العربية، كان انتشار فيديوات «تحدّي الثلج» التي احتلّت مختلف مواقع التواصل خلال الأسابيع الماضية. وتقوم فكرته على سكب دلو من الماء والثلج فوق رأس من يقع عليه هذا التحدّي، أو أنّه يتبرّع بمبلغ مئة دولار أميركي دعماً للمراكز المهتمة بمعالجة مرض عصبي نادر يُعرف بـ «التصلّب الجانبي الضموري».
وبعدما جذبت الفكرة أهمّ نجوم العالم وراحوا يصوّرون أنفسهم وهم يخضعون لهذا التحدّي ويختارون بدورهم أسماء أخرى للمهمة ذاتها، أخذ «تحدي الثلج» يغزو المواقع العربية، وراح النجوم والمشاهير والشباب العرب يتسارعون الى تنفيذ التحدّي ونشره على صفحات المواقع الاجتماعية، من غير البحث في أسبابه وأبعاده وأهدافه. كأنّ المواطن العربي الذي يعاني أزمات اقتصادية وأمنية وسياسية كبرى، قد تغاضى فجأة عن آفات مجتمعه، ومنها النقص الحادّ في الماء، بغية الترويج، وبصورة عمياء، لفكرة أجنبية أساسها دعم مرض هو شبه نادر في مجتمعنا…
تحدّي الكتب
ولمّا كان انتشار هذه الظاهرة «المستوردة» إلكترونياً، يتزامن مع أحداث غزّة الأخيرة، أحبّ بعضهم تعديل الفكرة من «تحدّي الثلج» إلى «تحدّي الركام»، علّ سكب الرمل والحجارة على الأجساد يمنحنا إحساساً أقوى بمحنة عائلات فلسطينية قضت بأكملها تحت ركام بيوت دمرتها طائرات العدوّ الإسرائيلي ودباباته بوحشيةٍ لا مثيل لها. لكنّ النسخة «المعرّبة» تلك لم تحظَ باهتمام واسع من أشخاصٍ اعتادوا أن يلعبوا دور المشاهد والمتلقّي والمُقلّد، بدلاً من الفاعل والمنتج والمُحرّك.
وإن كان تجاوبنا الكبير مع التحدّي «المستورد» أومأ إلى سلبيةٍ راسخة فينا، فإنّ هذه السلبية هي حتماً مُستغربة في زمنٍ حاول فيه الشباب العربي أن يثور على استلابه وأن يرسم ملامح جديدة لهويّة جديدة قد تُنقذه من سلطة الآخر، وتمنحه حقّ طرح الأسئلة واجتراح الأجوبة، عوضاً عن تقليد أعمى مارسه عقوداً طويلة. لكنّ خطوة جديدة شهدتها مواقع التواصل الاجتماعي عبر الفايسبوك وتويتر قد تشي بأنّ النَفَس الثوري وروح الثقة والإيمان بحتمية التغيير عند بعض الشباب العربي ما زالت حاضرة، وبقوة أيضاً.
فعلى رغم بساطة المشهد وعفويته، وجدت مجموعة من المثقفين، في أكثر من بلد عربي مثل المغرب ولبنان ومصر، أنّ ظاهرة «تحدّي الثلج» ليست سوى صورة تعزّز حقيقة المأزق الذي نعيشه اليوم. لذا عمد هؤلاء الشباب الى تطوير الفكرة الأجنبية من «تحدّي الثلج» إلى «تحدّي الكتب»، عسى هذا التحدي يعيد الاعتبار إلى دور الثقافة ويُروّج الكتاب، الغائب الأكبر في حياتنا اليومية. أما فكرة هذا التحدي فتعتمد على اختيار أفضل عشرة كتب، ولكلٍّ وجهة نظره.
وبعد أيام قليلة على انطلاقه، أخذ التحدي الجديد بالتوسّع الكترونياً، وراح الفايسبوكيون يتناوبون على انتخاب الكتب العشرة الأكثر تأثيراً في حياتهم، ومن ثمّ تسمية أصدقاء لهم يقع عليهم واجب التحدّي.
وبالفعل، لاقت الفكرة قبولاً لدى الكتّاب والشعراء والصحافيين والمثقفين، فتحولت جدران الفايسبوك إلى فضاء ثقافي يُشجّع على القراءة، ويُعيد إلى أذهاننا أمهات الكتب التي قرأناها، أو التي لا ينبغي أن نفوّت على أنفسنا فرصة قراءتها. ومثلما جذب «تحدّي الثلج» وجوهاً معروفة في الفنّ والرياضة والمجتمع، اهتمّ كتّاب معروفون في مجال الرواية والشعر والفكر السياسي بما يُسمى «تحدّي الكتب»، وعمد كلّ واحد منهم إلى انتخاب أسماء أخرى لتنفيذ المهمة المنشودة، فغدت المواقع الاجتماعية مساحة جميلة للتواصل الثقافي.
