الهوية بين الفائض والنُّقصان


*خيري منصور
في كتابه الخوف من الحرية فتح إريك فروم الباب على مصراعيه امام عدة انماط من الخوف الذي يفضي بالضرورة الى الفرار، ورغم وفرة المقاربات حول مفهوم الهوية والتي راوحت بين الانثروبولوجي والسوسيولوجي من طراز الهويات القاتلة لأمين معلوف ورهاب الهوية لداريوش وحدود الهوية القومية لنديم البيطار، واخيرا الهوية الفائضة لوجيه كوثراني، الا ان هناك قوسا محذوفا من هذه الدائرة التي تصبح خانقة واختزالية اذا تحولت الهوية الى شرنقة او زنزانة، هذا القوس هو الهروب من الهوية، وادراج سؤالها الوجودي والاشكالي في خانة المسكوت عنه، ومن يهربون من سؤال الهوية هم فئتان الأولى تسعى الى الاندماج في هوية بديلة تضمن الأمان والثانية ثقافتها الوطنية سرية لأسباب إثنية، خصوصا حين تعيش في دولة ذات سقف فولاذي اشبه بالخوذة، ومن مظاهر وتجليات الفئة الأولى، التماهي من خلال الطقوس والاسماء والمناسبات الوطنية مع الأقوى او الغالب اذا شئنا استعارة هذا المصطلح من ابن خلدون الذي تحدّث مبكرا عن تماهي المغلوب وفقدانه التدريجي لخصائصه ومكونات جوهره، والاسماء مفاتيح مناسبة بل نموذجية لقراءة ثقافة الاتّقاء التي تلوذ بها جماعات عزلاء.
اما الثقافة شبه السرية لدى اثنيات هاجعة كما كان الحال في الاتحاد السوفييتي قبل تفكيكه فهي مجال حيوي لاصابة الفرد بالشيزوفرينيا او ازدواجية الهوية، بحيث يكون في ليله الخاص مختلفا تماما عما يكونه في نهار الجميع، او بمعنى أدق نهار الدولة، لكن ما ان تتصدع قشرة الدولة ويصبح المناخ ملائما لاندلاع الاشواق المكظومة حتى يحدث ما شاهدناه خلال العقود الثلاثة الاخيرة، بحيث اوشك صراع الهويات ان يكون بديلا غير موضعي لحرب كونية ثالثة تحدث بالتقسيط وبأسلحة مختلفة وأساليب غير تقليدية او شائعة في الحروب الكلاسيكية التي تدور بين اطراف متكافئة. وليست اشهر مقاربات الهوية واكثرها تداولا عبر الاعلام هي الأهم من سواها، فقد تكون الاطروحات الأقل تداولا هي الاكثر جدية وعمقا، مما يجعلها عسيرة الهضم على الوعي في مجتمعات تصل فيها نسبة الامية الى اكثر من خمسين بالمئة اما الامية المعرفية فقد تفوق هذه النسبة بكثير.
للمثال فقط، تحضرني مقاربة بعنوان «ان تكون بهوية او لا تكون» للكاتب فالح عبد الجبار، نشرت بالفرنسية مترجمة عن الانجليزية في مجلة مشرق- مغرب ربيع عام 1999 ضمن عدد مكرّس لأزمة الهوية بدءا، يعترف الكاتب أن مفهوم الهوية مُربك ويثير حيرة لا آخر لها تماما كما كانت حيرة شكسبير حين تساءل عن المضمون المادي لمفاهيم اجتماعية مثل الكبرياء والكرامة والشرف، ذلك لأن شكسبير يتساءل اين يقيم الشرف مثلا في جسد الانسان والهوية كذلك، لهذا تبدو اقرب الى ما نسميه السهل الممتنع، او السّراب الذي يعدنا باطفاء الظمأ لكنه يُضاعفه، ولكي لا أتورط بتلخيص هذه المقاربة المعمّقة للكاتب، اتوقف عند نقطتين، الاولى اعتباره هذه المفاهيم المجرّدة والناشفة اصطناعيا بشريا وهو يستشهد بما قاله ميشيل فوكو عن الانقلاب في الادوار من خلال مثال اللغة، فاللغة التي اخترعها الانسان خادمة للتواصل والتفاهم تحولت الى سلطان مستبد.
والنقطة الثانية هي استحضاره لرواية «الساعة الخامسة والعشرون» للروماني كوستانتين جيورجيو ولحسن الحظ فإن هذه الرواية ترجمت الى العربية قبل عدة عقود، والساعة الخامسة والعشرون هي السّاعة الاخيرة الاضافية في حياة الغوّاصين الذين كانوا يحضرون ارنبا يكون بمثابة بارومتر لقياس منسوب ما تبقى من الاكسجين تحت الماء، وحين يموت الأرنب يدرك الغواصون ان ما تبقى لهم من نصيب في الحياة هو ساعة واحدة، ان لم يطفوا على سطح الماء غرقوا الى الأبد، وينتهي الى القول أن هذه الرواية هي أهم كتاب أدبي يحكي القصة التراجيكوميدية لمشكلة الهوية في القرن العشرين، فالساعة الخامسة والعشرون هي ذروة العصر الصناعي، وللوهلة الأولى قد يبدو هذا الربط تعسفيا بين افرازين احدهما تاريخي له بُعد ميتافيزيائي والاخر فيزيائي تماما، لكن ما وراء هذا التمثيل اعمق من ذلك، لأن الكاتب ينتهي بعد قشر عدة ظواهر بحثا عن اللب الى ما يلي:
للعراقيين بشكل عام تجارب خاصة في تحديد الهوية، والواقع ان كل شيعي مهجّر او كردي منفي او يهودي عراقي او آشوري مُبدع او يساري او وجودي او ليبرالي ترك العراق انما هو نسخة جديدة من بطل رواية الساعة الخامسة والعشرون، وأكاد أجزم بأننا جميعا نُعاني من ازمة انتساب لأن معايير الانتماء تحولت الى قيود تكبّل العقل.
فهل يبتعد ما يقوله عبد الجبار كثيرا عن مفهوم الهوية القاتلة؟ او تلك التي تقترن بالعُصاب، او الشرنقة الايديولوجية التي توقف السجين داخلها عن النمو وكأنها حذاء صيني حديدي يحول دون نمو قدم الطفل.
في النهاية ثمة قاسم مشترك بين كل تلك الاطروحات من حيث الاختناق بالهوية والارتهان لاصطناعها البشري، لكن الفارق الجذري بين مقاربة يحتكرها التوصيف الأفقي واخرى تنبش الجذور هو ان الأولى موسمية، وذات صلاحية تاريخية ومعرفية محدودة، بخلاف الثانية التي تعبر المجتمعات والثقافات بتحريض من هاجس انساني يعين البشر على الانعتاق من زنازين الايديولوجيا وشرانقها. وبالعودة الى مفهوم الهروب من الهوية نجد ان الأمثلة تتضاعف امامنا بسبب عودة هذه المجتمعات وبالتحديد في منطقتنا الى ما قبل الدولة، فما ان يقشر الطلاء الرخامي والحداثوي عن الحزب حتى يظهر تحته على الفور نسيج القبيلة، لأن النمو لم يكن عضويا بقدر ما كان اشبه بارضاع دمية من قش، وهنا نتذكر كيف صاغ الاستعمار نُظُما ملكية واخرى جمهورية تبعا لنظامه هو، وكأنه يقدم مصغرات اشبه بلعبة الليغو لبرلمانات داجنة في اسطبل الامبراطور كاليغولا كما قدّمه الفيلم الشهير عنه …
ولعل مقاربة وجيه كوثراني التي صدرت في الآونة الاخيرة بعنوان فائض الهوية ونقصان المواطنة مدخل ملائم لفتح عدة ملفات يكسوها الغبار، منها ان تضخم الهوية لا يعبر بالضرورة عن المواطنة المعافاة، بل العكس، يتستر على الخلل البنيوي في عمق نسيجها، يؤكد ذلك ما كتبه الروائي ميلان كونديرا في احد مقالاته عن تورم النشيد الوطني وحشوه بالمزاعم الدونكيشوتية كلما كانت الدولة أصغر وأقل فاعلية…
________
*القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *