*محمد علي شمس الدين
تقرأ قصائد سوزان عليوان في أحدث ديوان لها «الحب جالس في مقهى الماضي «( إصدار خاص 2014 ) فتشعر ببكاء أنثوي سحيق اّت من مكان بعيد، ولكنه حاضر كغمامة تفاجئك بمطرها وتبلل عينيك ووجهك بما يشبه الدموع. ومثلما تلعب اّلة الكمان في قصيدة «البكاء «لغارسيا لوركا دوراً رئيساً، فإن طللية ما، بكل ما فيها من شحنات الرومانس والوقوف على الأماكن القديمة بإطراق، تصاحب نصوص الشاعرة، من العنوان حتى النص الأخير، «باريس 1991 «. كأنها تنوح على بعض الأماكن في باريس، بيروت، القاهرة، التي لا تلبث أن تغدومهجورة : ذكرى طاولات وغرف وشوارع، وعلى ما تعبأ فيها من دم الحب القديم، ثم علاه الغبار، فصار ثمة خلل في الوقت وخلل في الأمكنة.
فالطللية صارت طقساً وقشعريرة، وما عادت مرتبطة بالضرورة بالصحراء العربية، ولا بالزمن الجاهلي، فكل مكان مهجور، سواء كان مقهى في باريس، أوحياً في القاهرة، أوزاوية في بيروت هوطلل… في قصيدة «كلما أهديتك كوكباً «، ذات الطابع السردي، تبدأ سوزان بتحديد المكان والزمان والطقس : «الرابعة والربع فجراً / بيروت بعد المطر «: إنه الوقت المثالي لتذكر الحبيب، ولاستعادة الشجن، ثم تأتي التضمينات الكلثومية (نسبة لأم كلثوم ) «رق الحبيب ««من كثر شوقي سبقت عمري « لتستعاد الأغنية بأركانها : «الشبح القصبجي مقعد شاغر / عروش في روحي لرامي الذي عاش عاشقاً ذليلاّ… «، فشرط الحب هنا هوأن يكون قديماً ( ذكرى )، وهوأيضاً شرط المكان. وهذه هي الطللية. سوزان عليوان إذن، بهذا المنحى شاعرة عريقة، والعراقة مرتبطة بالقدم، ولكنها في الوقت نفسه، حاضرة في زمنها الراهن، وشرطها الخاص والشخصي.
عراقة وحضور
/ أعرني دمعتك لأراني «/… كيف تكون الشاعرة عريقة وحاضرة معاً ؟ هذا جزء من شعرية سوزان عليوان في نصوص ديوانها الجديد، شعرية، تدافع، عن موقع الشعر القلق في العصر، المبتلى بهشاشة اللغة وسذاجة التصور وابتذال الأحوال. ذلك أن عليوان قادرة على تكوين لغة مرسلة مفعمة ومدهامة. وهي لغة لا تتأتى إلا لمن يقدر على استقبال هارموني العربية، من أعمق أعماق أصواتها وأجراسها، في التاريخ، وفي المقدس أيضاً… وفي إشاراتها المبعثرة في شاشات الإنترنت والفيسبوك اليوم. إن اختيار الصفة للموصوف مثلاً دليل في عنوان قصيدة «الزهرات العواتم «فالعواتم غير المعتمة. في العواتم استطالة تناسب استطالة الزهرات من خلال «الألف» المشتركة وهذه غريزة لغوية تلجأ إليها الشاعرة كما لا يفوتها العرام القراّني في قولها : «يداك مدهامتان «لسوزا ن عليوان رهافة إنصات لأجراس الحروف، كحرف السين في سيطرته في جملة «اليأس فأس لا تكسرنا «واللام في قولها «بلد من البلابل البالية «والصاد في جملة «لون صوف على صيف «وهلمجرا…» ثمة مناخات لبعض الصور في الجانب الروحي من اللغة فبالإضافة إلى «مدهامتان» سنعثر على دمعه تدور حول نفسها مثل درويش «وعلى «شمس من مسد «(قصيدة ما ليس بوسع بحر).
الطللية واللغة تعويذتا سوزان عليوان الخاصة. يستلزم ذلك :إنشاد بكائي يتكئ على مثيرات التذكر والشجن، وغناء ليس بالضرورة مستقيماً وليس طربياً. إنه غناء مكسور شبيه باستعادة صوت في أسطوانة مشروخة، ومحاولة لترميم الماضي كترميم إناء مكسور، يسيطر النقصان على المعاني لديها وعلى الوجود بكامله. ترى الشاعرة مولعة بذكر الأشياء ناقصة. دائماً ثمة : نصف حب، نصف عمر، نصف قمر، نصف رجل. تقول:» لنصف قمر أصفر أغني ««نصف الحكاية دمعة.. ««وجهك نصف محارة «… الخ وذروة النقصان بيت القصيدة الأخير «أحبك وأنت لا تعرف شيئاً عن عذابي «( مدينة المطر المتواصل).
الاسترسال والتناسب
يقوم الصنيع الشعري لدى سوزان على تقنية الاسترسال والاستقلال والتناسب. لناحية الاسترسال، والاستقلال، هي قادرة على كتابة قصائد في القصائد. بمعنى أن الأنفاس الطويلة لنصوصها العشرة في ديوانها تتضمن مقاطع أوشذرات شبيهة بتغر يدات يمكن أن تنفصل عن أمهاتها، وتكتفي بذاتها. وهي جمل مرسلة وكاملة : أحياناً بالصورة وأحياناً بالهندسة، وأحياناً باللغة المركبة. نستطيع أن تختار من القصيدة الأولى السطرين الأولين ليكونا قصيدة مكتفية بذاتها، تقول «أغني لعلني أولد / أغني لأنني أموت «، والاستطراد أوالاسترسال بسطرين تاليين، لا يخرج عن ملاحظة الاكتفاء «أغني كأنني لم أولد / أغني وكأننا لا نموت «… ثم إن سطراً واحداً يمكن أن يستقل بذاته «لا غربة أعمق من أن أحبك «وربما اكتقت الصورة أيضاً بذاتها، ففي قصيدة «الزهرات العواتم «تقول : «بيت المعري بين أقدامنا «وحض على التأمل الصوري :» بائساً ومبتسماً مثل ملك على دمعة ««لولا العصافير على أكتافها من يحدث التماثيل ؟ «وثمة ما يدعوللدهشة «الجلد أعمق من العظام من منا جمجمته في المراّة» وثمة أيضاً جمل متقطعة الأنفاس «صوتك يوصلني ضحكاتك تضيعني «، وثمة أسئلة محيرة «أليست الرحمة أعظم من الحب «، وصور طريفة «عشرة عصافير في اليد أصابعنا المتشتبكة / «دمعتان حتى حذائي ««بلادنا التي مثل صحراء ملء الجيوب «. ثمة حكمة «ننسى وننسى كأننا فعلاً من تراب «….. الشذرات هذه أوالتغريدات الشعرية، شبيهة بتغريدات فيسبوك معاصرة، وبالإمكان إطلاقها من قفص الديوان، كعصافير تحلق وحدها وتعيش. لكن ما يجمع شتات الجمل والصور، أوالبروق الشعرية، هوالإنسجام أوالهارموني. والهارموني إيقاع وتناسب. ليس ثمة أوزان في نصوص الشاعرة. بل تناسبات. بتعديل بسيط كان يمكنها أن تحول الجملتين الأوليين في كتابها إلى مقطع موزون على فعولن، لكن الشاعرة تكتب قصيدة نثر بلا وزن… والشعرية تأتي من التناسب وهي غير وحدة الموضوع، وغير الوزن. إنها وحدة المناخ والإيقاع.
يسهل أن نلاحظ التشتت في المحاور، (قصيدة ما ليس بوسع بحر) ولكن يسهل أن نلاحظ في الوقت عينه، التناسب والهارموني في المناخ… وعلى هذا المنوال تسترسل القصيدة في عشرة محاور متباينة، ومتاّلفة إنه جزء من تقنية القصيدة لدى سوزان عليوان.
ثمة تجارب أخرى لديها، في الصيغة، فالمبتدا في قصيدة «وحدي في الحكاية «اثنا عشر سطراً متتالية، والخبر، يأتي بمثابة تعليق على ما مر وصفه» : يا له من عمر بلا اّخر / دونك يقاس بالدموع «… ما يجعل الصنيع الشعري لديها، مغامرة، ومحاولة إضافة، مستندة إلى قاعدة صلبة من التراث، لكنها منطلقة كإشارات أسهم ضوئية في فضاء معاصر.
________
*الحياة