*د. حاتم الصكر
عاملان يلحّان على الباحث في الهيئة الخطية للرواية التي تتضمن حجمها وتوزيع فصولها وتكوينها الشكلي الذي يطالعه القارئ وهما: الهبّة العربية لكتابة الرواية في العقود الأخيرة، وتراجع الرواية القصيرة لصالح المطولات الروائية، وتضخم المدونة الروائية بأجزاء عدة وكتب متتالية.
عرفنا الرواية القصيرة في زمن ازدهار الرواية وصعودها بين أجناس الأدب وأنواع السرد، فكانت روايات غسان كنفاني والطيب صالح وإسماعيل فهد وبعض روايات نجيب محفوظ وسواهم مختزلة ومكثفة، لا يأخذ ذلك من فنيتها وجوهرها الحكائي ودلالاتها أيضاً.
وتلك ميزة تتصل بإيقاع الرواية ذاتها ووقعها على المتلقي.
الروائيون والنقاد الغربيون أيضاً يعانون من تحديد حجم الرواية، لقد حاولت الكتب المدرسية عندهم وعندنا، وكذلك معاجم المصطلحات النقدية أن تضع للرواية حدوداً تعيّن نوعها وتحدد حجمها، لكن تلك المحاولات لم تكن مقنعة في الجانب الوصفي خاصة.
أي أنها لم تتمكن من تأشير المزايا الخاصة لطول الرواية بما يميزها عن القصة القصيرة.
والواقع أن الرواية ليست قصة جرى تطويلها، فهذا مخالف لإيقاعها وبنائها السردي وطبيعة شخصياتها وتتابع أحداثها وأفعال السرد فيها.
كما أن القصة بالمقابل ليست رواية جرى تشذيبها لتصبح بهذا الحجم المتصور للقصة.
السلسلة الروائية القصيرة تقدم دار نشر (ملفل) في نيويورك سلسلة من الإصدارات الخاصة بالرواية القصيرة النوفيلّا (novella) تحديداً، وتضع لها شعاراً يلخص مهمتها في خدمة وتطوير هذا النوع السردي وهو فن النوفيلّا المعاصرة التي تصفها بأنها: «قصيرة جداً عن أن تكون رواية، وطويلة جداً لتكون قصة قصيرة»، وسنكتشف بقراءة إصداراتها أسماء روائيين عالميين كتبوا الرواية القصيرة، فهناك أعمال لهيرمان ملفل وهنري جيمس وتشيخوف وتولستوي وجيمس جويس وتورجنيف وجوزيف كونراد وفيتزجيرالد ومارسيل بروست.
والمفارقة في القائمة وجود أعمال قصيرة لروائيين عرفوا بمطولاتهم الروائية كجيمس جويس مثلا الذي اقترن اسمه بـ «يولسسيس» روايته المطولة، وكذلك هيرمان ملفل كاتب موبي دك ومثلهم تولستوي.
وضمت القائمة كاتباً فلسطينياً يقيم في لندن هو سمير اليوسفي وعمله (وهْم العودة).
وتحاول الدار عبر نشر أعمال روائيين من أزمنة وأمكنة مختلفة أن تثبت لهذا الفن جذوراً وأصولا معاصرة ولكنها متقدمة زمنياً على الكتابة الروائية الحديثة.
ويقتضي النظر إلى المصطلح أن نذكّر بعلاقته بالرواية (نوفل) وانحداره من الإيطالية في القرن السادس عشر.
ولكن بعض المعاجم و(الانسكلوبيديات) النقدية تضع له حجماً تقريبياً هو ما بين 15000 و 40 ألف كلمة ينقصها البعض إلى 20 ألفاً.
وتعد روايات مثل (الشيخ والبحر) لـ«همنغواي» و(مزرعة الحيوان) لـ أورويل ضمن هذا الفن الروائي القصير، كما يشار لبعض روايات ماركيز بكونها روايات قصيرة مثل: (ذاكرة غانياتي الحزينات) و(حكاية موت معلن) و(أيرانديرا البريئة وجدّتها).
هنا تلتمّ الحبكات الرئيسية فحسب وتتصل ببعضها بطرق موجزة تلخص أبعاد الزمان والمكان ونمط الشخصيات وأحداث السرد.
وربما تقدم أعمال كافكا مثالا جيداً للنوفيلّا المتمركزة حبكتها في حدث واحد وتفريعات تتصل به في تكثيف وإيجاز واضحين.
وبهذا نقرأ المسخ والمحاكمة من أعماله الروائية القصيرة.
النوفيلّا بالعربية وإليها وفي المكتبة العربية ثمة أعمال مؤلفة ومترجمة تنضوي تحت المصطلح، سنعرض لروايتين قصيرتين لـ«هرمان هيسه» الذي عرفناه بروايته الطويلة (لعبة الكريات الزجاجية) و (سدهارتا) وغيرهما، كما تلمَّسنا أسلوبه في الكتابة الروائية المتميزة بالعمق الفكري والقريبة من الروايات الفلسفية التي تستطرد في تقليب الأفكار الكبرى المتصلة بالموت والحرية والحب والاغتراب، ومناقشتها باسترسال يجعل منها مشهداً يجمع الحدث الروائي والرؤية الفكرية للشخصيات المنبثقة من فكر الكاتب نفسه، فتكون البنية السردية مناسَبَةً لعرض تلك الأسئلة والاهتمامات الفكرية المعمقة للإنسان المعاصر كما تنعكس عبر العينات المنتقاة في العمل.
الروايتان القصيرتان لهيسه هما: (قلب طفل) و (الصيف الأخير) وقد نقلهما إلى العربية عن الإنجليزية الدكتور ستار سعيد زويني ترجمة تعطي تصوراً كافياً عن أجوائهما وأسلوب الكاتب.
ويحس قارئ رواية قلب طفل أنها تمثل إسقاطاً من الشخصية على طفولته، فالسارد الداخلي المشارك في الحدث طفل في زمن الأحداث المستعادة عن طفولته وعلاقته بأبيه وأصدقائه، وكذلك بالأمكنة والأشياء التي تتراءى له، رغم أن زمن السرد مستعاد بعد ثلاثين عاماً، لكن الذاكرة هنا مستنفرة وتعمل بحيوية تجعلها مركزة في سنوات الطفولة الأولى.
لكن السارد يصف وعيه بالقول: «بعد ثلاثين عاماً لشد ما أرى بوضوح بئر السلم ذي النوافذ الطويلة المعتمة التي تلقي بصيصاً من الضوء على حائط البيت المجاور.
.
ما زلت أتذكر بوضوح كل المعاناة والظنون التي ساورتني خلال طفولتي الخرافية القصيّة التي يتعذر فهمها».
وإذا كان هذا التأمل للذكرى ودلالاتها مبرراً في الزمن الخارجي للسرد أي وقت استعادة الشخصية لطفولته، فإن ما سيرد على لسان الطفل يفلسف الأشياء ويسأل عن المغزى، كالقول في وصف المدرسة التي كان يضجر منها: «كل شي اجتمع ليؤلف ذلك الشعور المألوف بالخيبة والإحباط الذي يخبرنا أن الزمن لا نهائي، وبأننا سنبقى إلى الأبد صغاراً لا حول لنا تحت سطوة هذه المدرسة الغبية العفنة سنوات وسنوات وأن هذه الحياة بأكملها مقرفة لا معنى لها».
هذه التداعيات تفوق وعي الطفل الذي يتقمصه السارد بالاستعادة، وكذلك ملاحظاته عن الأمكنة التي عاش فيها وما مثلته له من دلالات وما أثارت من مشاعر.
هذه العدوانية لدى الطفل تنعكس خاصة في علاقته بأبيه الصارم الذي يدقق في أحداث حياة الطفل وعلاقاته المدرسية، كما تغدو أشياء الأب كصوته وعرفته ومكتبه وأدواته أشياء ذات إيحاء سحري يشوبه الفزع والترقب وبعض الأفكار الجرائمية كما يصفها والمتمثلة بالانتقام من العالم وفي الوقت نفسه (أتخلى عن نفسي وأدمرها) كحرق الدار أو قتل الأب.
لكنه من جهة أخرى يصف حبه للقراءة وحضور القداس أيام الآحاد، وحين يستسلم لعقوبة والده بسبب السرقة يفرح، لأنه وجد صندوقَ كتبٍ قديماً مهملا في الغرفة التي سجن فيها، فأنهى التداعيات بالقراءة.
ولم تتعين نهاية حادة أو تحولات جوهرية كما هي الحال في الرواية العادية.
الرسام في صيفه الأخير لكن روايته القصيرة الأخرى الأكثر عمقاً وتأملا هي الصيف الأخير أو كما هي في النص الأصلي (صيف كلنكسر الأخير) ويروي السارد الخارجي المراقب للأحداث أيام الشخصية الرئيسة في الرواية وهو رسام في الثانية والأربعين، يعتزل العالم ليرسم ويلتقي أصدقاءه بين حين وآخر، لا سيما الشخصية العبثية لويس الذي يأتي فجأة من ضياعه وتشرده حاملا عدة الرسم على ظهره، متجولا في الأرياف.
ولما كان الرسامان صديقين فهما يتصارحان بشأن الأشياء التي حولهما شيئا.
يقسم هيسه الرواية إلى فصول قصيرة تناسب قصر الرواية ذاتها، ويضع لها عناوين داخلية يترك في بعضها الرسام كلنكسر يدير السرد ويستعيد فقرات من ماضيه قبل أن يستسلم للضعف ويموت متوقعاً ذلك في قصيدة يرسلها إلى صديق فيقول: «غدا، غدا سيقطع الموت الشاحب/ لحمي الأحمر بمنجله المجلجل/إني منذ زمن بعيد أعرف/ أن خصمي الجبار يكمن متربصا/يكمن في انتظاري/.
.
والآن أجلس مساء أشرب/ وأنتظر خائفاً/ حتى يفصل المنجل البارق رأسي/عن قلبي الوثّاب».
ولما كان إطار السرد يتصل بالرسم، فقد احتشدت الرواية بالألوان.
يحس القارئ أن العمل لوحات متتالية: من الطبيعة ومناظرها أو من البورتريهات الشخصية التي يصف السارد من خلالها الشخصيات وطبائعهم.
كما تتوالى الملاحظات حول الرسم نفسه لا سيما حين تتبدى مشاهد الطبيعة ومناظرها، حيث يتجول كلنكسر مع أصحابه، فتدله الطبيعة المتلونة المرائي والبالغة الجمال على أن رسمها لن يكون مكافئاً لما تتضمنه وتوحي به، فيصارح نفسه وصديقه: «بأننا نرسم فقط لعدم وجود شيء آخر أفضل لكي نفعله.
للطبيعة عشرة آلاف لون ونحن وضعناها في أذهاننا فقللنا طيف الألوان إلى عشرين فقط».
وعن صلة الرسم بالواقع يتحدث الرسام عن الرسم المعاصر معترفاً: «إننا ما زلنا نرسم أشياء الواقع.
.
يسمي البرجوازيون هذه الأشياء واقعية تلك التي يراها كل الناس ويصفونها وصفاً متقارباً بالطريقة نفسها».
تقوم الرواية القصيرة هنا بتحديد موضوعها ولا تتجاوزه، فحتى الوصف مقدم بطريقة تشكيلية.
تركيز على الألوان في كل مكان وزمان واستطراد في ربط الطبيعة اللونية للأشياء بالشعور المسلط عليها.
تلك رواية فلسفية تغتنم قصرها لتجعل الأحداث والحوارات متوترة ومستفزة.
تلك أمثلة لإمكان مناقشة أكثر القضايا تعقيداً عبر التكثيف الذي لا يجعل الرواية ملحمة واسعة الأرجاء يضيع فيها الكثير ويُنسى ولا يُلتفت إليه.
_______
*الاتحاد