«الإخوة كارامازوف» مصائر متقاطعة ومشتركات إنسانية



*محمد سيد بركة

رواية «الإخوة كارامازوف» للأديب الروسي فيودور دوستويفسكي عمل أدبي فني كامل، ونص أدبي حين نضعه في خانة التراث الإنساني، من ضمن الأعمال الإنسانية الخالدة مثل كوميديا دانتي و«الفردوس المفقود» لملتون وتراجيديات شكسبير و«الحرب والسلم» لتولستوي.

عالجت «الإخوة كارامازوف» كثيراً من القضايا التى تتعلق بالبشر، كالروابط العائلية وتربية الأطفال والعلاقة بين الدولة والكنيسة وفوق كل ذلك مسؤولية كل شخص تجاه الآخرين، في مصائر متقاطعة للشخصيات ومُشتركات إنسانية في الحياة.
منذ إصدارها، رحب جميع المفكرين في أنحاء العالم بهذا العمل؛ كسيجموند فرويد، وألبرت إينشتاين، ومارتن هايدجر، وبينيدكت السادس عشر باعتبارها رواية من الإنجازات الكبرى في الأدب العالمي.
وصية أدبية
كانت «الإخوة كارامازوف» آخر عمل كبير خطّه قلم دوستويفسكي قبل رحيله في أوائل الشهر الثاني من العام 1881، أي بعد أسابيع قليلة من نشر آخر فصول الرواية في مجلة «الرسول الروسي»، وكانت أشبه بوصية أدبية وانسانية لهذا الكاتب، وأكثر من هذا تكثيفاً لكل أدبه وملخصاً لكل الأفكار التي دارت في رأسه حول الإنسان والدين والإيمان، والخير والشر.
كل أدب تيودور دوستويفسكي منذ البدايات وحتى «الإخوة كارامازوف» موجود في تلك الرواية الأخيرة، بقلقه وأسئلته وحنانه وقسوته، ودقة تصويره للصراعات لدى الانسان، ناهيك بعمق تصويره للعلاقات البشرية، ليس كما كانت تتجلى في زمنه، بل كما تتجلى منذ فجر البشرية.
تقاطع مصائر
الناقد الروسي ألكسندر سولدفييف، حين كتب في تقديم لإحدى طبعات هذه الرواية قال: «لقد أعطانا دوستويفسكي في رواية (الإخوة كارامازوف) خلاصة أدبه وفنه.
ففي هذه الرواية نجد التعارض الذي رأيناه في رواية (المراهق بين الأب والابن)، ونجد الصراع الذي رأيناه في رواية (الشياطين بين الإيمان والكفر)، ونجد هيكل ما رأيناه في رواية (الأبله) من شخوص ومن تنافس بين غريمين: وقد كان اسم اليوشا في مسودة (الإخوة كارامازوف)، في (الأبله) وجروشنكا في الرواية تذكر بآناستازيا في (الأبله) أيضاً.
أما ديمتري فيكاد يكون راسكولنيكوف في (الجريمة والعقاب)، وسمردياكوف هو هو فومافومتش في (قرية ستيباتتشيكوفو)، والمشكلة المطروحة في حلم المفتش الكبير في (الإخوة كارامازوف) هي نفسها المطروحة في قصة (الجارة) التي كتبها دوستويفسكي في مطلع شبابه». فيما اعترف الفيلوسوف الألماني المعروف فريدريك نيتشه أن دوستويفسكي كان بالنسبة له السيكولوجي الوحيد الجدير بأن يتعلم منه.
شخصيات مُتعددة
تبدأ الرواية بفصل قصة أسرة صغيرة بمدينة بالأرياف؛ الأب فيودور المتصابي الفظ الكاذب المهرج، والشهواني، الجانب الشيطاني من الإنسانية ينجب من زوجته الأولى والتي تفوقه قوة، ابنه ديمتري الشيزوفرينيا الإنسانية في أبلغ وصف لها، شموخ الضباط، وتصابي العشاق، جموح الرجل.
وتعنت الطفل، ثم يرزق الأب من زوجته الثانية الهستيرية بطفلين؛ ايفان الفيلسوف المثقف الوجودي الواثق المتشكك القريب البعيد، والثالث الكسي «ايليوشا»؛ البراءة والطيبة والجمال المتمثل في الحب، النار التي تضيء المكان وتجلب إليها باقي الشخصيات.
ثم أخيرا سميردياكوف الابن غير الشرعي للأب من متشردة مجنونة والمصاب بالصرع، استخدمه دوستويفسكي كمرآة تكشف ذوات باقي الشخصيات وتعريهم أمام أنفسهم، الإبرة التي تثقب مثاليتهم وتظهر الكاريكاتير المشوه لدواخلهم.
وبين أطراف هذه الشخصيات الرجالية تظهر غروسشنكا المرأة العاهرة في نظر البعض والملاك في نظر الآخرين، والكل في النهاية يتصارع لنيل رضاها وينتهي هذا الصراع بجريمة قتل يذهب الأب ضحيتها ويتهم بالجريمة ديمتري الابن الأكبر.
ويعلل هذا الاتهام بالباعث وهو حرمانه من الإرث ومحاولة أبيه أن يخطف حبيبته ويفهم من سياق الرواية أن القاتل قد يكون أيضا سميردياكوف لكن المحاكمة تنتهي بنهايتها الواقعية ويترك الحكم الفعلي للقدر وللقارئ.
صراع اجتماعي
أبطال الرواية من عائلة واحدة: الأب العجوز فيدور بافلوفتش كارامازوف، عجوز فاجر وسافل، غاية آماله أن يعيش لأطول فترة ممكنة حتى يعربد ويفسق دون وجود أي رادع يستطيع إيقافه، أنجب ثلاثة أبناء من زوجتين لم يقم بتنشئتهم وتربيتهم، أما الابن الأكبر ديمتري، فهو شهواني مثل أبيه، تقوم بينه وبين أبيه نزاعات مالية حول إرث الابن من أموال والدته، ثم يدور بينهم صراع اجتماعي قاسٍ وعنيف حول امرأة يتنافسون عليها.
والابن الثاني إيفان كارامازوف، وهو مفكر عتيد وملحد، يفضل الدخول في نقاشات فلسفية حول الدين والأخلاق مع أخيه الصغير، أصغر أبناء كارامازوف، ويدعى أليوشا، الذي هو النقيض لإيفان.
الناقدة الأولى
في مقدمة العمل لأول مرة يهدي المؤلف كتابه هذا إلى شخص ما، وجميع الأعمال السابقة لم يظهر فيها أي إهداء، باستثناء هذا العمل الأخير الذي كتب المؤلف في مقدمته: إلى آنا جريجورريفنا دوستويفسكي، ويهدي المؤلف هذه الرواية التي شكلت التاريخ المفصلي في حياة الكاتب إلى زوجته الثانية.
وهي إلى ذلك، لا تستحق هذا الإهداء فحسب، بل إن هذا العمل لم يكن ليظهر لولا دعمها المطلق واللانهائي للمؤلف في أسوأ مراحل حياته.
عاشت معه في الغربة والوطن في حالة من السقوط المالي والاجتماعي، ثم ارتفعت معه إلى المجد. هي الناقدة الأولى والقارئة الأولى، ولا يمكن للمؤلف معرفة عمق تأثير ما يكتبه إلا إذا شاهد دموعها تتساقط وهو يكتب ما يلقيه عليه زوجها المؤلف. ثم بعد الإهداء، ولأول مرة كذلك يكتب المؤلف مقدمة لروايته.
المقدمة عادية ولا يوجد فيها ما يستحق الذكر، وأظن أن المؤلف كتبها بعد نهاية الرواية، ويخاطب المؤلف قارئه بالاستئذان بتقديم بطله للجمهور، أو كما يدعوه ببطل روايتي، وهو الابن الأصغر المؤمن، أليوشا فيدور كارامازوف، لكن لماذا لم يختر إيفان بطلا لروايته أو ديمتري أو أي شخص آخر؟ لماذا هو بالذات؟
هناك من يقول إن أليوشا يمثل حالة الخلاص للمؤلف، الحالة التي وجد فيها السلام بعد مراحل صاخبة وعنيفة كانت ثمارها المرحلة الرومانسية، وهو ما قد يظهر على شخصية ديمتري، والمرحلة الثانية بما تمتاز من نشاط فكري، وهي التي قادت المؤلف نحو الاشتراكية.
ثم المرحلة الثالثة، التي يمثلها أليوشا المؤمن الجميل، باتجاهه نحو الإيمان والأرض الروسية.
سياسة وفكر
كاتب الرواية دوستويفسكي تخرج في كلية الهندسة، لكنه لم يلتحق بالوظيفة، إذ لمس في نفسه أنه أديب بالفطرة، وانضم إلى ما يسمى بالمدرسة الطبيعية وهي التسمية التي اصطلح آنذاك على إطلاقها على أدباء الاتجاه الواقعي. ثم توالت بعد رواية المساكين اعمال الكاتب الأخرى.
كما تأثر بأفكار الفيلسوف الفرنسي شارل فورييه الاشتراكية ودعواته إلى تغيير المجتمع، وانضم دوستويفسكي إلى جماعة شبه سرية. وتمكنت الشرطة من تتبع الجماعة حتى ألقت القبض على اعضائها عام 1849. وحكم على دوستويفسكي بالإعدام، لكنه في آخر لحظة وقبل تنفيذ حكم الإعدام بحقه صدر مرسوم قيصري يقضي باستبدال الإعدام بأربعة أعوام من الأعمال الشاقة في مقاطعة أومسك بسيبيريا.
وعايش دوستويفسكي عمليا وهو واقف على منصة الإعدام ويتدلى فوق رأسه حبل المشنقة، عايش طقوس تنفيذ حكم الإعدام التي ظلت تلازمه طوال حياته، وقد وصف هذا المشهد الرهيب في روايته. كما وصف حياته وهو يقضي حكم الأعمال الشاقة في كتابه «ذكريات من منزل الأموات». وعلاوة على ذلك التحق بالخدمة العسكرية جنديا في سيبيريا.
ولم يتمكن الكاتب من العودة إلى الحياة الطبيعية وممارسة نشاطه الادبي بحرية الا بعد وفاة القيصر نيكولاي الأول، ساعد دوستويفسكي شقيقه ميخائيل في إصدار مجلة أطلق عليها «الزمن»، وبعد إغلاق تلك المجلة أعيد إصدارها تحت عنوان «العصر»، ونشر دوستويفسكي بهاتين المجلتين مؤلفاته «ذكريات من منزل الأموات» و«مذلون ومهانون» و«رسائل من القبو السري».
حياة العربدة
قام دوستويفسكي في مطلع ستينيات القرن التاسع عشر بزيارة البلدان الغربية، حيث شغف بلعب القمار، ما جعله يواجه دوماً حاجة ماسة إلى الأموال واضطره إلى عقد صفقات غير عادلة مع اصحاب النشر والطباعة لإصدار رواياته.
ومن أجل الإسراع في كتابة روايته الشهيرة «الجريمة والعقاب» عقد دوستويفسكي اتفاقاً مع كاتبة شابة اسمها آنا سنيتكينا التي تزوجها فيما بعد، وقامت سنيتكينا بتسيير الأمور المالية لزوجها ودافعت عن حقوقه لدى نشر روايته الجديدة مما ساعده في الحصول على مبلغ لا بأس به مقابل عمله الأدبي.
وتعهد دوستويفسكي مقابل ذلك لزوجته بأن يقلع عن لعب القمار، وعاش الأعوام الثمانية الأخيرة من حياته في مدينة ستارايا روزا بمحافظة نوفجورود بشمال غرب روسيا. وتعد هذه المرحلة مثمرة في نتاجه الأدبي حين أبدع روايات «الشياطين» عام 1872 و«المراهق» عام 1875 و«الإخوة كارامازوف» عام 1880.
مجد أدبي
ولد فيودور دوستويفسكي عام 1821 بموسكو، انبهر بالطموحات المثالية للكاتب الألماني شيلر، وأحب روايات ديكنز وكانت قريبة إلى نفسه تعرية التناقضات الاجتماعية في أعمال بلزاك الذي ترجم له دوستويفسكي رواية «أوجيني جراندي» قبل عامين من إصداره لأول عمل أدبي هو رواية «المساكين» عام 1846.
وذاع صيته في روسيا كلها وخاصة بعد إلقائه كلمة مشهورة في مراسم افتتاح تمثال الشاعر الروسي العظيم إلكسندر بوشكين في موسكو. لكن المجد الحقيقي وأكاليل الغار نزلا عليه بعد وفاته عام 1881، إذ مشى في جنازته ثلاثون ألف شخص تقريباً، وعم الحزن روسيا كلها، وانكب العالم على رواياته.
في السينما العالمية
1958
التبني السينمائي لرواية «الإخوة كارامازوف» كان مغامرة شاقة نجح في إنجازها كفيلم سنمائي المخرج الأميركي ريشارد بروك 1958 بسبب تعقد تركيبها وتعدد شخصياتها الرئيسية، وكل شخصية في تعقدها وعالمها الخاص والمختلف، من كل نواحي تكوين الشخصية الإنسانية في تشابكها المرير وبالتالي قدرها الإنساني.
وتمكن من تكثيف الرواية الطويلة جداً واختصارها بشكل سينمائي ذكي وملخص لفكرة المؤلف، وهو من قلة المخرجين الذين تخصصوا في نقل الأعمال الأدبية الرائعة إلى الشاشة، والفيلم من بطولة الممثل الروسي الأصل يول براينر.
في السينما العربية
1974
«الإخوة الأعداء» فيلم مصري من إنتاج عام 1974، مقتبس من «الإخوة كارامازوف»، وهو من بطولة نادية لطفي، حسين فهمي، ميرفت آمين، نور الشريف، ومحي إسماعيل، الذي لعب دور شاب مصاب بالصرع، وفي حادثة غير مسبوقة تمكن الوجه الجديد من انتزاع الجائزة من نجوم السينما المصرية حيث نال 11 جائزة من بينها جائزة مهرجان طشقند السينمائي الدولي.
كما فوجئ بطلب الرئيس الراحل السادات للقائه. كتب السيناريو والحوار الدكتور رفيق الصبان ونبيهة لطفي، وأخرجه حسام الدين مصطفى.
_______
*البيان

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *