*كاتيا الطويل
«سيقان ملتوية» رواية جديدة للكاتبة السعودية زينب حفني صدرت حديثاً عن دار نوفل (بيروت)، بعد روايتيها المثيرتين للجدل «ملامح»، و «وسادة لحبّك». وتشترك هذه الروايات الثلاث في جرأتها في طرق مواضيع اجتماعيّة لا تزال البيئة العربيّة عاجزة عن حلّها أو التعامل معها موضوعياً، ومن أبرز هذه المواضيع قضيّة المرأة وحقوقها وحدود حرّيتها المرسومة بصرامة وتعنّت.
في رواية «سيقان ملتوية» يبدو الإطار مختلفاً بعض الشيء، إنها رواية أوطان تسكن أهلها وتمنعهم من العيش خارجها، رواية أناس تركوا أوطانهم خلفهم أو أُجبروا على تركها من دون أن يتركوها فعلاً ومن دون أن يتمكنوا من هجر العادات والتقاليد التي طبعتهم، فلم تستطع لندن أن تدخل تحت جلدهم وأن تغتال نمط عيشهم وتفكيرهم العربي الصرف. «ســيقان ملتوية»، رواية الأواطان المورَّثة والتي لا يعرف الأبناء التعامل معها، ولا ينفكّون يحاولون الهرب منها.
مع أوّل نظرة يلقيها القارئ على الكتاب يستغرب عنوان حفني «سيقان ملتوية» ويحاول إيجاد تفسير له، لماذا السيقان هي ملتوية؟ ولماذا صفحة الغلاف تُظهِر أنّ هذه السيقان هي سيقان امرأة؟ والأغرب من ذلك لماذا تبدو هذه السيقان الأنثويّة واقفة بخجل، بخوف، وكأنّها متعثّرة، وكأنّها عاجزة عن السير قدمًا؟ لماذا تبدو هذه السيقان الملتوية عاجزة عن القيام بمهمّة السيقان الأساسيّة ألا وهي السير والتحرّك والتقدّم؟ أتراه وصف حالة المرأة في مجتمعاتنا العربيّة؟ أتراه تأويل لحالة المرأة العربيّة القابعة في مكانها، العاجزة عن التقدّم أو أقلّه التحرّك؟ أتراه المجتمع الذكوري أو تقاليده هو الذي يشلّ المرأة ويكسر لها ساقها؟ ولماذا تحمل هذه المرأة الملتوية الساق حقيبة سفر بيدها؟ لماذا تراها تخطّط للسفر أو الهرب بساقين ملتويتين؟ وهل يمكن الهرب من بعد التواء الساق؟
مع قراءة صفحات الرواية، يروح القارئ يفهــم العلاقة بين العنوان الصادم وصفحة الغلاف المحبِطة وحالة المرأة التي تهرب. والمرأة التي تحاول الهرب على صفحة الغلاف ليست امرأة واحدة فقط، بل قلْ هي كلّ امرأة ترد قصّتها في الرواية وتحاول الهرب من قسوة تقاليد مجتمعها العربي. حتّى المرأة الغربيّة تطاولها شظايا تعنُّتُ العقليّة العربيّة.
أوّلاً ترد قصّة سارة الابنة السعوديّة المولودة في لندن، وتفتتح الكاتبة نصَّها بوصف حالة الأب «مساعد عبدالرحمن»، فهو الوالد الذي يبحث عن ابنته ويكاد يجنّ لمعرفة المكان الذي هربَت إليه. هربت سارة من بيتها وعائلتها وأبيها، هربَت من نمط تفكير الأب وتسلّطه ورغباته الخانقة التي دائماً ما تُصاغ بصيغة أوامر لا بد من تنفيذها والعمل وفقها. هربَت من واقع المجتمع الذي عاينته في إجازاتها الصيفيّة عندما كان والدها يجبر العائلة على العودة إلى الوطن. هربَت من خوف بنات عمّها من الرجل وقسوة المجتمع وإجحافه. هربَت من الانغلاق الذي يسود العلاقات الاجتماعيّة والضغط الذي يسود الحياة الزوجيّة وتتحمّل عواقبه المرأة وحدها. هربَت من اكتشافها أنّ زوجها المستقبلي ومصيرها وعلاقاتها ستبقى دوماً رهن إشارة الرجل في عائلتها.
وسارة فتاة محظوظة لولادتها ونشأتها في لندن فهي أقلّه استطاعَت الفرار، أمّا هيا فلم تكن بمثل حظّها. هيا الفتاة التي زُوِّجَت ثمّ طُلّقَت ثمّ لم تُمنح فرصة الدفاع عن نفسها، لم تجد أمامها سوى المفرّ الأخير الذي لا عود من بعده. هربَت هيا إلى الموت، المفرّ الوحيد الذي يبقى لفتاة رفضها أهلها ومجتمعها وألبسوها تهمة واضحة وعيّروها بجريمتها الوحيدة التي لا ذنب لها بها: الأنوثة. «أنتِ فتاة محظوظة يا سارة. هنا نتعلّم الخنوع والاستسلام. كل شبر نسير فيه يجب أن يتمّ بمباركة ذكوريّة. المرأة هنا يُنظر إليها على أنّها شهوة متحرّكة، جلّ همّها إغواء الرجال». (ص 85)
وكذلك مريام الفتاة البريطانيّة التي أُغرمَت بيوسف، وهو شاب سعودي جاء يعيش في لندن وفي بيتها ليتعلّم في إحدى الجامعات البريطانيّات، شاب ساعدته على فهم النظام وعلّمته نمط العيش اللندني قبل أن تعيش معه قصّة حبّ دامت أربع ســـنين وانتهت باختفائه. هي أيضاً الفتاة الغربيّة، تحمّلت عواقب تزمّت العائلات العربيّة التي ترفض تزويج أبنائها من خارج الجنسيّة والدين. تحمّلت مريام نتائج تسلّط العائلة فبعد اختفاء يوسف اضطّرت إلى تربية ابنتهما ربيكا وحدها.
قصص النساء العربيّات الملتويات الساق كثيرة، لا عدّ لها ولا حصر، رفعت عنها زينب حفني الغطاء لكنّها لم تنسَ أن تترك احتمالاً أخيراً للمرأة الواقفة على صفحة غلافها، احتمال آخر لهذه المرأة الحاملة حقيبة السفر والعاجزة عن المغادرة. فماذا لو كانت هذه الساق الملتوية هي الوطن لكل امرئ رجلا وأنثى، كلّ انسان عربي يحمل تقاليد مجتمعه وتعنّته وقسوته في حقيبة سفرٍ تشلّه وتمنعه عن الحراك.
تفضح حفني الإشكاليّة الأساسيّة لروايتها من خلال سؤال واحد: «هل الأوطان تخلق الاستعباد؟» (ص39) تبدو شخصيّات الرواية كلّها حاملة حقائبها ومغادرة، فيقع القارئ على الفلسطيني الذي حمل حقيبته بيده وغصّته في قلبه وهُجِّر إلى لندن. ويقع كذلك على العراقي الذي هرب من الطغيان وقسوة النظام وقرّر أن يجد طمأنينته في لندن، يجد السعودي الذي تعلّم في لندن والذي لم يستطع أن ينتمي من بعدها إلى ماضيه. جميعهم يهربون من أوطانهم المتشدّدة، ولكن إلى أي مدى استطاعوا فعلاً أن يهربوا؟
وحال أبناء هؤلاء المهاجرين والمهجّرين ليست بأفضل، فزياد شاب فلسطيني لا يؤمن بأن أرضه قد تعود إليه يوماً، ولا يملك الجرأة والقسوة الكافيتين ليطلع والديه الفلسطينيّين على هذه الحقيقة، ولا يعرف أيضاً، أيفخر بجدّه الذي استشهد من أجل القضيّة أم يشفق عليه لسذاجته «لم أعد أصدّق أنّ هناك وطناً اسمه فلسطين كان له وجود على خريطة العالم العربي… أحياناً أحسّ بالفخر لكوني حفيد هذا الرجل الذي قدّم نفسه قرباناً لوطنه. لكنني كما قلتُ لكِ سابقاً، أحسّ أنّ لا جدوى من هذه المحاولات اليائسة لاسترداد وطن أصبح في خبر كان». (ص 44).
وعادل الشاب العراقي الذي يعشق العراق والذي ورث حبّه له من والديه، والذي يرقص دبكته عند كلّ انتصار له، عادل الشاب الذي يحمل العراق في قلبه وعقله ومستقبله، يعود إلى العراق من بعد دخول القوات الأميركيّة عليه، يدخل ظنًّا منه أنّه تحرّر وأنّه مستعدّ لاستقبال شبابه العائد، لكنّ الأقدار تشاء أن يتحوّل عادل إلى ضحيّة أحلامه وضحيّة انفجار حصد الكثيرين معه: «راح عادل ضحية عشقه المستحيل… قُتل دون أن يُعرف لماذا ودون أن يكتشف هوية قاتليه.» (ص40)
وتبقى مشاكل العائلات السعوديّة هي المستأثرة بالجوّ العامّ للرواية، ويبقى الطابع المنغلق الشديد القسوة للمجتمع هو الذي يحرّك الأحداث ويجبر الشخصيّات على التصرّف على عكس رغباتها والهرب رجالاً ونساءً. يبقى الوطن بعادات أهله وتقــاليدهم هو الحــقيبة الثقيلة التي تلوي السيقان وتمنعها عن التحليق عاليًا، فيروح كلّ واحد يحاول الهرب على طريقته وإن كانت ساقه ملتوية «فالأوطان تفقد بريقها وتذبل ســلطتها إذا قست أكثر من اللازم».
________
*الحياة