*هشام بنشاوي
فيلم في تمجيد الكتب والمعرفة، هكذا يمكن وصف الفيلم الأميركي-الألماني «سارقة الكتب»، الذي يخوض في معاناة معارضي الفكر النازي من الألمان، بأسلوب يختلف عن أفلام الهولوكوست؛ فألمان «سارقة الكتب» من الطبقة العاملة الذين لم يشاركوا في جرائم النازية ولم يُنظِّروا لها، ومع ذلك يعتبرون من ضحاياها. وبسبب هـذا الانزياح الإنساني والهروب من الفخ الأيديولوجي، لم يحقق الفيلم النجاح المنشود بسبب هجوم أنصار الصهيونية الذين لم يغازلهم صنّاع الفيلم، حيث تفادوا سرد الأحداث من وجهة نظر الشاب اليهودي ماكس، لأن الفيلم لا يركز بشكل مباشر على اضطهاد اليهود، وإنما يعكس صورة درامية تُذكرنا بسيرة عازف البيانو البولندي اليهودي فالديك سبيلمان، الذي أدى دوره بجدارة أدريان برودي في فيلم «THE PIANIST» لمخرجه رومان بولانيسكي عام 2002م.
يعود إذن فيلم «سارقة الكتب»، وهو من إخراج البريطاني براين بيرسيفال وسيناريو مايكل بتروني -مأخوذ عن رواية تحمل نفس الاسم صدرت عام 2005 لمؤلفها الأسترالي ماركوس زوساك- إلى ثلاثينيات القرن الماضي في ألمانيا، أي قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية. وهو من بطولة الممثلة الكندية صوفي نيلسي التي جسدت دور الطفلة ليزل ميمينجر. يبدأ الفيلم على إيقاع صوت خارجي؛ صوت ملاك الموت /الراوي، الذي يُحلِّق فوق السحب، ثم فوق قطار يَشُقّ غابة مكسوة بالثلوج، ثم نرى ليزل ذات السنوات التسع ، في مقعد القطار تغني وإلى جانبها والدتها الشيوعية المُطاردَة من النازيين، ثم ترنو في ذعر إلى شقيقها الصغير الذي لفظ أنفاسه على متن القطار، فيدفن في مقبرة وسط الثلوج، وتلتقط ليزل كتاباً وقع من أحد حفاري القبور، وهو كتاب «دليل حفاري القبور»، وتخفيه رغم أنها لا تجيد القراءة، ليكون أول كتاب تسرقه. لاحقاً تسافر مع إحدى راهبات الصليب الأحمر إلى بلدة بضواحي ميونيخ، لكي تعيش في كنف أسرة ألمانية فقيرة،و هي أسرة عامل الطلاء هانس هابرمان (جيوفري راش)، الذي يُعامِل الفتاة ليزل بحنان، بخلاف قسوة وعصبية زوجته روزا (إيميلي ووتسون).
في حياتها الجديدة، ستظهر شخصية مؤثرة في الفيلم، وهي الجار الطفل رودي (نيكو ليرش)، الذي اختارها منذ أن رآها تنزل من سيارة الصليب الأحمر أن تكون صديقته المُقرَّبة، فيمر عليها في أول صباح لها في البيت الجديد ليصطحبها إلى مدرسة تعلو جدرانها صور هتلر والشعار النازي، وفي الفصل، تتعرض للسخرية من زملائها لجهلها بالأبجدية بعدما تَبيَّن ذلك لما طلبت منها المدرّسة كتابة اسمها على السبورة. في غرفتها، تحتضن الكتاب الذي التقطته من المقبرة، والذي يذكرها بشقيقها، وتحتفظ بين دفتيه بصورته. يرى هانز الكتاب، ويؤكد لها أنهما سيقرآن الكثير، وهنا تبدأ رحلتها مع القراءة والتعلُّم في قبو البيت الذي اتخذت جدرانه لوحا لكتابة الكلمات. في المدرسة تتلو النشيد الحماسي للحزب النازي، الذي يُمجِّد العِرْقَ السامي، ويُحرِّض على نبذ اليهود وكل من يخالفهم، بينما الجنود في الشارع يحطمون واجهات المحال التجارية في خِضم حملات هتلرية للقبض على الأفراد اليهود وتهديد من يحميهم؛ فكل المنازل تُعلِّق العلم الألماني ومن لا يفعل يتهم بمعاداته للنازية.
في لحظة احتفال الناس بإعلان الحرب على أوروبا، وفيه يتم في ساحة عامة حرق آلاف الكتب التي يعتبرها النازيون مُخرِّبة لعقول الشبيبة النازية. بعد أن صارت تجيد القراءة والكتابة شعرت ليزل بالضيق وهي تتأمل ألسنة اللهب تلتهم الكتب، لذلك فقد انتظرت خلو المكان من المشاركين في حرق الكتب لتلتقط كتاباً من بين الرماد والدخان، فيشاهدها والدها والسيدة إلزا زوجة عمدة البلدة، التي فقدت ابنها الوحيد في الحرب، وهذه الأخيرة تقوم أم ليزل بغسل الملابس والأغطية لها مقابل بعض النقود، وعندما تقوم ليزل بتوصيل الملابس إلى أصحابها، تستضيفها إلزا بحنان أمومي آسر، وتطلعها على مكتبتها العامرة بالكتب، بل وتدعوها إلى قضاء وقت في القراءة والمطالعة.
ماكس فاندينبيرغ شاب يهودي في مُقتَبل العمر، فَرّ هارباً بمساعدة أحد الجيران إلى أن أدرك منزل عائلة هانس هابرمان، وما أن سأل هذا الأخير الشاب اللاهث: «هل مازلت تعزف على الأوكورديون؟»، حتى أيقن هانس بأن الشاب هو ابن صديقه اليهودي الذي أودع عنده آلة الأوكورديون بعدما أنقذه من الموت أثناء الحرب العالمية الأولى. هكذا أراد هانس رد الجميل بإخفاء ماكس داخل القبو ويطلب من الصغيرة ليزل ألّا تبوح بسرِّ الشاب المُستنجِد بهم؛ فمع بلوغ الحرب العالمية الثانية ذروتها، تبدأ حملات النازيين في تفتيش منازل البلدة بحثاً عن اليهود الهاربين. وأخذهم نحو المحرقة.
في ديسمبر 1941، الثلوج تغطي المدينة، والشاب اليهودي ماكس يشطب على صورة هتلر في الكتاب النازي، ويهديها إياه بعدما طلاه كلياً باللون الأبيض طالباً منها أن تملأ صفحاته بما يستجد في حياتها وحياة أسرتها، ثم نراها تضفي براءتها الطفولية على البيت الغارق في الذعر، وتحمل الثلج إلى القبو، وسرعان ما ينضم إليهما الأب هانس، الذي يرشقونه بكرات الثلج، ثم يصنعون رجل الثلج احتفالاً بعيد الميلاد. وعندما أصيب ماكس بالحمى، لامت ليزل نفسها باعتبارها هي السبب في ذلك، فتقرر التسلل إلى مكتبة عمدة البلدة، لتستعير منها حكايات وكتباً دون علم أصحاب المكتبة وتتلوها على ماكس المحموم.
ترى ليزل المفتشين في البلدة، ويسارع الأب إلى إخفاء ماكس تحت العلم النازي، ينجو ماكس من المفتش الذي يصرَح لهانز بأنهم يتفقدون حال القبو إن كان صالحاً للاحتماء به في لحظات القصف، لكن ما شكله وجود ماكس من خطر على الأسرة، أرغمه على ترك المكان.
في الملجأ، تتحايل ليزل على الموت بالتقسيط مثلما فعل والدها من قبل، وتقوم بسرد حكاية لكي تنتشل اللاجئين من ذعرهم، حتى أدمنوا حكاياها مع انطلاق صفارات الإنذار، ومن قبل، مارست هذا الطقس، خوفاً من فقدان ماكس المحموم، كما فقدت شقيقها، فكانت تلجأ إلى سرقة الكتب من مكتبة قصر العمدة، وإعادتها بعد الانتهاء من قراءتها، وتحاول أن تتأقلم مع خسارات أحبتها وأصدقائها – موتاً أو رحيلاً- بالانغماس في شغف الكتب، وتخيل نهايات للكتب قبل الانتهاء من قراءتها، ولأنها اعتكفت في القبو لكي تكتب في الكتاب المُهدَى إليها من طرف ماكس، الذي زرع في نفسها حب القراءة والكتابة، كانت الناجية الوحيدة من الموت في البلدة، وبقيت وحيدة في مواجهة الخراب والأطلال.
_______
*الدوحة