أين المعجم العربي وأين علوم البلاغة؟


*محمد الأسعد

يبدو أن كل فعل لغوي من أفعال الناطقين بالعربية يجري بمعزل عن ضوابط المعجم وعلوم البلاغة، ناهيك عن علم المعاني الذي اتخذ اسما شهيراً مستعاراً من الدراسات الأجنبية، أعني “السيميوطيقا” في بعضها و”السيمانتيك” في بعضها الآخر . 

بالطبع لا يُطالب الكاتب، شاعراً كان أو روائياً أو ناقداً أو حتى متكلماً، بنقل ألفاظ المعجم إلى دماغه، ولكنه مطالب على الأقل بتنمية حس لغوي يتيح له تمييز دقائق الكلم واستخدامها بما يكفل تحويل اللغة إلى أفق مفتوح على شتى الممكنات، لا إلى جدار لا منفذ منه أو إليه . المعجم في هذا السياق ليس حبل خلاص، ولا زورق نجاة من هذا البحر المحتشد بكلام شبيه بالرغوة، تنتشر فيه أسماء بلا مسميات، وتنتحل فيه الغربان هيئة الحمائم، بل هو معيار ومقياس يفيد في المقارنة والقياس على الأقل، أي يفيد في معرفة كم ابتعد العربي عن شواطئه المألوفة، وكم هي المسافة التي صارت تفصل بين المعجم، مخزون ثروتنا اللغوية، وبين لغتنا الحية الآخذة حكماً بتشكيل تصوراتنا وقدراتنا الإدراكية . 
لغتنا الحية تتعرض للتدخل والانتهاك، فهي لا تُبعد قسراً بوسائل شتى عن جذورها في معجمنا فحسب، بل تعاني انهياراً إدراكياً في مجالات المعنى والدلالة على حد سواء . لغة متروكة في العراء بلا مظلة حامية من معجم أو مرجع، ومن هنا يشعر إنسان هذه اللغة أنها تائهة تسأل عن دلالاتها في كل مناسبة، وتبحث عن رابط بين المعنى والدلالة حين تتكاثر من حولها وفي دواخلها كلمات ذات معنى ولكنها بلا دلالة في الواقع الملموس الذي يبصره العربي ويلمسه، أو تكون الدلالة، وحين يبحث عن معنى لها يجدها خرساء لا تنطق بأي معنى من المعاني . يتغير معنى لفظة من الألفاظ بين ليلة وضحاها، أوتتجرد من الدلالة فتصدر صوتاً خاوياً، ولا مقياس أو معيار يفيد في معرفة سبب التغيير أو علة هذا الصوت الخاوي .
***
هناك الآن حديث يتواتر تحت عنوان مخاطر تهدد اللغة العربية . وحين يتصفح المرءُ فقرات من هذا الحديث يجده ينصب على مخاطر من نوع تأثير ما تسمى العولمة الآخذة بنشر سطوة هذه اللغة دون تلك في تناسب طردي مع صعود مجتمعات هذه اللغة أو تلك اقتصادياً وعسكرياً وتقانة، مع ما يتلو هذا من انخفاض في عدد اللغات المتداولة، والقضاء على التنوع اللغوي . يضاف إلى هذا اعتقاد بعض الباحثين، ومنهم د . أحمد عبد الظاهر، أن لغتنا العربية تجد نفسها محاصرة داخل الوطن العربي ذاته بسبب مزاحمة لغات أجنبية مثل الإنجليزية والفرنسية، ومن هنا صارت الحاجة ماسة إلى كفالة استخدامها في كافة ميادين الحياة اليومية .
لهذا الحديث وجاهته بالطبع، ولكنه يشير إلى عناصر مؤثرة من جملة شبكة من العناصر أكثرها أهمية ما يحدث على صعيد قدرات المتكلم بهذه اللغة، العربي، الذي تتعرض مدركاته لنفسه وللعالم من حوله إلى الانهيار بتأثير الفصل القسري الذي تعرضت له يده عن فكره، فهو لايفعل شيئاً في هذا العالم، أي لا نصيب له في تسمية الأشياء أو صناعتها، سواء كانت مادية أو معنوية، إنه ضحية المجردات، والجمل المكتوبة لا الجمل الحية المنطوقة، والفرق كبير وشاسع بين كينونة تجريدية مثل الجملة اللغوية المكتوبة وكينونة حية منطوقة تخرج دلالات الكلام من معانيها المعجمية .