صعوبة التحدّي
ومع أنّ تحدّي الكتب لا يتطلّب من المشارك فيه أيّ قوة جسدية أو قدرة على التحمّل، رأى بعض المثقفين صعوبة في تنفيذه، إذ لا يُمكن اختزال مئات الكتب المؤثرة والمهمة في تاريخ البشرية بعشرة فقط. فمنهم من اعتذر عن تنفيذ التحدّي بعد تسمية أحد أصدقائه له مثل الكاتب حازم صاغية الذي أرجع صعوبة الأمر إلى سببين: «أوّلهما حصر الجواب في عشرة كتب، والثاني يتعلّق بزمن التأثير، أثناء القراءة أم اليوم؟». وبعضهم الآخر رأى لو أنّ التحدّي كان باختيار الكتّاب الأكثر تأثيراً لكان أسهل من اختيار الكتب، ومنهم الكاتب ياسين الحاج صالح الذي قال في هذا السياق: «ثمة مؤلفون أثّروا فيّ ربما أكثر من الكتب»، لكنّه لم يتوانَ عن تنفيذ التحدّي المطلوب، فاختار عشرة كتب تركت فيه تأثيراً «مدوّخاً» خلال مراحل زمنية مختلفة (الطفولة، الشباب، فترة السجن والاعتقال…)، وهي: «المسخ» (كافكا)، «الجريمة والعقاب» (دوستويفسكي)، «الثلاثية» (نجيب محفوظ)، «الهزيمة والإيديولوجيا المهزومة» (ياسين الحافظ)، «الإيديولوجيا العربية المعاصرة» (عبدالله العروي)، «بيان من أجل الديموقراطية» (برهان غليون)، «أعمال سيغموند فرويد»، «أعمال هيغل»، «تكوين العقل العلمي» (غاستون باشلار)، «نقد العقل السياسي» (ريجيس دوبريه).
واللافت أنّ اختيارات الكتّاب جاءت منسجمة مع مجالات أصحابها. فالكتب التي اختارها روائيون تصبّ بمعظمها في خانة الرواية، بينما تضمنت قوائم كتّاب السياسة أشهر كتب الفلسفة والفكر السياسي. وأشار معظم المشاركين إلى أن الكتب المنتخبة هي التي تركت تأثيرها القوي فيهم في مرحلة مبكرة من حياتهم. وقد يُخيّل إلينا أنّ هذه الأعمال رسمت خرائط مستقبلهم وحدّدت ميادين عملهم. فاشتملت قائمة المفكّر اللبناني أحمد بيضون مثلاً على كتب الفكر والفلسفة واللغة، فكان تحدّيه على الشكل الآتي: «كليلة ودمنة» (ترجمة ابن المقفع)، «البيان والتبيين» (الجاحظ)، «تاريخ الرسل والملوك» (الطبري)، «مقدمة ابن خلدون»، «الغثيان» (سارتر)، «أعمدة الحكمة السبعة» (توماس إدوارد لورنس)، «كراتيل» (أفلاطون)، «المدار الحزين» (ليفي ستروس)، «الأمير» (ميكافيللي)، «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي» (ميشيل فوكو). وأكدّ بيضون أنّ العناوين التي اختارها هي من بين إصدارات كثيرة قرأها قبل سنّ الخامسة والأربعين، وأضاف بنبرة ساخرة: «تتركّز قراءاتي اليوم على بيانات «داعش» التي تترك الأثر الأكبر في نفسه».
أمّا فاروق مردم بك، الكاتب والناشر السوري المقيم في باريس، فاختار كتبه المفضلة من الأدب العالمي وهي: «بانتاغروئيل… وغارغانتويا» لرابليه، «دون كيشوت» للإسباني سرفانتيس، «تريستام شاندي» للإنكليزي لورانس ستيرن، «الأحمر والأسود» لستندال، «أنّا كارانينا» للروسي تولوستوي، «موبي ديك» للأميركي ميلفل، «البحث عن الزمن الضائع» لمارسيل بروست، «سفر إلى آخر الليل» للفرنسي سيلين، «أوريليان» لأراغون، «مئة عام من العزلة» لماركيز.
واستجاب الروائي جبّور الدويهي للتحدّي نفسه، قبل أن يُسمّي بدوره بعض الأسماء لتنفيذ التحدي مثل شبلي الملاّط وشريف مجدلاني وفارس ساسين وأحمد بيضون. وضمّت قائمة الدويهي روايات فرنسية وعالمية، وهو الأكاديمي المتخصص في الأدب الفرنسي. واحتوت لائحته على الكتب الآتية: «التربية العاطفية» (فلوبير)، «السيدة دالاوي» (فرجينيا وولف)، «البحث عن الزمن الضائع» (بروست)، «فصل في الجحيم» (رامبو)، «بينما كنت أحتضر» (ويليام فوكنر)، «الممسوسون» (دوستويفسكي)، «نوفوسنتو» (باريكو)، «مئة عام من العزلة» (ماركيز)، «بيدرو بارامو» (خوان رولفو).
وثمّة من اختار عشرة كتب لكاتب واحد فقط مثل ميلان كونديرا أو فيودور دوستويفسكي أو نجيب محفوظ، فيما ارتأى بعضهم الآخر تعديل فكرة التحدي من أفضل عشرة كتب إلى أسوأ عشرة كتب، ليكون التصويت على أعمال رائجة شعبياً من دون أيّ قيمة فنية، أو على الكتب العقائدية المتشددة وأعمال الزعماء والديكتاتوريين من أمثال ماو تسي تونغ وستالين وصدام حسين ومعمر القذافي…
وعلى رغم تفشي ظاهرة «تحدّي الكتب» بين الكتّاب والمثقفين، كان الإقبال عليه خجولاً من عامة الفايسبوكيين. ولا أظنّه مستغرباً عدم التفاعل الشعبي مع تحديات أدبية وثقافية كهذه، لأنّ الإنسان في عالمنا قد يولد ويموت قبل أن يصل مجموع ما قرأه إلى عشرة كتب، وربما يعيش حياة كاملة من غير أن يقرأ كتاباً واحداً. ومع تفاقم مشاكلنا المعيشية والسياسية والأمنية، تظلّ القراءة، مع الأسف، «ترَفاً» لا تُقبل عليه سوى قلّة قليلة من الناس. فهل يُمكن الفايسبوك، بسلطته الرهيبة على الشباب العربي، أن يُعيد – يوماً ما – إلى الكتاب مكانته المفقودة؟
______
*الحياة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *