* ربيعة المنصوري
( ثقافات )
كيف يمكن لهذا الصباح أن يُجدد أنفاسه تحت وطأة الظلام المنبعث من كل الأركان ؟ أمشي ألهوينا ، أعانق الخراب الممتد حولي ، أقرأ الحرمان وبقايا الظلم الساكن في الوجوه التي تقاطع خطواتي ….. أنفذ بسكون داخل العيون الحزينة المليئة بأكياس الجرأة المنبعثة من دخان نيران ملتهبة يحرص اليهود على نصْبِها في كل جنبات غزة الشامخة …. هكذا وجدتُ نفسي اليوم أقطع الطريق إلى مدرستي الخراب ، وأنا أوزع نظراتي على كل ما يحيط بي من بقايا المنازل والدكاكين ، حتى بقايا الناس ….. غمرني اليأس ووجَدتْ دموعي المنحبسة في البيت حريتها فسقت وجهي في كرم كبير ….. كيف يمكن لهذا الشتات أن يُجْمع ؟ بل كيف يجب أن نواجه هذا الإسرائيلي الحقير الذي يُحول كل أفراحنا أحزانا وكل أطفالنا أمواتا وكل رجالنا أسرى ؟ …. دخلت المدرسة في ذهول فقد تحولت مع القصف الذي دام أسبوعا إلى بناية متآكلة آيلة للسقوط في أية لحظة ….موت مُرٌ كان يغلف الجدران والأبواب…. فتحت باب القسم أو لعله كان مفتوحا….. دخلت محرابي الذي قضيت فيه عمرا طويلا من الجد والحرص على تحويل عقول صغيرة من دائرة اللعب إلى عوالم الحروف المضيئة…. هنا تعلم أطفال غزة كيف يكتبون الأبجدية ، هنا تعلموا القرآن واللغة العربية ……هنا تفتحت عيونهم الصغيرة على ثقافة الآخر وسياسة المستبدين ، كنت أعلمهم تاريخ الأمة العربية وأحرص على تتبع خطوات المنتصرين ، كنا نقف عند أبطال النصر القريب ، نتأمل الشجاعة القوية واليقين العميق ، هنا كنت أعمق وطنيتهم الفتية وأربط خيوطهم الواهنة بحب الأقصى وعشق نسيم الصلاة في أركانه دون أن يقف اليهود خلف أبوابه الكثيرة ، انتبهت إلى صورة الأقصى التي كنت أحتفظ بها فوق مكتبي فلم أجدها …..فمكتبي مُحطم ودفاتري مختفية تحت أكوام التراب ، مسطرتي الخشبية التي كنت أستعملها في تتبع الكلمات على السبورة لازالت هنا … كم كان صغاري يستقيمون لرؤيتها ، فمنظرها كان مُخوفا لهم … الكراسي الصغيرة فارغة ومحطمة …. صغاري ليسوا هنا … ليلى…حسام…أحمد وإياد … الجميع في بيوتهم يسترقون السمع فأصوات المدافع والبنادق تصاحب النهار أيضا ….شجرة الزيتون التي تلف النافدة بأغصانها الشائكة لا تزال هنا تقارع اليهود بجذعها الموغل في حنايا الأرض المباركة ، تأملتها في انبهار لعلها الوحيدة الشاهدة على عمق الألم الذي يقتل أحاسيسي ، تنصهر داخلي لتتحسس الجرح الغائر ، أبكي بحرقة….
عندما تتحول الآلام إلى عناوين لمقالات صحفية وتأخذ صور الفجيعة لوحات تعرض على كل الشاشات وتستمر الأشعار والروايات والخطب في رصد أولى لمسات القتل والقمع …نقرر نحن أبناء هذا التراب الزكي أن نعيش دون أي عطف مؤقت …… أركب زمني المخيف وأخرج من قسمي المحطم الجدران ، أنزلق داخل الشارع الخلفي وأنا أتأمل مشاهد القتل المدمر … أكيد أن الضوء لن يغمرنا بنصره إلا إذا استمررنا في مواجهة هذا العدو البئيس …..استوقفني وجه صغير هب لمعانقتي ، ابتسامة عريضة حركت أفئدتي وأيقظت أركاني المتهالكة ….سيدتي…سيدتي هل أنت هنا ؟
ـ نعم أيها الحبيب ( لقد كان أحد تلامذتي) لماذا أنت هنا ؟
قال بصوت متقطع : لقد قتل اليهود أحمد ….
ـ كيف …. ماذا تقول … أحمد ….
ـ نعم سيدتي لقد قتلوه البارحة…. كان معنا في الحارة وأطلقوا عليه الرصاص….
صرخت بقوة ….. كان الصغير لازال يحكي قصة أحمد مع اليهود لكني لم أكن أسمع شيئا ، فقط صورة أحمد الجميلة أمامي وهو يكتب بأنامله الصغيرة ويجيب على أسئلتي…لماذا قتلوه ؟ أي جريمة ارتكبها أحمد ؟ أي ذنب أقترفه هذا الطفل البريء…. لا شيء… لا شيء سوى أنه طفل فلسطيني يسكن غزة…..
بدَت الطريق مظلمة أمامي وعجزت قدماي عن متابعة السير….
سؤال ألقاه تلميذي الصغير في وجهي، لكني لم أجد له جوابا…. المدرسة…. العودة….أحمد…الرصاص… لست أدري….
شيء ما كان يدفعني إلى البقاء في الشارع ، لم أعد أرغب في العودة إلى بيتي حيث أجلس الساعات الطوال أحلم بمدرستي ، بتلاميذي …بمتعتي الخاصة…. لقد فقدت كل شيء…حطموا المدرسة واغتالوا أحمد ….. مشيت أبحث عن كل ما أخذوه مني، مشيت أبحث عن نفسي التائهة وسط الدمار، شيء ما كان يحرك مشاعري الحزينة نحو عيون الناس، صرخات مكتومة كانت تغلف النظرات، ونبرات التحدي الصارخة كانت ترافق همسات الموجوعين….. هذا الليل سينجلي ….وهذه الحرب ستنتهي حتما وسننتصر بفعل أجساد اختارت الرفيق الأعلى وانتسبت إلى دماء معطرة برحيق الجنة… سيأتي الفجر الموعود ونحن نمشي على جراحنا للوقوف في وجه اليهود …. وفي الانتظار سأرجع إلى مدرستي وستبقى جدرانها المتآكلة خير شاهد على صفحات بقائنا وسط أهوال النيران الملتهبة …. سيتعرف الصغار على كل تاريخنا النظيف وسيكتبون بدم أحمد الشهيد أوراق النصر الآتي…. غدا…..
________
• كاتبة من المغرب