نحن لا نعاني جراء ابتعادنا عن المعجم أو مقتضيات البلاغة، فالمعجم وليد حركة فكر الإنسان ويده في تضاريس وجوده، والبلاغة نتاج مخيلته الإبداعية، ولكننا نعاني توقف هذه الحركة وهذه المخيلة بالذات .
تقع المخاطر إذاً في مجال آخر، ليست الخشية من تضاءل استخدام العربية بفعل العولمة أو المزاحمة، بل الخشية من تطاول هذا الركود الانحطاطي الذي يمسك بتلابيب وأطراف حياة العرب المادية والروحية . فهم لا حساب لهم في عالم الإنتاج وإعادة الإنتاج مهما كان نوعه، وهم لا حساب لهم في عالم إنتاج الأفكار بعد استقالة متطاولة منذ أحقاب وأحقاب من عالم الأفكار والانكباب على عالم الأشياء .
***
ومع هذا فللمعجم حسابه أيضاً كما يرى د . طه باقر الأشد وضوحاً في التعبير عن نواقص المعجم العربي . فمعاجمنا ضعيفة بسبب نقائص نجدها حين نقارنها بأبرز ما يميز المعاجم الحديثة، وتتمثل في التأصيل اللغوي، أي إرجاع المفردات إلى أصولها المشتقة منها أو المقتبسة عنها . على أن هذا النقص لا يقلل من شأن معاجمنا العربية، لأن معرفة لغويينا بما يسمى اللغات السامية، والأصح اللهجات العربية القديمة، كانت محدودة إلى درجة كبيرة، ولم يكن قد كشف النقاب عن لهجات أقدم مما عرف آنذاك مثل البابلية والآشورية (الآكدية) والكنعانية .
ويشير د . باقر إلى نقص آخر خطير هو إهمال معاجمنا لتطور معاني المفردات التاريخية بحسب العصور المختلفة، والأخطر أنها نادراً ما تذكر المعاني الاصطلاحية الفنية للمفردات بحسب استعمالاتها في الفنون المختلفة .
ونضيف من عندنا نقصاً ثالثاً هو سقوط عدد كبير من ألفاظ المناطق الحضرية من المعاجم العربية القديمة، لأن تجميع مفردات المعاجم توجه منذ البداية نحو المناطق البدوية تحت تأثير فكرة أن البداوة كانت موئل لغة العرب في نقائها المثالي، والمتتبع لألفاظ الحضارات العربية الزراعية والصناعية في جنوبي الجزيرة العربية وشرقيها المنقوشة بحروف المسند سيجد أغلبها غائباً عن المعاجم أو وارداً بصيغ محرفة .
مشكلتنا في لغتنا أنها ذات جوانب متعددة، منها ما يتعلق بفاعلية الإنسان العربي الغائبة على صعيد الإنتاج والتفكير من ثم تفكيراً منتجاً، ومنها ما يتعلق بما يعنيه هذا من انهيار المدارك والمدركات في عقلية هذا الإنسان وسلوكه، ومنها ما يتعلق بنواقص المعاجم التي لم “تثقف” منذ أن وضعت، أي لم تتابع جهود عبقريات أوائل مثل الخليل بن أحمد الفراهيدي، وظل التهيب من إصلاح المعجم سيد الموقف حتى وإن قدم عالم مثل عبدالله العلايلي خطة إصلاح لغوي تطال اللغة في عدد من قواعدها جديرة بالتأمل . 
________-
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *