«داعش» وديناميت «لورانس العرب»


*د. حسن مدن –

يطرح تمدد ميليشيات «داعش»، أو من باتوا يطلقون على أنفسهم دولة الخلافة الإسلامية، أسئلة مدوية، صاعقة حول عمق الأزمة في العالم العربي، التي فاقت في المدى الذي بلغته، توقعات أشد المتشائمين غلواً، ويضع المشتغلين بالفكر والسياسة في عالمنا العربي أمام محنة كبرى، تقتضي صحوة جدية، وتفرض الإنتقال العاجل من «ترف» التنظيرات المجردة إلى الانغماس في أتون هذا الواقع الكاوي بتحولاته المفزعة.

منذ زمن ليس بقصير لم يعد أحد يتحدث عن الوحدة العربية كهدف ممكن، وتوارت إلى الخلف دعوات هذه الوحدة، فلم نعد نسمع حتى «وشوشة» عنها، وبات التمسك بالدولة العربية الوطنية التي نشأت بعد الاستقلال، سواء كانت بترسيمات «سايكس بيكو» الشهيرة، أو بالترسيمات الطبيعية أو السياسية القائمة، مطلباً وهدفاً، من باب التمسك بالحد الأدنى، او إنقاذ ما يمكن إنقاذه، ولكن «الفوضى الخلاقة» التي تبدو «داعش» احد ثمارها المرة كالعلقم، وضعت الدولة العربية الوطنية، أو القطرية وفق أدبيات أخرى، في مهب الريح. أين هي الدولة القطرية اليوم في سوريا والعراق وليبيا وحتى اليمن؟
ما فعلته «داعش» هو تكريس لواقع قد تشكل على الأرض منذ سنوات، ذهبت به ميليشياتها إلى مدى أبعد واخطر، وتبدو مثيرة للبؤس، اليوم، دعوات بعض مثقفي العرب الذين بشروا، حتى حين قريب، الى تجاوز ما بعد الحداثة لما «هو بعدها»، متجاهلين أن مجتمعاتنا ارتدت حتى عن النزر اليسير من الحداثة التي حققها رجال مثل الطهطاوي والكواكبي وقاسم أمين وطه حسين، بحيث أن طموحاتنا هي من التواضع فلا تكاد تتجاوز استرداد ما فقدناه من أفكار، تماماً على طريقة استرجاع ما احتل من أراضٍ، وما سيحتل قريباً.
لمحنتنا بـ«داعش» ونظيراتها وجهان، يتصل الأول بحقيقة أن «داعش» هي صناعة عربية بامتياز، مثلما هي، في الوجه الثاني» صناعة غربية بامتياز، ولا أجد تناقضاً في هذا الحكم. فما تقترفه «القاعدة» و»داعش» وتفريعاتهما من ممارسات تقشعر لها الأبدان، في المناطق التي تسيطر عليها، كالقتل الجماعي وقطع الرؤوس وختان البنات وما إلى ذلك، لم يأت من فراغ، فما يفعله هؤلاء هو تطبيق لدروس تلقى ومنذ عقود في المدارس والمعاهد الدينية وفي حلقات المساجد والزوايا، وتوظف في تبليغه وسائط الاتصال الاجتماعي الحديثة التي باتت تساقطب شياناً من أصول عربية ومسلمة ولدوا وتربوا في المجتمعات الغربية.
لقد تركت الساحات في البلدان العربية لتيارات الإسلام السياسي بتلاوينها المذهبية المختلفة لكي تستحوذ على الفضاء الديني، وأن تسيطر على أذهان الناشئة، وتعبئها بالترهات والخزعبلات البعيدة عن روح الإسلام ومقاصده النبيلة في التسامح والرأفة وتكريم الإنسان بعقله. ولم يأت الشبان المنخرطون في هذه الحركات الذين يتركون عائلاتهم وبيوتهم وجامعاتهم أو أماكن عملهم قاصدين التهلكة، إلا من صفوف حركات الإسلام السياسي، بما فيها تلك التي تدعي أنها تنبذ العنف، حيث يجري غسل أدمغتهم بدعاوى «الجهاد» المغرضة، وهو جهاد ليس موجهاً للعدوان الصهيوني الذي يحتل الأراضي العربية، وإنما إلى تقويض أركان ومقومات الدول العربية، لا من حيث كونها حكومات فحسب، وإنما من حيث هي كيانات ومجتمعات، ذلك أن التكفير الذي تنطوي عليه خطابات هذه القوى، بصورة سافرة أو مضمرة، لا ينحصر في تكفير الحكومات وإنما تكفير المجتمعات برمتها، ولا يقل خطورة ما تلعبه مناهج التعليم الديني المشوهة في عديد البلدان العربية، التي تغرس ذهنية التكفير في عقول الشباب، ومعاداة أي نفس تنويري وتقدمي في المجتمعات العربية، والتضييق على أصحابه وتهميشهم ومحاربتهم.
من شروط الصحوة المطلوبة لإنقاذ مجتمعاتنا وبلداننا أن يجري نزع احتكار جماعات الإسلام السياسي للتأويل الديني، من خلال نهوض المؤسسة التعليمية، على مستوى المدارس والجامعات والمعاهد الدينية، بمسؤوليتها في تبليغ صحيح الدين إلى الناشئة منزهاً من الأهواء والتأويلات الباطلة التي هيأت تربة التطرف والتعصب وكراهية الآخر.
إن ذلك يبدأ بتعويد الطلبة على التفكير الناقد الذي يؤهلهم للاعتماد على النفس في تكوين الرأي، وليس حشو أدمغتهم بكمٍ من المعلومات المختزنة، ولا حتى تمجيد التميز الأكاديمي إذا كان لا يوظف في عملٍ نافع. ولا يمكن النظر الى المشكل التربوي بطبيعة الحال معزولاً عن سياق الأزمة العربية العامة التي تمتد لتغطي مساحات واسعة في المجتمع وفي الثقافة وفي السياسة، ولكن البدء بمعالجة التعليم عبر مناهج مرنة للتغلب على هذه الإشكالات المزمنة هو المدخل الصائب الذي منه ولجت الأمم التي غادرت مراحل هزيمتها أو انطفائها الحضاري لتبلغ من جديد ذرى المجد.
وإذا كانت «القاعدة» و«داعش» وسواهما صناعة المناهج والتربية الخاطئة في المدارس والجامعات وهيئات ما يدعى بطلاناً بـ«الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، فكيف لها أن تكون صناعة الغرب، دولاً ومؤسسات وأجهزة استخباراتية، على نحو ما لمحنا أعلاه.
لتوضيح الصورة أود العودة إلى نموذج من تاريخ علاقة العرب مع الغرب من خلال بعض شخصياته ورموزه، وهو لورانس العرب، الشخصية الغامضة المحيرة، التي شغلت العرب والغرب معاً طويلاً، لنجد أن الغرب، أو للدقة أجهزته المعنية، تجد دائماً المداخل الملائمة للتأثير في التيارات والتنظيمات التي يمكن أن تخدم أهدافها، والدفع بها نحو المسارات التي تؤمن ذلك.
في شخصية و سيرة هذا الرجل ما هو جدير دائماً بالعودة إليه. إنه بعكس تلك الطبيعة المتوترة، الغريبة التي حكمت الغرب بالشرق، ولكي نسمي الأمور بأسمائها علينا التحديد: الغرب الاستعماري بالشرق العربي– الإسلامي، وهي علاقة متجددة، مستمرة، مازالت تعيد إنتاج نفسها في صورٍ وأشكال شتى، بعضها مألوف ومعروف وبعضها مستجد يعكس ما استجد في الغرب، وما استجد في شرقنا العربي– الإسلامي.
وليس من شأن علاقة كهذه أن تتمحور في شخصية رجل واحد، إنها أبعد من ذلك وأشد تشابكاً وتعقيداً بكثير، ولكن يحدث أن تتضافر في مثل هذه الشخصية بعض جوانب الدراما، بعض الرموز التي تجعل من معرفة سيرة هذه الشخصية مدخلاً ملائماً أو مناسباً لدراسة ذلك التوتر الذي يتسع ليتضمن مضامين نفسية وروحية وتاريخية وفلسفية، ناهيك طبعاً عن الجوانب السياسية والاستراتيجية في معناها الأكثر مباشرة وحتى ابتذالاً أيضاً.
أكثر الجوانب إثارة في العلاقة التي حكمت العرب بهذا الرجل هو أنهم لم يطرحوا في حينه على أنفسهم أسئلة عن أبعاد اهتمامه بقضاياهم، وما السر أو الدافع الذي جعله يعرض خبراته للشريف حسين في الإعداد إستراتيجية لبريطانيا منذ أن أدركت هذه الأخيرة أن تركيا قد انضمت إلى ألمانيا والنمسا في الحرب ضدها، أي ضد بريطانيا وحلفائها، وكان في ذلك يستفيد من التناقض بين عرب الحجاز بقيادة الشريف حسين وبين حكومة الاتحاد والترقي في تركيا.
بعد عقود على وفاة لورانس العرب سيأتي أحد مواطنيه هو الباحث مايكل آشر ليضع بحثاً مهماً عن هذه الشخصية الغامضة. وفي تقديمه للترجمة العربية للكتاب التي وضعتها الدكتورة فاطمة نصر، يكتب الباحث عاصم الدسوقي ملاحظاً أن بساطة العرب في التعاطي مع لورانس هي ما شدته إليهم. لقد فتنه أن التفكير العربي بسيط، غير مركب، للدرجة التي تقبل بها العرب خدماته ونصائحه دون أن يتساءلوا لماذا يفعل ذلك، ولم يرتابوا في أمره وفي بواعثه، بل وجدوه صديقاً صدوقاً لهم، فقد رأى في خصال العرب «ما ألهب خياله المريض الذي كونته قراءاته عن قلاع العصور الوسطى. وقد خرج من هذه القراءات بأن العصور الوسطى هي العصر الذهبي لتاريخ الإنسانية الذي توقف في رأيه عند عام 1500».
حين أراد مايكل آشر كتابة سيرة لورانس العرب ذهب إلى الأردن. هناك ذات صباح قائظ تسلق تلاً بوادي رُم، على ظهره حقيبته وفيها وعاء لشرب الماء ونسخة من كتاب «أعمدة الحكم السبعة» للورانس، باحثاً عن «نبع لورانس» حيث كان الرجل يستحم أثناء إقامته بالوادي عام 1917. قبل أن يجد المؤلف ضالته، التقى إعرابياً من أحفاد القبائل التي قاتلت مع لورانس أدهشه بالقول: «لم يكن لورانس قائداً للثورة العربية، كان مجرد مهندس يعرف كيف يفجر خط السكك الحديدية، رجل ديناميت – هذا كل ما كانه».
أراد مايكل آشر تحطيم أسطورة هذا الرجل بتقديم صورة أخرى عنه. إن هدف كتابه هو إنزال لورانس من عرش مزيف توج عليه ملكاً للعرب، وهو يتوخى المدخل النفسي بوابة للتعرف على لورانس عن قرب قاصداً تبديد الصورة التي أراد هذا الأخير أن تستقر عنه في مخيلة أهل الشرق عنه، فيما صورته الأصل هي صورة رجل كذوب مخادع مسكون بالهلوسات الجنسية.
كم رجل ديناميت على غرار لورانس العرب اليوم هو في عداد ميليشيات «داعش» و«النصرة» و«القاعدة» وسواها التي تقاتل في سوريا والعراق واليمن وليبيا، ومتى سيأتي الزمن الذي سنعرف فيه التفاصيل عن الدور الذي لعبه ويلعبه الغرب في تأسيس وتقوية هذه الهياكل التكفيرية، لتجعل منها قاطرة سريعة الجري للفوضى الخلاقة، التي لم يطلقها أحد من المحللين على إستراتيجية الغرب، وخاصة الولايات المتحدة، تجاه العالم العربي، بل كانت وزيرة الخارجية الأمريكية الأسبق كونداليزا رايس، ورئيسها جورج بوش الإبن هما من جاهرا بها.
________
*مجلة عُمان

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *